بحوث ودراسات

الديبلوماسية الرسمية وديبلوماسية المسارات الأخرى “الديبلوماسية الشعبية نموذجا”

اعداد عادل الهبلاني : باحث في قسم الدراسات والبحوث السياسية والعلاقت الدولية
مراجعة واشراف الدكتورة بدرة قعلول : رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية

إنّ الادّعاء بأنّ الدولة وحدها هي التي تملك قوّة التأثير في العلاقات الدولية ضمن المنظور التقليدي للسياسة الخارجية والديبلوماسية التقليدية للعلاقات الدولية، هو انحياز نظري غير عقلاني لا يراعي التطوّرات الحاصلة على المستوى التكنولوجي والعلمي ولا يدرك حجم تأثير الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والصحافة ووسائل الإعلام السمعية والبصرية وظهور عديد الفواعل وتدخّل عديد الفاعلين غير الرسميين من منظمات غير حكومية ومجتمع مدني وجمعيات واتحادات ومواطنين ساهمت كلها في كسر هذا التقوقع من جهة ولا يراعي أيضا التطوّرات الجديدة التي طرأت على هذا المفهوم نفسه من جهة ثانية والمسارات المختلفة التي مر بها.


ضمن هذا الإطار النظري سوف نحاول أن نبيّن أهمّ المراحل التي مرّت بها الديبلوماسية اعتمادا على مفاهيم ذات صلة مباشرة بها مرورا بمساراتها المتعدّدة وصولا إلى مفهوم معاصر هو الديبلوماسية الشعبية.

1- التعريف بالديبلوماسية:

إيتيمولوجيا

الدبلوماسية كلمة يونانية الأصل، مشتقّة من اسم( Diploma) المأخوذة من الفعل (Diplom)، وكانت تعني الوثيقة التي تصدر عن أصحاب السلطة والرؤساء السياسيين للمدن وتمنح حاملها امتيازات معينة.
وقد استخدمها الرومان فيما بعد للإشارة إلى الوثيقة المطويّة، أو المكتوبة التي تطوى بشكل خاص، وتعطي بعض الامتيازات لمن يحملها مثل جواز السفر أو الاتفاقات التي كانت تعقد لترتيب العلاقات مع الجاليات أو الجماعات الأجنبية الأخرى.


وقد أخذت لفظة دبلوماسية فيما بعد وحتى نهاية القرن السابع عشر، إلى الأوراق والوثائق الرسميّة وكيفيّة حفظها وتبويبها وترجمة كلماتها وحلّ رموزها من كُتّاب متخصصين، أو ما يسمّى “أمناء المحفوظات“.
وأطلق على من يقوم بهذه المهمة اسم الدبلوماسي، وأطلق على العلم المتخصّص بهذا الموضوع اسم الدبلوماسية وذلك نسبة إلى “الديبلومات”.

ولم يتمّ استخدام لفظ الدبلوماسية أو الدبلوماسي للإشارة إلى المعنى المتعارف عليه اليوم، وهو إدارة العلاقات الدولية، إلا في نهاية القرن الثامن عشر وتحديداً عام 1796، حيث استعملت كلمة (Diplomacy)باللغة الإنكليزية في إنكلترا وأصبحت الكلمة في ذلك الوقت تطلق على ممثلي الدول الأجنبية الذين يحملون كتب اعتماد من دولهم.


كما عُرفت عند قيام الثورة الفرنسية بمعنى التفاوض، وعُرف الدبلوماسي بأنّه المفاوض، وأخذت كلمة الدبلوماسية تتبلور وتكتسب بصورة محدّدة قواعدها الخاصّة وتقاليدها ومراسمها على إثر مؤتمر فيينا لعام 1815، وفي ضوء هذا التطوّر ظهرت كوادر دبلوماسية متخصّصة ومتميّزة عن غيرها من رجال السياسة.


إنّ هذا الاختلاف في تاريخ استخدام كلمة الدبلوماسية تجاوزه الإسبان فكانوا أوّل من استخدم كلمة سفارة وسفير، بعد نقلها عن التعبير الكنسي (Ambactus) بمعنى الخادم.

يذكر عز الدين فوده أنّ كلمة دبلوماسية قد تطوّرت وانتقلت من اليونانية إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوربية وبعدها إلى العربية مشيراً إلى أنّها استعملت في معنيين:

  • المعنى الأول: الشهادة الرسمية أو الوثيقة التي تتضمن صفة المبعوث، والمهمة الموفد بها والتوصيات الصادرة بشأنه من الحاكم بقصد تقديمه وحسن استقباله أو تسهيل انتقاله بين الأقاليم المختلفة.
  • المعنى الثاني: وهو الذي استعمله الرومان لكلمة دبلوماسية، والذي كان يُعبِّر عن طباع المبعوث أو السفير، وما كانت تقتضيه التعليمات الموجهة إلى البعثة من وجوب الالتزام بالآداب وإنماء المودة وتجنب أسباب النقد.

