الرئيس الصيني شي جينبنغ يطلق مبادرة الحوكمة العالمية من أجل العدالة الإنسانية لعالم جديد

إعداد الدكتورة بدرة قعلول: رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية 15-09-2025
التقديم:
أطلق الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال اجتماع “منظمة شانغهاي للتعاون بلس” المنعقد في مدينة تيانجين شمالي الصين في يوم 01 سبتمبر 2025، مبادرة جديدة تحت عنوان “العمل المشترك من أجل حوكمة عالمية عادلة”.
المبادرة جاءت في لحظة تاريخية عالمية فارقة تتسم بتسارع الاحداث العالمية وبتصاعد التوترات الدولية وتفاقم التحديات العابرة للحدود المربكة للإستقرار الدولي والمتعسفة على الإنسانية، لتعكس محاولة صينية لإعادة صياغة قواعد لعبة النظام الدولي وإيجاد بدائل أكثر عدلاً وإنصافاً للنظام القائم المبني على الوحشية الامبريالية وعلى هيمنة الطرف الواحد المتغطرس.
فالصين والقوى الدولية الحرة اليوم تتفق على نظام عالمي جديد يسوده العدل والحوكمة وتعدد القطبية العالمية وانهاء النظام الامبريالي المتوحش الذي تهيمن عليه قوى محدودة منذ عقود، والذي أصبح محل تشكيك دولي وضاقت كل الدول المستقلة والمحترمة ذرعا من هذه التهديدات المتتالية والمتصاعدة بل أصبحت الإنسانية تنادي بالخروج من مظلة الطرف المتوحشة والمهيمن حتى وصل البعض بتصنيف هذا النظام بالمافيا العابرة للقارات الناهبة للثروات وصانعة الإرهاب الدولي.
مضمون مبادرة الحوكمة العالمية للرئيس شي جينبنغ وأهدافها
تُعد مبادرة الحوكمة العالمية رابع مبادرة كبرى يطلقها فخامة رئيس جمهورية الصين الشعبية شي حين بينغ بعد مبادرات التنمية العالمية، والأمن العالمي، وحوار الحضارات العالمية.
مبادرة الحوكمة العالمية والعدالة العالمية هي مبادرة تمثل امتداداً لرؤية بكين لبناء نظام دولي متعدد الأقطاب يقوم على التعاون والشركات المتبادلة والمتعادلة مهما كان حجم الدولة فالمبادرة ترمن بأن لكل دولة سيادتها الوطنية ويجب احترامها بعيدا عن الإملاءات والهيمنة وسرقة ثرواتها، كذلك المبادرة مبنية العدالة في توزيع الفرص والموارد بين الشمال والجنوب.
ما هي مبادئ الحوكمة العالمية؟
وتقوم المبادرة على خمسة مبادئ رئيسية:
المساواة في السيادة:
أكد الرئيس الصيني في خطابه ضمن اعلانه لمبادرة الحوكمة العالمية والعدالة أن جميع الدول، بغض النظر عن حجمها أو قوتها، يجب أن تتمتع بحقوق متساوية في صنع القرار الدولي، وأن تُلغى الممارسات التي تحتكر فيها قوى بعينها إدارة الشؤون العالمية.
سيادة القانون الدولي:
شددت بكين على أن ميثاق الأمم المتحدة يجب أن يكون المرجعية العليا، وأن يُطبّق بشكل موحّد دون معايير مزدوجة أو فرض قوانين داخلية على المجتمع الدولي. فالممارسات الحالية للقانون الدولي قد أفقده مصداقيته ونزاهته، بل أصبح القانون الدولي، تتلاعب به قوى مهيمنة ومتغطرسة وتعتمد مبدأ “الكيل بمكيالين” بل وقد تسببت بإنهيار دول وإدخالها في متهات الحروب الأهلية وانهيار الدول واعتماد مبدأ التدخل في الشؤون الداخلية وزرع الفتن، كما تجبر دولا على الانصياع لقوى مهيمنة من دون أية عدالة ولا احترام لمبدأ السيادة والإستقلال، بل وبتمييز وعنصرية قد فاقت الحدود وتجاوزها التاريخ والجغرافيا، ولهذا يقترح الرئيس شي ضمن مبدأ الحوكمة العالمية تطبيق القانون بعدالة وخاصة بحوكمة عالية تنصف الضعيف قبل القوى ورجوع هيمنة القانون والاعتماد عليه دوليا ضمن العدالة الإنسانية.
التعددية الحقيقية:
تعلم بكين جيدا خلفيات السلبية والخطيرة لما يسمون أنفسهم النوادي المختصة وتعلم بكين أن تلك النوادي هي فخاخ يدخلها المجبرون من قادة العالم ليصبحوا منخرطين فيها ويطبقون تعليماتهم ولهذا أشار الرئيس شي الى مثل هذه النوادي، وكذلك أشار الرئيس الصيني الى رفضه ورفض الصين الى “الأندية المغلقة” مثل مجموعة السبع، التي تحدد مصير العالم ومصير الشعوب الحرة فهم منغلقون ليتآمروا وليبقوا هم من يهيمن ويصدرون القرارات على العالم وطبعا هذا التصرف للقوى الإستعمارية والتي تاريخها استعماري عدواني لن تكون قراتراتها لصالح الإنسانية والعالم بل في هذه النوادي المغلقة تنصب الفخاخ وتحاك المؤامرات وبهذا قد نادي الرئيس الصيني ضمن مبادراته على ضرورة إشراك الدول الصاعدة والنامية في القرارات العالمي، فهذا حقهم المشروع.
