السودان: جيش أنجب ميليشيا وحرب أهلية تدار بإسم السيادة والتطبيع

قسم البحوث والدراسات الاستراتجية الامنية والعسكرية 01-11-2025
الحرب الأهليّة في السودان ليست سوى مرآة مكسورة تعكس كلّ التناقضات التي ظلت تتراكم داخل جسد الدولة منذ أن ثورة ديسمبر، وتحولت من أفق للتحرر الشعبي إلى مشروع للانقضاض عليه باسم “الانتقال”.
إنّ القول بأنّ ميليشيات الدعم السريع والجيش وجهان لعملة واحدة، ليس شعارا بل حقيقة بنيوية، لأنّ الأولى خرجت فعليا من رحم الثانية، من صلب المؤسسة العسكرية ذاتها، حين عمد نظام عمر البشير إلى تفريخ أذرع مسلّحة موازية داخل جسده القمعي لضمان الولاء الشخصي، فكانت “قوات الدعم السريع” امتدادا لتلك البنية الإسلاموية العسكرية التي غذّتها الحركة الإخوانية منذ انقلاب 1989.
لقد أدرك البشير مبكّرا أن الجيش، رغم اختراقه الكامل من قبل الإخوان، يبقى مؤسسة قد تفرز طموحات انقلابية داخلية، فاستعاض عن الثقة بالمؤسسة بـ”الثقة بالأفراد”، فأنشأ ميليشيات قبلية خاضعة لولائه الشخصي، ثم دمجها لاحقا ضمن الأجهزة الرسمية.
وهكذا، خرجت “الدعم السريع” من رحم الجيش، وتغذّت من خزينة الدولة وسلاحها، وتورطت مع الجيش في كلّ جرائم النظام السابقة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق.
إنها لم تكن جيشا موازيا بل جيشا داخليا داخل الجيش، حتى لحظة الانشقاق التي لم تكن سياسية بقدر ما كانت اقتصادية وسلطوية، حين اشتد الصراع حول الذهب، والموانئ، والتحكّم في السلطة بعد سقوط البشير.
لقد سقط رأس النظام ولم تسقط منظومته، فبقي الإخوان متغلغلين في مفاصل المؤسسة العسكرية والأمنية، يوجّهونها من وراء الستار، كما ظلّت شبكاتهم المالية والإدارية تدير التحالفات وتعيد تموضعها بين الجيش والدعم السريع.
ومن هنا فإنّ الحرب الدائرة اليوم ليست حربا بين “وطنية” و”خيانة”، بل بين جناحين من نفس الجسد الذي صنعته الحركة الإسلاموية لتحكم به السودان ثلاثين عاما. كلا الطرفين ارتكبا الانقلاب ضدّ المسار المدني الذي أرادته الثورة، وكلاهما مسؤول عن تفجير هذه الحرب العبثية التي تدار باسم “السيادة” بينما تموّل وتدار فعليا من الخارج.
فالجيش وجد دعما واضحا من القاهرة التي ترى في البرهان حليفا استراتيجيا يضمن لها بقاء النفوذ المصري في وادي النيل ويقف ضدّ تمدد إثيوبيا في ملف سدّ النهضة، بينما فتحت أبو ظبي قنواتها مع حميدتي الذي تحوّل إلى أداة اقتصادية وأمنية تخدم مصالحها في البحر الأحمر وفي السيطرة على تجارة الذهب السوداني.
أما واشنطن والكيان الصهيوني فاختارا البرهان، لأنّ الأخير قدّم نفسه منذ البداية كـ”بوابة التطبيع” الجديدة في إفريقيا.
فمنذ لقائه العلني بنتنياهو في عنتيبي سنة 2020، ثم اتصالاته المتكررة بالمسؤولين الصهاينة برعاية أميركية، ظهر البرهان كـ”رجل المهمات القذرة” الذي يسهّل دمج السودان في محور التطبيع، مقابل وعد غربي برفع اسمه من قائمة الإرهاب ودعم سلطته العسكرية.
لكنّ التطبيع، كما في كلّ البلدان التابعة، لم يكن سوى غطاء لتكريس التبعية السياسية والاقتصادية، إذ صار السودان ورقة في يد واشنطن وتل أبيب لتأمين البحر الأحمر ومنع أي نفوذ صيني أو روسي في الموانئ السودانية.
وهكذا، تداخلت الأجندات الدولية والإقليمية حتى صارت الحرب الأهليّة الحالية حرب وكلاء بامتياز: مصر تحمي حدودها ونفوذها عبر دعم البرهان، الإمارات تدير شبكاتها عبر حميدتي، إثيوبيا تراهن على إضعاف الجيش لتكريس سيطرتها المائية، الكيان الصهيوني يبارك استمرار الفوضى لأنها تضمن له اختراقا استراتيجيا في قلب إفريقيا، والولايات المتحدة تمسك بالخيوط لتوازن بين الجميع وتمنع أي انتصار حاسم يمكن أن يهدد مصالحها.
وسط هذا الخراب الشامل، يتواصل نزيف السودان، بينما القوى المدنية الثورية التي فجّرت انتفاضة ديسمبر جرى تهميشها أو سحقها، لأنّ النظام القديم أعاد إنتاج نفسه بوجوه جديدة.
فالبرهان الذي يتحدث عن “حماية الدولة” هو نفسه الذي ذبح حلم الثورة في مجزرة القيادة العامة، وهو نفسه الذي التقى نتنياهو في الخفاء وأعلن الولاء للبيت الأبيض، وحين خسر السيطرة على الشارع لجأ إلى الجيش لتأبيد سلطته.
أما حميدتي، الذي يدّعي الدفاع عن الشعب، فهو وريث نفس النظام الذي صنعه، يتغذّى من نفس اقتصاد النهب والذهب والدم.
كلاهما يعيدان إنتاج الاستبداد بأدوات مختلفة، يلبسان ثوب الوطنية ويعملان في خدمة محور إقليمي يرى في السودان مجرد معبر للمصالح لا وطنا للناس.
الحرب الدائرة ليست بين جيش وميليشيا، بل بين نظام قديم يموت ببطء وشعب لم يمنح فرصة الحياة بعد. وكما كتب فرانتز فانون في “معذّبو الأرض”:
“حين يستبدل المستعمَر المستعمِرَ بآخر، يظلّ الاستعمار قائما بأشكالٍ جديدة.”
وهذا ما يحدث اليوم في السودان: استبدال البشير بالبرهان، والجيش بالدعم السريع، مع بقاء الكفّة مرهونة للخارج. لا خلاص للسودان إلا حين يكسر هذا الثنائي العسكري البشع، الإسلاموي الذي يختطف البلاد لصالح المال والنفوذ، وحين تستعيد الجماهير زمام مصيرها من بين أنياب الطغاة المحليين والمستعمرين الجدد الذين جعلوا من الخرطوم ساحة لتقاطع المشاريع لا لعمران الوطن.