2 – ماهي الديبلوماسية إصطلاحا؟

لا يمكن تعريف مفهوم الديبلوماسية تعريفا ماهويا، وذلك يعود إلى أنّ طبيعة المفهوم لها عديد الترابطات والتشابكات مع مفاهيم ذات صلة جوهرية بالمفهوم نفسه، لكنّ الثابت أنّ الديبلوماسية مرتبطة بشكل أساسي وجوهري بالعلاقات الدولية، حيث يقول مارتن وايت: “الديبلوماسية هي المؤسسة المركزية للعلاقات الدولية”، ومعنى ذلك أنّ هذا الوصف يؤيّد ضمنيا المعنى الوظيفي للديبلوماسية، ويجعل المفهوم لا يعود في تحديده إلى طبيعته بل إلى طبيعته الوظيفية، حيث يضيف “مارتن وايت” أن للديبلوماسية ثلاث وظائف على الأقل:


1 / العمل وطريقة تمثيل دولة أمام دولة أجنبية.
2 / السياسة الخارجية للدولة وللحكومة.
3 / العلاقات الدولية.


انطلاقا من هذا التعريف، يمكن القول بأنّ الديبلوماسية هي حلقة من جملة حلقات أخرى مترابطة بشكل وثيق تكمل بعضها بعضا، حيث لا يمكن الحديث عن السياسة الخارجية والتمثيل الدولي والعلاقات الدولية ونجاحها من عدمه إلا عبر وسيلة الديبلوماسية، كما لا يمكن الحديث عن الديبلوماسية إلا داخل إطار العلوم السياسية.


إنّ تطوّر كلمة دبلوماسية ارتبط على مرّ الزمن بتطور الممارسة الدبلوماسية إلى أنّ شاع استعمالها بالمعنى المتعارف عليه في القرن التاسع عشر في أوروبا عندما عقدت اتفاقية فيينا عام 1815، والتي حدّدت وظائف الدبلوماسية ومهامها.


وظائف الديبلوماسية

1/ تمثيل الدولة المعتمدة في الدولة المعتمدة لديها.
2 / حماية مصالح الدولة المعتمدة ومصالح رعاياها في الدولة المعتمدة لديها ضمن الحدود التي يقرّها القانون الدولي.
3 /التفاوض مع حكومة الدولة المعتمدة لديها.
4 / استطلاع الأحوال والتطوّرات في الدولة المعتمدة لديها بجميع الوسائل المشروعة.
5 / تعزيز العلاقات الودّية بين الدولتين.


المهام الأساسية للديبلوماسية

1- تحديد ما تتوخّاه من أهداف استناداً إلى ما تحوزه الدولة من موارد القوّة المتاحة أو المحتملة.
2- تحديد أهداف الدول الأخرى وتقدير حجم قاعدة الموارد الفعلية والكامنة والمساندة لها.
3- تحديد إلى أيّ مدى يمكن أن تلتقي أهدافها أو تتعارض مع أهداف الدول الأخرى.
4- اختيار الوسائل الملائمة لطبيعة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها.


انطلاقا من هذه الوظائف والمهام التي تمّ تحديدها، أصبح من التعسّف النظري والمعرفي أن يتم ّالبحث في مفهوم الديبلوماسية بعيدا عن السياسة الخارجية وبعيدا عن العلاقات الدولية، حتى أنّ العديد من الأكاديميين تملّكهم الشكّ حول صلاحية نظرياتهم في ما يخصّ مباحثهم لما للسياسة الخارجية والديبلوماسية من ترابط يصعب التمييز بينه.


الديبلوماسية والسياسة الخارجية

إنّ الدور الأساسي الذي تلعبه الديبلوماسية في نطاق العلاقات الدولية، بما هو دور الوساطة في إقامة وتحديد العلاقات بين الدول ولعب دور الوسيط في معالجة كافة الشؤون والتوفيق بين المصالح المتعارضة يجعل من الوجاهة القول بأنّها الطريق وجسر الهوّة في حلّ المشكلات وتسوية الخلافات وإشاعة الودّ وحسن التفاهم بين الدول، ويجعل من الوجاهة أيضا القول بأنّها بمثابة القوّة المحرّكة للحياة الدولية ومبعث نشاطها التي ومتى أحسن استخدامها إلا وكانت نتائجها إيجابية، فالديبلوماسية وفق هذا المنطق هي الأداة الرئيسية في السياسة الخارجية للدول والتي تتناول علاقاتها ومعاملاتها ومصالحها.