محورية الإنسان:
وضمن أغلب مبادراته سعى الرئيس شي جين بينغ على التأكيد على أهمية الإنسان بل أكثر من ذلك فشي يهتم بالإنسان كمحور للكون والشعوب هي محور لدولها، وبالتالي محورية الإنسان والشعوب يحتل أهمية خاصة في مبادرة الرئيس شي فلقد ربطت مبادرته بين الحوكمة العالمية والتنمية الإنسانية. مبادرة الحوكمة العالمية التي دعا اليها رئيس جمهورية الصين الشعبية تؤكد على أن الغاية النهائية هي تحسين حياة الشعوب وتعزيز رفاهيتها، وخاصة إحترام المبادئ الإنسانية التي تقوم على العدالة وحق الإنسان في العيش الكريم.
العمل الفعلي
ومن أهم نقاط المبادرة هو الانتقال من الخطابات إلى مشاريع ملموسة، وإلى إصلاح الهياكل المالية العالمية والتعامل مع قضايا ناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، وخاصة حق الدول مهما كان حجمها للحصول على التكنولوجيا الحديثة والعمل على التنمية من خلال استعمال مواردها الذاتية وعلى الدول المتقدمة ان لا تمنعها من اكتساب هذه التكنولوجيا وذلك من خلال المشاريع الواقعية والملموسة المفعّلة.
الأبعاد الجيوسياسية لمبادرة الحوكمة
من خلال طرح هذه المبادرة من منصة منظمة شانغهاي للتعاون يوم 01 سبتمبر 2025، أرادت بكين توجيه رسالة مباشرة للعالم بأن ملامح النظام الدولي الجديد يرسم من الشرق، وبالتحديد من فضاءات التعاون الأوراسي الذي بدأ يتسع وبدأ العالم وشعوب العالم تستفيق على أهميته من أجل عالم عادل يحترم قراراتها وسيادتها، فالمبادرة هي قوة اقتراح عالمي قد جلب انظار الشعوب وسنرى العالم في المستقبل يتبنى هذه المبادرة الشاملة، فلا تكتفي هذه المبادرة “الحوكمة العالمية” بالاعتراض على الهيمنة الغربية وكشف خبثها وفحشها، بل تقدم تصوراً بديلاً يقوم على التعددية والتنمية المشتركة والعدالة.
كما تعكس المبادرة البعد البراغماتي للسياسة الصينية، فهي تجمع بين خطاب أخلاقي يركز على العدالة والمساواة، وبين دعوة عملية للإنجاز واستعداد بكين والدول التي تتبنى هذه المبادرة الى الإنخراط العملي والممارسة الفعلية للتفعيل والعمل على مشاريع فعلية. وهذا المزيج يمنحها قدرة أكبر على استقطاب دول الجنوب العالمي التي تشعر بالتهميش في النظام الحالي.
أهمية مبادرة الحوكمة العالمية للعالم العربي
بالرغم من التعتيم الذي عملت عليه الألة الإعلامية الغربية والأمريكية لطمس معالم المبادرة في مضمونها “الحوكمة العالمية والعدالة”، ومحاولة تهميشها والاهتمام بالتصريحات “التافهة” للرئيس الأمريكي وبعض القادة الغربيين والاهتمام بشكليات القمة واسقاط المضمون، وجدت المبادرة صدى واسعاً لدى خبراء ومحللين عرب مهتمين بالقمة وبالصين كقوة عالمية تتصدر المشهد، فلقد اعتبروا أن المبادرة تمثل فرصة لتصحيح اختلالات النظام الدولي ودعوا حكوماتهم لتبني هذه المبادرة وتطوير الشراكة مع الصين ومجموعة الاوراسية.
فالمبادرة بالنسبة للعالم العربي هي بابا قد فتح من أجل تجاوز العقبات والهيمنة التي تمارس عليها، فالصين من خلال المبادرة تعبر على طموحها المشروع في بناء عالم متوازن وعادل. فالحوكمة العالمية هي مبادرة توفر منصة فكرية وسياسية واقتصادية بوجه جديد يتحدى المعوقات العالمية ويتحدى للإمبريالية الغربية المتوحشة من أجل تعزيز الحوكمة العالمية والإعتماد على القانون الدولي العادل وخاصة مشاركة فاعلة للدول النامية في صنع القرار وتحديد المصير.