ونجاعتها من عدمه يتوقّف على ما توليه الدول لهذا الميدان من أهمية في رسم سياساتها الخارجية وتحديد أهدافها الاستراتيجية داخل المجتمع الدولي، لذلك فدعمها سياسيا ودعائيا ونفسيا واقتصاديا وعسكريا هو أمر ضروري لتحقيق الهدف الأسمى للديبلوماسية والمتمثل في درأ الحرب والأزمات وخلق مسالك اتصالية لتحقيق الأهداف السامية للدولة.


تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدول يفترض ضرورة المعرفة التامة والدقيقة بالعلاقات السياسية الدولية القائمة بين الدول وكذلك المعرفة بخصائص الدول وتقاليدها وخصائص مجتمعاتها.


داخل هذا الإطار النظري، يصبح من الجور بما كان الفصل بين الديبلوماسية والسياسة الخارجة، ذلك أنّ الديبلوماسية وفق هذا المنطق التحليلي هي أداة رئيسية للسياسة الخارجية للدول وهي الوسيلة التي تعبّر من خلالها الدول عن سياساتها الخارجية.
ويصبح من الإنصاف القول أنّ السياسة الخارجية هي الوجه التشريعي لإدارة العلاقات الدولية، والديبلوماسية هي وجهها التنفيذي، وأمّا السياسة الخارجية فهي من اختصاص أعلى سلطات الدولة والديبلوماسية هي تنفيذ لهذه السياسات.


من هنا يظهر تأثير الديبلوماسية في السياسة الخارجية وتأثير كلّ منهما في العلاقات الدولية والذي يتوقّف على عدّة عوامل أبرزها درجة قوّة الدولة وطبيعة الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، هذه العوامل هي التي تحدّد اتجاهات الدولة وطبيعة حركتها وذلك وفقا لمتغيرات السياسة الخارجية.

وتجدر الإشارة في سياق العلاقة بين الديبلوماسية والسياسة الخارجية إلى مرحلتين أساسيتين ضمن عملية السياسة الخارجية للدول وهما :

صنع السياسة الخارجية وتنفيذها، فصنع السياسة الخارجية هو عمل الحكومة وهي على درجة عالية من الأهمية تهدف لتحقيق المصالح الوطنية للدول إلى درجة أنّ أعلى أعضاء الحكومة هم الذين يشرفون على عملية السياسة الخارجية، ذلك أنّه بعد اتخاذ القرارات يسلمونها إلى وزارات الخارجية لتنفيذها، وفي هذه الحالة فالديبلوماسية واحدة من الأدوات التي تنفّذ القرارات من خلالها وتتحقق عبرها أهداف وأولويات السياسة الخارجية من خلال العملية التفاوضية.

لكن، ولئن انحصرت العملية الديبلوماسية في هياكل وإجراءات حصرية وعلى أعلى مستوى بين ممثلين رسميين عن الدول، جعل من هذه العملية عملية احتكارية وسرّية ورسميّة تشرف عليها الدولة في رسم سياساتها الخارجية وتأثّث لمعالمها النصوص القانونية الدولية إلا أنّها سرعان ما أصبحت إطارا أوسع سيما بعد التغيرات الحاصلة على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي الذي أشاع جملة من المفاهيم الجديدة منها الاعتماد المتبادل والتبادل المتكافئ والاعتماد المتكافئ، وهي مفاهيم تعكس عدد من المتغيرات التي طرأت في العلاقات الدولية، لا سيما فترة ما بعد الحرب الباردة وعالم ما بعد الحداثة، وقد تزامنت هذه المتغيرات ضمن اتجاه عالمي يسمّى بـ “نظرية الاعتماد المتبادل” وذلك بالأخصّ على المستوى الاقتصادي والتي نادت( النظرية) بضرورة تحرير التجارة العالمية.


هذا الأمر تطلّب إطلاق المبادرات الخاصّة وعزّز دور الأطراف الغير رسمية التي تنشط في المجال الاقتصادي لا سيما دور القطاع الخاص ورجال الأعمال ودور المستثمرين وتفعيل دورهم في المجال الخاص في إطار تشريعات دولية تعمل من السوق العالمية سوقا واحدة مفتوحة بلا حواجز.


هذا الإطار الجديد ونظريّة الاعتماد هذه التي أعطت أهمية كبيرة لتطوّر مفهوم التعاون الاقتصادي حيث فتحتا الباب أمام الجهات الغير رسمية للتحاور في ما بينها عبر وسائل جديدة ومن خلال جهات غير رسمية أو بالأحرى غير حكومية بهدف إقامة علاقات تنسجم مع كافة المتغيرات الدولية.


بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التطوّرات التكنولوجية وظهور الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي أدّى إلى ظهور عديد التفاعلات وعديد الفواعل الغير رسمية التي أسهمت في إخراج الديبلوماسية من إطارها الضيق أي إطارها الرسمي، إلى إطار اخر أكثر اتساع فرض نفسه وفرضته التطوّرات العالمية على جميع المستويات، حيث أصبح المجتمع الدولي المعاصر يشهد قوى أخرى من غير الدولة كالشركات ذات النشاط الدولي والمنظمات غير الحكومية والنخبة ووسائل الإعلام والمجتمع المدني… بمعنى أنّ المجتمع الدولي أصبح يتّسم بتعدّد الوحدات الدولية ولم تعد الدولة هي الفاعل الوحيد في النظام العالمي.


هذه التطوّرات واتساع رقعة التفاعلات وتطوّر علاقات المجتمع الدولي وتحرير التجارة وعولمة كل الميادين جعل من ظاهرة الديبلوماسية المدخل الأساسي والعنصر الضروري في أيّة علاقة منطقية بين دولة وأخرى، بين فرد وفرد آخر بين شعب وشعب، وجعلت أيضا الحديث عن مسارات مختلفة للديبلوماسية أمرا وجيها، ذلك أنّ لكلّ مسار في حدّ ذاته أساليبه ووسائله وأدواته التي تعمل على تحقيق أهدافه.


1- ديبلوماسية المسار الأوّل (الرسمّي) Track one diplomacy

وهي تلك الديبلوماسية التي يمارسها الملوك ورؤساء الدول والحكومات عبر بعثاتهم الديبلوماسية أو مبعوثيهم الشخصيين ومندوبيهم الدائمين وموفديهم الرسميين، يقول James Havermans في هذا السياق ” إنّ ديبلوماسية المسار الأول هي ديبلوماسية ذوي الياقات البيضاء الذين يقفون أمام الكاميرات قبل أن يختفوا وراء أبواب لإجراء محادثات سرية”. فديبلوماسية المسار الأوّل هي أسلوب عمل الدولة وهي في جوهرها عملية إرسال الرسائل مباشرة إلى الحكومة ومراكز اتخاذ القرار.


2- ديبلوماسية المسار الثاني Track two diplomacy

وهي الجهود التي يقوم بها غير الرسميّين والذين يتمتّعون بدرجة معينة من التخصّص في حفظ السلام والحوار والتعايش ويسعون للقفز فوق منطق استخدام القوّة وتشجيع الاتصال والتعاون داخل المجتمعات المنقسمة على نفسها، حيث يقول John Macdonald” إنّ: “ديبلوماسية المسار الثاني قادرة على الكشف عن الحاجات الإنسانية الأساسية وأنّ السماح للاتّصال المباشر بين الدول يمكّن من وقف عملية تحقير الإنسان وبناء العلاقات بين الجماعات الدولية”.
في هذا المسار، تتفاعل جهات غير رسميّة وتمهّد الطريق إلى محادثات غير مباشرة بين الحكومات، أو تسهّل محادثات جارية بالفعل بين هذين المسارين، يقع المسار الواحد ونصف 1.5 وهو الذي يجمع بين جهات حكومية رسمية لدولة ما وجهات غير رسميّة تعبّر عن وجهات نظر الدولة الأخرى، وهو ما يعرف بالقنوات الخلفية، وفي أحيان كثيرة يختلط هذان المساران، إذ قد يساهم المسؤولون الحكوميون في هذه المباحثات غير الرسمية مؤكّدين صفتهم الشخصية تجنّبا لمخاطر الإلزام.
ومثالنا على ذلك ما سمي بديبلوماسية “البنغ بونغ” عام 1971 بداية عودة العلاقات الصينية الأمريكية، حيث تنافس اللاعبون الأمريكيون والصينيون قبل أن يزور ريتشارد نيكسون الصين مباشرة في العام التالي. وفي سنوات تالية، كان انضمام أحد لاعبـي كرة السلة الأمريكيين وهو كيفين شيبارد في دوري كرة السلة الإيرانية عام 2008 بمثابة نقلة في رؤية العديد من الأمريكيين لإيران، العدو. وقد سبق اللقاء التاريخي بين دونالد ترامب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ-أون في 2017 زيارات قام بها رياضيون أمريكيون وغيرهم.


بالإضافة إلي ذلك فقد ازداد اللجوء للدبلوماسية غير الرسمية (المسار الثاني) وشبه الرسمية (المسار واحد ونصف) في الفترة الأخيرة لأسباب عديدة، من بين هذه الأسباب تعقّد وظهور قضايا دولية عابرة للحدود ويصعب التعامل معها فقط من خلال الحكومات، المثال الأبرز على ذلك قضايا البيئة وتغيّر المناخ والمهاجرين، مثل هذه القضايا، التـي تندرج تحت الأمن الإنساني، تستدعي دورًا أكبر للجهات غير الرسمية من جمعيّات أهلية وأجهزة إعلامية وغيرها.
يعني ذلك أنّ ديبلوماسية المسار الثاني تعمل على خلق التفاهم بين أكبر عدد ممكن من الفاعلين داخل إطار التكافل والتعاون وجعل منظور العلاقات بين الشعوب لا بين الحكومات.


3- ديبلوماسية المسار الثالث Track three diplomacy

وهنا يظهر وجه الاختلاف وحجم التطوّر في العلاقات الديبلوماسية ذلك أنّها تأخذ صفة البينذاتية أي بين مواطنين من جنسيات مختلفة من خلال عقد اللقاءات غير الرسمية بهدف تقريب وجهات النظر ودعمها ويتجلّى ذلك داخل مراكز البحث والدراسات المتخصّصة في إحلال السلام والحوار بين الشعوب.


ولعلّ المثال الأبرز هو ما دلّل به جون ماك دونالد على هذا النوع من الدبلوماسية من خلال ما قام به جون ماركس من اعمال من أجل تقريب وجهات النظر بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة الامريكية في مسألة الارهاب حيث أنّ الولايات المتحدة الأمريكية كانت قد قرّرت على لسان وزير خارجيتها هنري كيسنجر أنّ مصدر كلّ شرّ هو الاتحاد السوفياتي بما في ذلك الارهاب، بينما كان الاتحاد السوفياتي ينفي وجود الارهاب.


وبالتالي، عدم مناقشة الموضوع، إلى أنّ جون ماركس، كونه شخصا لا تنطبق عليه الصفة الرسمية التي تمنعه من الحديث عن الإرهاب، قرّر في أفريل 1989 أن يتناقش مع باحثين سوفيات في موضوع الإرهاب، فترأّس وفدا من 10 باحثين مختصّين في مختلف جوانب الإرهاب، وبقي الفريقان لمدّة أسبوع يحاولان بناء الثقة ومعرفة حوار التواصل ليتبيّن بعد جملة من الحوارات أنّ الاتحاد السوفياتي ليس مسؤولا على الإرهاب الذي قضى وقتها على 70 مواطنا روسيا السنوات بين 1984 و1989، وقد أطلق على هذا النوع من الديبلوماسية بـ “ديبلوماسية المواطن“.

هذه المسارات المختلفة هي بمثابة الدلالة على حجم التطوّر الذي شهدته العلاقات الدولية وهي دلالة أيضا على تغيّر في مفهوم السياسة الخارجية وتحوّل فرضته وقائع وأحداث وفواعل وتفاعلات جعلت من الديبلوماسية تفلت من المنطق الاحتكاري للحكومات والدول لتأخذ مسارات مختلفة ووسائل وأدوات جديدة أكثر اتصالا وأكثر علنية في تحديد طبيعة العلاقة بين الدول، بين المواطن والمواطن لتعرف تتويجها الأخير في ما أصطلح على تسميته بـ “الديبلوماسية الشعبية”.

فمالذي تعنية كلمة الديبلوماسية الشعبية ؟

يبدو وعملا بمنطق التأريخ أنّ مصطلح الديبلوماسية الشعبيّة مصطلحا معاصرا، ذلك أنّ الإرهاصات النظرية الأولى لهذا الأخير عرفت بداياتها مع فكرة الاتحادات الدولية Private international union، التي برزت في القرن 19 في سنة 1840 وهي اتحادات ذات طابع دولي أكثر منها اتحادات دولية، ذلك أنّها تكوّنت على يد جماعات تنتمي لشعوب مختلفة تتطلّع إلى تحقيق مصالح مشتركة، ولعلّ أهمها ( اللجنة الدولية للصليب الأحمر والاتحاد البرلماني الدولي وجمعية القانون الدولي والغرفة التجارية الدولية).