وخلاصة القول تعتبر هذه المبادرة فرصة ثمينة وتاريخية تمنح للدول العربية للانخراط بفعالية للاشتراك في صياغة قواعد النظام العالمي الجديد العادل والذي يعتمد على الحوكمة والإنخراط في المجتمع الدولي الذي يحترم الاختيارات والسيادة، فتركيز الصين على العدالة والتعددية ينسجم مع تطلعات الشعوب العربية التي عانت طويلاً من التهميش والهيمنة.
الصين قوة مبادرة وإقتراح
أبرزت المبادرة موقع الصين كقوة فاعلة تقدم حلولاً عملية بدلاً من الاكتفاء بالاعتراض والنقد والانتقاد والتشخيص من دون حلول. فهي تسعى لتقديم “مقترحات وحلول عامة عالمية” عبر الحوكمة العادلة، وتثبت حضورها كقوة مسؤولة تتعامل مع التحديات لا من موقع رد الفعل، بل من موقع المبادرة وقوة المقترح.
فالمبادرات الصين قد ظهرت من خلال 5 مظاهر وهي على التوالي:
- تركيزها على إصلاح النظام المالي العالمي،
- تعزيز دور الأمم المتحدة،
- تبني نهج شامل يعالج قضايا الأمن والتنمية معاً.
- الاستثمار في البنية التحتية عبر مبادرة الحزام والطريق،
- مساهمتها في عمليات حفظ السلام.
قراءة استراتيجية للمبادرة
من منظور استراتيجي، يمكن قراءة مبادرة الحوكمة العالمية في ثلاث مستويات رئيسية:
- القوة الناعمة الصينية: عبر خطاب يقوم على العدالة والمساواة، وتسعى بكين إلى بسط يدها الى دول الجنوب وتعزيز التعاون معها كقوة مسؤولة وقادرة على التعاون والشركات الثقافية والحضارية والاقتصادية.
- إعادة تعريف الشرعية الدولية: الصين تحاول صياغة شرعية بديلة تعتمد على القانون الدولي العادل والشامل والتعددية بدلاً من المعايير الغربية، التي أثبتت التجربة افلاسها والتعامل بمبدأ القوة والغطرسة الى أن فقدت مصداقيتها ونزاهتها.
- التوازن بين المثالية والبراغماتية: المبادرة تجمع بين مبادئ أخلاقية مثل “الشعوب أولاً” وحقوق الإنسان الحقيقية بمفهومها الحقيقي والإنساني، ومبدأ الإنسانية والبراغماتية وهي يجب أن تكون عملية ترتكز على الإنجاز والتفعيل، ما يعكس مرونة السياسة الصينية واحترامها للإنسان وحقه في العيش الكريم كما يعكس بعدها الحضاري الذي قد شاهدناه ضمن مقومات الفعل الإنساني وتقديس العمل الإنساني وإحترام حرمة الإنسان بمفهومه الصيحيح وليس الوهمي وليس شعارا يطلق من أجل محاسبة ومحاكمة الضعفاء.
تحديات مبادرة الحوكمة العالمية وأفاقها المستقبلية
رغم الطابع الانساني للمبادرة وبالرغم من احتياج ثلوثي العالم اليوم لمثل هذه المبادرة يبقى نجاحها مرهوناً بمدى استعاب القوى الكبرى المهينة لهذه المبادرة وعدم عرقلتها، كذلك المبادرة مرهونة بإنخراط القوى العالمية الصاعدة لتجاوز حساباتها الضيقة ومخاوفها والإنخراط الفعلي في مبادرة العوكمة العالمية العادلة فهناك دول تحب جلاّدها وصعب ان تخرج من سجنها لتعيش الحرية والعدالة العالمية وهنا نتحدث عن الأنظمة وليس على الشعوب.
الخلاصة:
مبادرة نظام الحوكمة العالمية مهمة صعبة ومعقدة، تتطلب توافقاً واسعاً وإرادة سياسية جماعية وجرأة وسرعة ليس تسرع.
ومع ذلك، فإن طرح المبادرة في هذا التوقيت يضع الصين في موقع سيادي عالمي وفي موقع المساهم الرئيسي في إعادة تشكيل النظام الدولي وإرساء العدالة البشرية، وإنقاذ الشعوب المهيمن عليها من براثن الإمبريالية المتوحشة، فالصين اليوم هي في مواجهة محاولة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الحفاظ على قيادة أحادية للنظام العالمي الغير عادل.
مبادرة الحوكمة العالمية التي طرحها الرئيس الصيني شي جين بينغ ليست مجرد خطاب دبلوماسي، بل إعلان عن مرحلة جديدة من المنافسة على قيادة النظام الدولي. فهي تقدم رؤية بديلة لنظام متعدد الأقطاب قائم على العدالة والتنمية المشتركة، في مقابل نظام أحادي غير شرعي.
وبينما يشهد العالم إعادة تشكل لموازين القوى، تمنح المبادرة للدول النامية فرصة تاريخية للمشاركة في صياغة القواعد الجديدة للحوكمة الدولية. غير أن التحدي الحقيقي يكمن في ترجمة المبادئ الخمسة إلى خطوات عملية قادرة على تغيير واقع الحوكمة العالمية، وبناء نظام أكثر استقراراً وإنصافاً وعدلا لجميع الشعوب.