وتمثلت إرهاصاتها العملية في المحاولة السوفيتية لتطبيق مصطلح الديبلوماسية الشعبية لإعطاء طابع شعبي على أجهزتها الديبلوماسية إبّان الثورة السوفيتية، حيث قام وزير الخارجية وقتها بإصدار مرسوم يقضي بإنهاء “الديبلوماسية القيصرية ” وتعويضها “بمجلس مفوّض الشعب” حيث يقول لينين في هذا الإطار “وليعلم كل واحد بما تفكر به حكومته فنحن لا نريد أسرارا، وإنما نريد أن تكون الحكومة دائما تحت مراقبة الرأي العام وأطراف المجتمع في بلدها، فما يشكل قوة الدولة هو وعي الجماهير”.
لكن، ولئن ظلّت البوادر الأولى رهينة ممارسات عملية متفرّقة ولم تصل إلى حدّ إعطاء تعريف شافي وكافي لمفهوم الديبلوماسية الشعبية، فإنّه وفي سنة 1965 قام عميد كلية fletsher schiil of law and diplomacy « Edmund Gullion » بصياغة مفهوم الديبلوماسية الشعبية انطلاقا من فكرة مفادها أنّ هذه الأخيرة تتناول تأثير مواقف الجمهور في تشكيل وتنفيذ السياسات الخارجية، وهي تشمل أبعاد العلاقات الدولية وراء الديبلوماسية الرسمية بما في ذلك الرأي العام والتفاعل بين القطاع الخاصّ وجماعات المصالح بحيث يسمح بتدفّق المعلومات والأفكار عبر الحدود الوطنية، ذلك أنّها وفقا لتعريف Paul Sharp هي “ العملية التي يتم من خلالها متابعة العلاقات المباشرة مع الناس في بلد ما من أجل النهوض بمصالح الممثلين وتوسيع قيمهم“، وهي في اختلاف جوهري عن الدعاية حيث يضيف الكاتب بأنه وجب التميز بين الاثنتين قائلا ” هناك فرق حاسم بين الدعاية والديبلوماسية الشعبية يكمن أساسا في الطريقة التي تتعامل بها الأولى مع أسرار الدولة التي تصل إلى حد الخداع واستعمال معلومات مخادعة لخلق رأي عام مساند بحجة المحافظة على أسرار الدولة، الأمر الذي يصل إلى حد السيطرة على وسائل الإعلام في حين أن الثانية تحرص على أن تكون المعلومات أكثر شفافية ومصداقية“.
يقول بطرس بطرس غالي في نفس هذا السياق: ” كانت الديبلوماسية التقليدية تقوم أساسا على التعامل بين الحكومات، أما اليوم فنتيجة لانتشار التعليم والثورة الهائلة في وسائل الاتصال فإن الدولة تحاول أن تكون لها علاقات مباشرة مع الشعوب ويسمى هذا بالديبلوماسية الشعبية “.

ويقول Jan Melissen البلجيكي في نفس هذا الإطار أنّها:” تمثّل دخول الحكومات في حوار مع الشعوب الاجنبية كشرط للنجاح في السياسة الخارجية “.
ويعرّفها مركز الديبلوماسية الشعبية في جامعة الديبلوماسية (Southern California) بأنّها: “ نطاق أوسع من نشاط الدولة ذات السيادة، إذ أنها تشمل مجموعة من الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل: المنظمات الغير الحكومية، والجماعات فوق الوطنية، والجهات الفاعلة دون الوطنية فضلا عن الشركات التي تتواصل وتشارك بشكل هادف مع الجماهير الاجنبية، بغرض تطوير وتعزيز سياسات وممارسات الديبلوماسية الشعبية الخاصة بهم”.


انطلاقا مما أثرناه سلفا وتماهيا مع التعريفات المتعددة للديبلوماسية الشعبية، يمكن القول بأنّ للديبلوماسية الشعبية أهدافها التي تعبّر عن سعيها إلى تحقيق علاقات مباشرة بين الشعوب وتحقيق عالم آمن حيث المصالح المشتركة والمتشابكة التي تعبّر عن أحاسيس الشعوب لا عن مصالح الحكام، ولها عناصرها الأساسية التي تعتبر مرتكزا ومنطلقا لعملياتها البراكسيولوجية ولها أيضا وسائلها التي تنظم عملية اشتغالها.


فماهي أهم أهداف الديبلوماسية الشعبية وماهي أهم مرتكزاتها وماهي وسائلها المعتمدة ؟

أهداف الديبلوماسية الشعبية

• التأكيد على كرامة الإنسان وحريته وحريّة قراره من أجل إحداث التغيير وترقية سلوكه.
• تعزيز أولويات السياسة الخارجية وذلك من خلال فهم وإعلام النفوذ الأجنبي والجماهير وصنّاع القرار وتوسيع دائرة الحوار بين المواطنين ومؤسسات الدولة ونظرائهم في الخارج.
• خلق عمليات تواصلية مع أطراف غير رسمية وفاعلة مثل المنظمات الغير حكومية, المجتمع المدني ووسائط الإعلام وذلك بغاية التأثير على الجهات الفاعلة من غير الحكومات والدول وبالتالي لعب دور حيوي في حماية مصالح الدولة والتصدي للمناهضين والمعارضين.
• الحوار والاتصالات المكثفة على قاعدة القيم المشتركة بين الشعوب ( الحرية والكرامة الإنسانية).
• تثمين فكرة المواطنة والمحافظة على النسيج المجتمعي وتفعيل دور الشعوب في تصحيح المسارات والتصورات الخارجية الخاطئة لدولهم, والبحث عن حلول لمشاكل تم العجز عن فضها بالوسائل الديبلوماسية الكلاسيكية( التفاوض).
• التأثير في الرأي العام من خلال وسائل الإعلام وما يصدر من كتابات وما يتم تنظيمه من ندوات ومحاضرات, بما يسمح بالتأثير على الحكومة والسلطة.


ولتحقيق هذه الأهداف تعتمد الديبلوماسية الشعبية على ثلاثة عناصر أساسية ووسائل لتحقيقها في سيرورة العلاقات بين الدول و بين الشعوب وهي كالتالي:
العناصر الأساسية للديبلوماسية الشعبية

  • تقديم تفسيرات وإعطاء مبرّرات للسياسة التي ترسمها الحكومة.
  • إيجاد السبل التي تساعد الجماهير والشعوب الأجنبية على فهم أبعاد المجتمع وثقافته وتقاليده.
  • إيصال المعلومات إلى الجهات الرسمية المتعلقة بنظرة الجماهير الأجنبية إلى سياسات الدول.

    وسائل الديبلوماسية الشعبية: إن سعي الديبلوماسية الشعبية إلى خلق روابط بين الشعوب وحماية الأفراد والبيئة مكن من ظهور تكوينات وتنظيمات واتحادات شعبية تعمل انطلاقا من إطار ثقافي وتعتمد على وسائل بعينها لتنظيم التعامل في ما بينها، ولعل أهم هذه الوسائل هي:
    – وسائل الإعلام والاتصال السمعية والبصرية والمجلات والصحف، باعتبارها وسائل (مستقلة) تتجاوز المحادثات الضيقة بين الخبراء والمبعوثين الرسميين وتتصل بما هو محلي ودولي وتوفر الفضاء الذي يسمح بالتحاور بين الشعوب، ونشر الأفكار السياسية من خلال التبادل المهني وتبادل الخبرا.
    – الاتحادات والروابط والجمعيات المهنية والعلمية والعمالية ( اتحاد المحامين والاتحادات الصناعية والزراعية والبيئية…)
    – المبعوثين إلى الخارج.
    – خبراء المنظمات الدولية.
    – برامج تبادل الوفود والإطارات, ويعني ذلك برامج تبادل الشباب وتفعيل دورهم داخل المنظمات الشبابية الدولية، وتبادل الأشخاص في مجالات التعليم ذات الصلة بمعاهد التعليم في إطار زيادة المثقفين في البلدان الموفد إليها (البين ثقافية Interculturalité).
    – السياحة، ويعني ذلك خلق جسر للتفاهم بين الأمم وفتح نوافذ على العالم الخارجي يما يتيح ويسمح بالتعرف على الإرث الحضاري والتاريخي للشعوب.
    – دور المؤسسات الأكاديمية، وأبرز تمظهراتها تمثلت في تبادل البرامج الأكاديمية وإثراء الدراسات المتعلقة خاصة بالسياسات الدولية.
    – القطاع الخاص، والذي تعتبره الديبلوماسية الشعبية على قدر كبير من الأهمية لما له من إسهامات جوهرية في تعزيز الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
    – التطور التكنولوجي، وذلك من خلال استغلال وسيلة الأنترنت كفضاء عالمي متاح لأغلب شعوب العالم يسمح بنشر المعلومات والأخبار الخاصة بالحكومة بهدف إحداث ترابط بينها وبين المجتمع المحلي والدولي من خلال تخصيص مواقع على شبكة الأنترنت بمختلف اللغات تسمح بفهم الواقع والخيارات السياسية للدول.
    – دور المرأة، التي أصبحت تلعب دورا هاما في المجتمع والحياة السياسية وفي مجريات الحياة الاجتماعية وذلك في إطار المنظمات النسائية التي أضحت تساهم في إثراء التفاهم بين الشعوب من خلال تبادل وفود النساء في المؤتمرات ومناقشة الأهداف المتعلقة بالمرأة ومشاركة وفود أخرى من بلدان أخرى.
    – الوسائل الثقافية وهي الوسيلة التي تعتمد عليها الديبلوماسية الشعبية لتحقيق أهدافها من خلال الحركات الاجتماعية المحلية والدولية وذلك في إطار أنشطة المراكز الثقافية والمكاتب التابعة لها والتي أصبحت نافذة على باقي الحضارات، حيث يحصل التفاعل بين المسؤولين والمراكز الثقافية وبين مختلف الفئات الشعبية ويتم ذلك بصفة أكبر من خلال ربط الصلات بين الشعوب وتاريخها الثقافي لمزيد الجذب بين مختلف شعوب العالم.

يمكن القول وانطلاقا مما أسلفا الحديث عنه، بأنّ الديبلوماسية الشعبية ليست بعملية مسقطة على الواقع الديبلوماسي، بل هي عملية فرضتها التطورات الحاصلة على جميع المستويات، ذلك أنّ الانفتاح الذي شهده العالم والتطوّر التكنولوجي وظهور الأنترنت كوسيلة للتواصل بين الشعوب داخل أطر غير رسمية وطرح ومعالجة قضايا ذات صبغة عالمية وعولمة كل الميادين في إطار موجة ليبيرالية جعلت من العالم قرية ضيقة، بل هي شكل من أشكال التواصل المقنع مع الجمهور الأجنبي في سياق تحقيق أهداف السياسة الخارجية رهانها السلم لا درأ الحرب.


فالوسائل والعناصر التي تعتمد عليها الديبلوماسية الشعبية ممارستيا هي الترجمة الفعلية والصدى الحقيقي الذي يعبر عن حجم التطور الهائل على مستوى العلاقات الدولية وانفتاح الشعوب على بعضها البعض وهو وإن صح القول تعبير عن رفض للكثير من سياسات الديبلوماسية الرسمية التي كانت لها منزلقاتها تاريخيا.


بالإضافة إلى ذلك فإن الديبلوماسية الشعبية تلعب دورا هاما في تحقيق وتنفيذ اولويات السياسات الخارجية للدول، الأمر الذي شرعن لإعطائها عدة توصيفات من ذلك:
• لعب الدور الأساسي في تنفيذ وتحقيق أولويات وأهداف السياسات الخارجية.
• إعادة النظر في دور الفرد في تنفيذ أهداف العمليات السياسية لاسيما الشؤون الخارجية بصورة غير رسمية, ووعي الفرد بأن الحصيلة النهائية للسياسة الخارجية لدولته تعنيه هو وليس الحاكم وحده.

انطلاقا من هاتين النقطتين الأساسيتين يمكن القول بأن الديبلوماسية الشعبية لا تعارض ولا تعوض الديبلوماسية الرسمية، بل من الجدير اعتبارها مكسب هام من مكاسب السياسة الخارجية وذلك لأنها تعبر عن الجانب الشعبي من المجتمع، وتقلب معادلة السياسة الخارجية للدول من مصالح شخصية لرئيس الدولة إلى أهداف ومصالح وطنية موضوعية ومحددة لها علاقة بالمصلحة العامة والسيادة الوطنية.

الخلاصة

خلاصة القول، إنّ تطوّر المسارات الدبلوماسية لهو دليل قوي على التكيّف مع مختلف التطورات التي يشهدها الواقع الدولي، بما في ذلك حقل النزاعات الدولية وإن وجود علاقة قوية ومتماسكة بين مختلف المسارات الدبلوماسية سيساهم بلا شك في الحد من النزاعات الدولية وإرساء السلم بعيدا عن الحلول العسكرية أو القائمة على مفهوم القوة.
ورغم التحديات التي توجه هذه المقاربة ( خاصة في ما يتعلق تنسيق المسارات مع بعضها البعض و أي المسارات هو أولى من المسار الآخر وتأثير طبيعة كل نزاع على اختيار مسار دون آخر ) إلا أنها تبقى ذات بعد فعال وإيجابي في حل النزاعات الدولية خاصة من خلال حوار الشعوب في ما بينها بعيدا عن الغرف السرية والقرارات الأحادية الجانب، حيث تكون الديبلوماسية الشعبية من بين الحلول الأفقية التي يمكن أن تتقدم بالعملية الديبلوماسية.

قائمة المراجع

  • جمال بركات, الديبلوماسية: ماضيها, حاضرها, مستقبلها, الرياض 1985 ص 86 .
  • سهيل حسين القتلاوي, الديبلوماسية بين النظرية والتطبيق, عمان, دار الثقافة للنشر والتوزيع.
  • هارولد نيكسون, الديبلوماسية.
  • الإهتماد المتبادل, التبادل المتكافئ www.scribd.com/doc/4120715
  • الديبلوماسية الشعبية, ماهية المصطلح وتطوره التاريخي.
  • علي حسين الشامي, نقلا عن لينين, المجلد2 جزء 2 موسكو,دار التقدم.
  • بطرس بطرس غالي,المدخل في علم السياسة الطبعة الثانية 1998.
  • Alian Planty , Principes de la diplomatie, paris 2000 p 237.
  • Herman Joseph. S.Ktaft 2, Track three Diplomacy and human rignts in south cast asia, … case of the Asia pacific coolition for cast timor, Draft only, Not for citation p 12.
  • Joseph A.Missomali, track one diplomacy: official gouvernment-to-gouvernment diplomatic
  • interaction, united states.
  • Souzan Aline Nane, track one diplomacy, institute for muti- trak diplomacy http://imtd.org/cgi-bin/imtd.cgi.16/11/2008.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق