أصبحت ظاهرة الاستقطاب تمثل احدى ابرز الإشكاليات التى تواجه المجتمعات فى العالم حيث صارت جزءاً من الحياة اليومية، باعتبار انه لا يكاد يمر يوما دون أن تقع عملية إرهابية بمكان ما من العالم وقد زاد من تفاقم هذه الظاهرة السرعة والزخم الذى تتناول به وسائل الإعلام مثل هذه النوعية من الجرائم بالنظر لما تحتويه أخبارها من عوامل جذب وٕاثارة وإغراء لكافة فئات المجتمع على اختلاف توجهاتها ومستوياتها الفكرية والثقافية، وللحديث عن كيفية استقطاب الشباب السلفي لا بد من الإشارة إلى الاسباب والعوامل المؤدية اليه والتي تنقسم عادة إلى نوعين، ايديولوجية واجتماعية اقتصادية وطرق الاستقطاب ومراحله..
أسباب انتشار ظاهرة الاستقطاب
تعتبر الفئات المهمشة والفقيرة والمنقطعة باكرا عن الدراسة اهم العناصر التي يسهل استقطابها وجذبها بالإضافة الى الفئات الشبابية المقيمة بالمهجر – على غرار ابناء الجيلين الثاني والثالث للهجرة- الذين اصبحوا موردا يستهوي التنظيمات الارهابية والتي دأبت على الاقتراب منهم مستغلة اوضاعهم الاجتماعية وظروفهم المعيشية وحالتهم المادية المتردية والصعبة، بالإضافة الى الشباب اصحاب الشهائد العليا والخبرات والكفاءات العلمية العالية المهمشين والذين بات من الصعب عليهم الاندماج داخل مجتمع يزخر بالمتخرجين من الجامعات العاطلين عن العمل. فخلاصة القول ان عملية الاستقطاب تمس كافة شرائح المجتمع الذين يتقاسمون ظروفا ايديولوجية وذاتية موحدة يمكن اعتبارها اسباب ايديولوجية ذاتية (المبحث الاول) ويتشاركون في الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تعد اسبابا اقتصادية واجتماعية سهلت عملية استقطابهم.
الأسباب النفسية والإيديولوجية
تشير تقديرات مراكز الأبحاث و وسائل الإعلام العالمية حول العناصر التي تم استقطابها وتمكنت من الالتحاق بسوريا، إلى أن هناك نحو 25 بلداً لديها إحصائيات رسمية بعدد المقاتلين الذين دخلوا سوريا، وأن هناك نحو 11 ألف مقاتل أجنبي مسلم دخلوا سوريا، منهم من عاد إلى بلده، وآخرون غيروا تحالفهم أو ولاءهم لفصائل أخرى. هذا العدد الكبير من المتطوعين، و بحسب ذات التقديرات، وصل إلى سوريا في أغلبه عن طريق الحدود التركية. لكنّ الاسئلة التي تطرح نفسها، من هم هؤلاء المستهدفين؟ ما هي الدوافع التي سهلت عملية استقطابهم والتغرير بهم لمغادرة بلدانهم باتجاه بؤرة توتر كسوريا؟
الفئات المستهدفة
لئن دأبت التنظيمات الارهابية على انتقاء عناصرها من صغار السن وذوي المستويات التعليمية المحدودة والمنتمين الى الاحياء الشعبية والفقيرة ولا سيما المعروفين بسوابقهم الإجرامية، فان هذا لا ينفي نجاحها في تجنيد عناصر ذات ملامح مغايرة اهمها المستوى الثقافي المتميز والحالة المادية الميسورة فضلا عن الوضعية الامنية المريحة والمتمثلة في نقاء سجلها العدلي. حيث اكدت عملية تفكيك الخلايا الارهابية واعتقال العديد من اتباعها ان العناصر المستقطبة لحساب السلفية الجهادية تنقسم الى نوعين: الاول يعرف اصحابه بتدني مستواهم التعليمي وانقطاعهم المبكر عن الدراسة نتيجة اما فشلهم الدراسي او ظروفهم العائلية القاهرة، اما النوع الثاني فيضم عناصر من ذوي المستويات الجامعية والعلمية، بالإضافة الى وجود أساتذة ومعلمين وأمنيين وعسكريين ضمن العناصر المستقطبة والمتطوعة للجهاد ببؤر التوتر.
والجدير بالذكر ان عملية الاستقطاب تستهدف مختلف شرائح المجتمع وخاصة منها الفئة الشبابية من 18 إلى 25 سنة من المتدينين أو المتأثرين بالخطب الراديكالية والذين تحرك سلوكياتهم مشاعر الخيبة واليأس والحقد وضعف الشخصية، وتضم هذه الفئة خاصة:
- لطلبة وخاصة منهم من ذوي الاختصاصات المهنية و العلمية نظرا لهشاشة ثقافتهم الدينية، حيث تلجأ الشبكات الراديكالية في عملية استقطاب هذه الفئة من ذوي المستويات العلمية المرموقة إلى استعمال خطاب مدروس يتميز بالتأثير والإقناع والمقارعة بالحجة العلمية والبرهان بالاعتماد على أعضائها الأكثر ثقافة وبلاغة، سيّما وأن هذه الفئة المستهدفة بإمكانها تطويع تكنولوجيات الاتصال وخاصة منها الأنترنات لمتابعة فتاوى وأطروحات منظري الفكر التكفيري بعيدا عن اللقاءات المباشرة والاتصالات الهاتفية. كما بينت دراسة قد قام بها المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية و العسكرية بان هناك فئة كبيرة من الشباب يتم استقطابها من منابر الانترنات فلم يعد المسجد هو المنبر الاول بل اصبح المنبر الثاني اين يوجه الشاب من خلال شبكات الانترنات بالاتصال بشبكات التسفير و التدريب من الانترنات الى المسجد الى الحلقات الى الشباكات الى مافيا الاتجار بالبشر.
- العمال وأصحاب المهن الحرة نظرا لتدني مستواهم الثقافي و ظروفهم الاجتماعية و الاقتصادية الهشة وسهولة التأثير عليهم خاصة بما يسمى “العدالة الاجتماعية” “الجهاد في سبيل الله” “ربح الدنيا و الاخرة” يعني كل ما هو يمس العواطف الدينية و اخراج مخزون الحقد و النقمة. إذ مثّلت ظروف الفقر والحرمان والتهميش والإقصاء والبطالة عوامل خطيرة وتقليدية تدفع نحو التطرف والارتماء في أحضان المجموعات الإرهابية بعنوان التمرّد على الأوضاع القائمة ومواجهتها بدعوى تغييرها والانتقام من المتسببين فيها، غير أن الجماعات المذكورة وجهت اهتمامها في السنوات الاخيرة الى أوساط الجريمة المنظمة باستغلال استراتيجية أسمتها بالهروب الديني والتكفير عن الذنوب، حيث وظّفت حالة الإحباط و الندم التي تعتري هذه الفئة وإيهامها بأنّ الحلّ يكمن في البديل الديني، مستعينة ببعض المرجعيات الدينية المتطرفة والفتاوى التي تبيح التعامل مع أوساط الجريمة المنظمة بدعوى أنّ ضرورة الجهاد تقتضي ذلك. وقد استفادت الشبكات الارهابية من خبرات تلك العناصر خاصة في مجال التمويل من خلال الاموال المتأتية من الأنشطة الإجرامية والاستعانة بها في مجال تزوير العملة والوثائق والتهريب.
في المقابل، بينت التحقيقات والإيقافات المسجلة خلال السنوات الأخيرة في صفوف عدد من الشبكات والخلايا الإرهابية أن جانبا هاما من العناصر المستقطبة ينحدر من عائلات ميسورة من الطبقتين الغنية والوسطى (على غرار قادة تنظيم القاعدة أنفسهم وأعضاء خلية همبورغ المتورطين في تفجيرات 11 سبتمبر 2001، وعدد من المتطوعين للعراق من الدول الخليجية،…).
لا تقتصر عملية الاستقطاب على الشرائح المذكورة بل تعدّتها لتطول في بعض الحالات موظفين وأساتذة جامعيين نظرا لقيمة مكانتهم في المجتمع و هذا نسميه تطعيم المجموعات الإرهابية لكوادرها حتى لا تتهم بانها تتلاعب بأصحاب العقول المحدودة. كما استهدفت البعض من المنحرفين وذوي السوابق العدلية لتوظيف خبراتهم الإجرامية في العمل الإرهابي كالاحتطاب وتزوير الوثائق،…
كما شملت عملية الاستقطاب مختلف فئات المهاجرين من الجيل الثاني والثالث بأوروبا خاصة من ذوي الوضعية الأمنية السليمة والمتعطشين للهوية الذين يشكون من اضطراب في تحديد الهوية و يعيش أزمة هوية بين هوية الأصول و هوية البلد المضيف لهذا يبحث عن بديل لا يهتم لا بالأصول و لا بلد الولادة بل يحدد الهوية من خلال الدين و من هنا تحل حسب اعتقادهم مشكل الهوية و الاندماج، وغيرهم من المتحصّلين على جنسيات ببلدان الإقامة لسهولة التحرّك والتنقّل، وطالت كذلك ذوي الأصول الأوروبية التي ترغب في إثبات مدى التزامها بانتماءاتها الجديدة. حيث تمكنت الجماعات الإرهابية من إيجاد نسيج من الشبكات المتعددة الجنسيات مندسة داخل المجتمعات بما يجعل عملية كشفها على غاية من الصعوبة، سيّما وأن العناصر المعتنقة للدين الإسلامي لا تمثل فقط عامل تضليل للأجهزة الأمنية فحسب، وإنما رصيدا بشريا مهما لتوسيع رقعة الجهاد على المستوى الدولي وعناصر مهمة لمغالطة أجهزة الامن وخاصة منها الغربية لتنفيذ أعمال إجرامية سيّما وأن هذه العناصر تبدي استعدادا للقيام بذلك بهدف إثبات مدى التزامها بانتماءاتها الجديدة.
فرغم أن “الاستقطاب في صفوف العنصر النسائي امر معهود منذ سنوات خلت إلاّ ان اوجه استخدامهن في جملة المخططات الارهابية هو الذي شكل تطورا في البعد الايديولوجي للتنظيمات الإرهابية، ففي حين اعتبر شق من اقطاب الارهاب ومنظريه في العالم ان المرأة لا يجوز لها لعب ادوار متقدمة في منظومة الجهاد، وهي بالتالي مطالبة بان تقبع في الخطوط الخلفية او تتعهد بنقل الرسائل الشفوية والدعم المادي واللوجستي من القيادات الى الأتباع، اعتبر شق اخر ان الضرورة تفرض استخدام النسوة في تنفيذ العمليات الارهابية وذلك لاعتبارين التنظيمات الارهابية غداة احداث 11 سبتمبر 2001 وثانيهما ان العنصر النسائي يبقى وجها غير مألوف في الشبكات الارهابية ككل، بما يعزز فرضية افلاته من الرقابات الامنية وولوجه الى الاهداف المزمع ضربها بأوفر حظ من الارهابيين الذكور”.فالفصل بين الجنسين يعتبر أحد الخطوط الحمراء لدى غلاة التطرف وركيزة من ركائز الإيديولوجية السلفية بما يجعل الأنشطة الاستقطابية موجهة الى العنصر الرجالي، غير أنّ الإستراتيجية الجديدة للمجموعات الإرهابية أصبحت تركز على إقناع العنصر النسائي بالانضمام إلى صفوفها والنشاط في مجال توفير الدعم اللوجستي وكذلك في تنفيذ العمليات الإرهابية وخاصة منها الانتحارية (مشاركة عناصر نسائية في العمليتين الارهابيتين بكل من دوار هيشر ووادي الليل الاتان جدت ببلادنا على التوالي).
أكدت عمليات تفكيك الشبكات الإرهابية وجود عناصر من بين زوجات وشقيقات ورفيقات العناصر الإرهابية الضالعة في مجال الاستقطاب وحتى التنفيذ، ويعود ذلك خاصة إلى قدرة هذه الأخيرة على التحرك والتنقل دون إثارة الشبهات ورغبتها في التحدي وتحقيق الذات وتقمص دور الشهيد (على غرار البلجيكية “Muriel Degaugue”التي تحولت رفقة زوجها”عصام قوريس” الى العراق ونفذت عملية انتحارية ببغداد يوم 09/11/2005، بينما تفطنت القوات الامريكية الى قرينها وفجرته قبل تحقيق غايته وكذلك العراقية “ساجدة الريشاوي” التي شاركت في نفس اليوم في العمليات الإرهابية بعمان والتي كان زوجها من بين منفذيها).
نظرا لأهمية العنصر النسائي وسهولة اندساسه صلب جموع المواطنين بموقع الهدف، عمد “تنظيم القاعدة في بلاد المغربي الاسلامي” على سبيل المثال الى تنفيذ عملية إرهابية يوم 29/01/2008 استهدفت مقر مركز أمني ببومرداس بالجزائر (أسفرت عن مقتل 4 اشخاص وجرح 23) بواسطة انتحاري يدعى”مصطفى بن عبيدي”(يكنى حمزة، ابو عبد الرحمان) تنكر في لباس امرأة للتمويه والوصول الى هدفه الاجرامي دون امكانية التفطن اليه أو كشفه بمنطقة تشهد يقظة أمنية مشددة.
الظروف النفسية والإيديولوجية
ترتكز التنظيمات الارهابية في عملية استقطاب ضحايا جدد على جملة من المشاعر والظروف التي يعيشونها، حيث ان أسباب عديدة و مركبة دفعت هؤلاء الشباب الى “النفير العام” نحو ساحات القتال (سوريا، العراق،…)، لعل أهمها :
- الصدى النفسي و العاطفي للقضية: من خلال ما يبث في وسائل الاعلام من أخبار حول المجازر و المعارك التي يخوضها النظام ضد قوات المعارضة، وهو ما دفع الكثير من الشباب إلى الالتحاق بالجبهة “دفاعا عن قضية عادلة أو طائفة مضطهدة”، فمسألة “الظلم” لها حيز كبير في أجهزة الدعاية.
- البحث عن الهوية أو ما يسمى بــ”التوتر الهوياتي”، فسؤال الهوية من أنا؟ وماذا أريد؟ ظل مطروحا باستمرار، والدولة إضافة إلى القوى السياسية والمدنية ظلّت عاجزة عن تلبية حاجات الشباب النفسية والعاطفية، خصوصا المتدينين منهم. فرغبة الشباب في “الهجرة” الى بؤرة توتر كسوريا مرتبط برغبته في تحقيق أمنية لطالما حلم بها الا وهي “المدينة الفاضلة”، حيث تطبق الشريعة ويسود العدل – حسب تصورهم-، وهو ما يجعل التعاطف الشعبي مع الثورة السورية كبير، وهو ما اعطاها صدى واسعا في صفوف الشباب، فالقدرة التسويقية للمعارك الدائرة بها والترويج الاعلامي لها التقتيا مع استعداد نفسي وفكري من آلاف الشباب المتحمس.
- تصوير الصراع في سوريا على أساس طائفي وبكونها “حرب على الإسلام” لا سيما الإسلام السني، ساهم في تعميق الاستقطاب.
- الشعور بالقهر نتيجة المعايير المزدوجة في العلاقات الدولية تجاه قضايا العرب والمسلمين.
- تنامي دور قوى فاعلة سواء كانت دولا او جماعات في اذكاء التطرف، ورصد الموارد المالية والبشرية لتأجيج العنف في المجتمعات العربية.
- غياب قادة و رموز الفكر القادرين على مواصلة مسيرة سابقيهم من رواد النهضة و التنوير في العالم العربي.
- تراجع تيار التحديث بتصاعد خطابات متزمتة فكريا، متطرفة دينيا، متسلطة سياسيا ومنغلقة اجتماعيا.
- الانفتاح الإعلامي، حيث تقوم وسائل الإعلام بدور كبير في دفع الأشخاص للتجنيد ضمن التنظيمات المتطرفة والإرهابية بشكل مباشر وغير مباشر، الى جانب انتشار العديد من المنابر الاعلامية المحلية والإقليمية التي تبث رسائل تحرض على التطرف و الكراهية و تسئ الى وسطية الفكر الديني المعتدل.
- الإحساس بالظلم الذي يدفع بالفرد على الانضمام لأي جهة او فرد لإزالة ما وقع عليه من تعسف ومساعدته في الحصول على حقوقه.
- الفهم الخاطئ للدين : تفسير النصوص الشرعية على غير حقيقتها أدى الى ظهور الفكر المنحرف الذي يخلط بين الإرهاب والجهاد.
- الاضطرابات النفسية، حيث اثبتت بعض الدراسات ان من يشكون اضطرابات نفسية مثل صعوبة الاندماج الاجتماعي داخل المجتمع و الذين كانت لهم سوابق الادمان على الكحول والمخدرات او الانحرافات هم من يكونون في الصفوف الامامية وهم منفذي العمليات الاكثر خطورة على الحياة لان اليأس من الحياة و الاضطراب النفسي وتهميش المجتمع لهم يجعل لهم الارضية سانحة لما يشبه العماليات الانتحارية فهم اكثر المتطوعين لهذا.
الأسباب الاجتماعية والاقتصادية
ما من شك ان التنظيمات الارهابية ترتكز على العمل السري في كافة مراحل اعمالها الإجرامية، وذلك من منطلق هاجس الخوف من كشفها، حيث انها تعمد الى اتّباع اسلوب حذر منذ المرحلة الاولى لرص صفوفها بالمتطوعين ألا وهي مرحلة الاستقطاب التي يخضع خلالها الضحايا المغرّر بهم الى تحريات ميدانية معمقة، تركز خلالها التنظيمات المذكورة على جملة من المواصفات التي يجب توفرها في العنصر المستهدف للاستقطاب، حيث انه بالرغم من تعدد الفئات المستقطبة فانه يمكن القول بانه يتم خاصة التركيز على نوعية معينة من الشرائح التي تعيش ظروفا اجتماعية واقتصادية معينة. فماهي ملامح هذه الظروف وخصوصياتها؟ وللإجابة عن هذا التساؤل بات من الضروري التطرق المستوى الاجتماعي والاقتصادي لضحايا الاستقطاب.
المستوى الاجتماعي والاقتصادي لضحايا الاستقطاب:
مثّلت ظروف الفقر والحرمان والتهميش والإقصاء والبطالة عوامل خطيرة وتقليدية تدفع نحو التطرف والارتماء في أحضان المجموعات الإرهابية بعنوان التمرّد على الأوضاع القائمة ومواجهتها بدعوى تغييرها والانتقام من المتسببين فيها، غير أن الجماعات المذكورة وجهت اهتمامها في السنوات الاخيرة الى أوساط الجريمة المنظمة باستغلال استراتيجية أسمتها بالهروب الديني والتكفير عن الذنوب، حيث وظفت حالة الإحباط والندم التي تعتري هذه الفئة وإيهامها بأن الحل يكمن في البديل الديني، مستعينة ببعض المرجعيات الدينية المتطرفة والفتاوى التي تبيح التعامل مع أوساط الجريمة المنظمة بدعوى أن ضرورة الجهاد تقتضي ذلك.
وقد تمكنت الشبكات الارهابية من الاستفادة من خبرات تلك العناصر خاصة في مجال التمويل من خلال الاموال المتأتية من الأنشطة الإجرامية والاستعانة بها في مجال تزوير العملة والوثائق والتهريب.
ساهمت العديد من العوامل في دفع الشباب الى الانضمام الى الجماعات الإرهابية، ولعل أبرزها: الانحراف او التطرف، والبطالة والفقر وأوقات الفراغ وغياب القيم الاجتماعية، حيث تقوم الجماعات الإرهابية بعد تجنيد الفرد الى تغيير القيم الاجتماعية التي يؤمن بها وغرس قيم اجتماعية جديدة تتعارض مع قيم المجتمع. بالإضافة الى:
- – سهولة السفر: على خلاف الرحلات السابقة باتجاه بؤر التوتر، فالسفر الى سوريا سهل نسبياً، حيث ان أن اغلب الشباب يستقلون الطائرة أو السيارة من أماكنهم إلى تركيا ومن هناك إلى سوريا. وبالمقارنة مع أفغانستان أو اليمن أو الصومال أو مالي، فإن السفر إلى تركيا أيضاً لا يثير بالضرورة أي إشارات تحذير كونها وجهة سياحية بارزة. كما أن الرحلات الجوية إلى تركيا – خاصة انطلاقا من البلدان الاوروبية- زهيدة الثمن، كما تتمتع معظم البلدان بصفقات الإعفاء من التأشيرات مع الحكومة التركية. وهو ما يسهّل الأمر خاصة على العناصر التي لا ترغب في المجازفة بالذهاب إلى مواقع أكثر عزلةً.
- الفوضى في دول الانطلاق: وهو من أبرز العوامل، إذ تشجع الفوضى الأمنية والسياسية التي تعيشها دول الانطلاق الكثير من الشباب على السفر نحو سوريا، نظرا لضعف سلطة الدولة و ضعف الإجراءات الأمنية الردعية، فدول مثل تونس و ليبيا واليمن كانت قبل ثورات الربيع العربي قادرة على لجم أي عمليات هجرة واسعة و منظمة نحو بؤر التوتر، لكن بعد الثورات شهدت ضعفا على مستوى سلطة الدولة المركزية. الى جانب وصول حكومات إسلامية في الكثير من دول الانطلاق إلى السلطة، هذه الحكومات غظّت الطرف عن شبكات التجنيد كما حصل في بلادنا في عهد حكومة “النهضة” الإسلامية وفي المغرب، وهذا ما يفسّر ارتفاع عدد المقاتلين التونسيين والمغاربة في أغلب عمليات الإحصاء التي أجرتها مراكز أبحاث و مؤسسات الرصد العالمية.
- الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تعيشها دول الانطلاق والتي تدفع الشباب إلى الهرب من هذا الواقع القاسي نحو ساحات القتال والبحث عن “جزاء أخروي” مغاير للواقع “الدنيوي”.
فعملية الاستقطاب تمثّل ركيزة أساسية في اهتمامات التيار السلفي الجهادي وذلك ضمانا لديمومة تواجده وانتشار أفكاره وبالتالي توسّع مساحة أنشطته والوصول إلى تنفيذ برامجه الهدامة وبلوغ أهدافه – إقامة الدولة الإسلامية-. وباعتبار ان الاستقطاب هو بمثابة حجر الاساس لدى التنظيمات الارهابية ونظرا لأهمية ودقّة هذه المهمّة فإنه يقع التعويل للقيام بها على أشخاص تتوفر فيهم المواصفات التالية:
* متشبّع بثقافة شرعية، لتطويعها في بث أفكاره السلفية الجهادية الاستشهاد بآيات وأحاديث في هذا المنحى.
* صاحب شخصية مؤثّرة ،فصيح ، يمتاز بالبلاغة والقدرة على الإقناع .
* إلمام بواقع ومستجدات الأوضاع السائدة داخليا وخارجيا – بؤر التوتّر-.
* متضلّع (معرفة ومهارات) في مجال استعمال الأنترنات.
طرق الاستقطاب ومراحله:
مثلما عمدت التنظيمات الارهابية الى التنويع في ضحاياها بحيث استقطبت كافة الشرائح الاجتماعية من فقير وغني وجاهل ومثقف ورجالا ونساء، فقد سعت ذات الجماعات لتحقيق اهدافها ومبتغياتها الى التنويع في الاماكن التي تنتقي منها ضحاياها معتمدة طرق استقطاب مباشرة (الفقرة الاولى) واخرى غير مباشرة (الفقرة الثانية).
1. الاستقطاب المباشر
تقوم به شبكات تجنيد تنشط في دول “الانطلاق” في الفضاء العام وخاصة حول المساجد و تستقطب الشباب الذي يبدي قابلية فكرية ونفسية لفكرة “الجهاد” ويتم فيها تحويل المستهدف إلى أحد مراكز التدريب ثم إدخاله إلى جبهات القتال بإحدى بؤر التوتر.
أ- الوسط المؤسساتي:
* المساجد والمراكز الإسلامية والمدارس القرآنية: رغم يقظة أجهزة الأمن فإنّ المراكز الإسلامية وبعض فضاءات العبادة ومحيطها لا تزال تلعب دورا رئيسيا في مجال الاستقطاب والتكوين العقائدي وجمع الأموال، باعتبارها ملتقى المتديّنين والمصلين بجميع الفئات وتعتبر مصدرا بشريا هاما يكون منطلقا لتوسيع قاعدة أتباع التيار السلفي الجهادي.وقد تمكن دعاة السلفية واتباعها من الاستفادة من مناخ حرية التعبير عن الرأي والأفكار والمعتقد لاستغلال هذه المساجد والمراكز الإسلامية وتحويلها الى منابر لترويج أفكارهم وتحريض الوافدين عليها خاصة من فئة الشباب على اعتناق الفكر السلفي الجهادي، ولم تعد بالتالي هذه الفضاءات تلعب دورها التقليدي في إشاعة الاعتدال ونبذ التطرف والعنف.
* المؤسسات التعليمية: مثّلت الجامعات والمعاهد ومراكز التكوين المهني ملتقى للعناصر الجهادية حيث استغلّت بعض العناصر الجهادية هذه الفضاءات لتمرير مبادئ الفكر الجهادي في صفوف مرتاديها مستغلين ضعف تكوينهم الديني وما تعرف به هذه الفئة في هذه السن من اندفاع وتحمس.
* المؤسسات السجنية: تعتبر هذه المؤسسات أرضية لاستقطاب سجناء الحق العام، وذلك لعدة اسباب لعل ابرزها التوتر النفسي و الاضطراب السلوكي الناتج عن سلب الحرية، والاكتضاظ والاختلاط وطول فترة البقاء داخل الغرف، الى جانب طبيعة العلاقة بالأعوان وطبيعة التواصل معهم، وطبيعة علاقة السجين بأسرته، مع امكانية حصول السجين على عمل أو نشاط داخل السجن من عدمه، علاوة عن الاحساس بالخوف و الرغبة في الانتماء لمجموعة تحميه. حيث يقع التأثير عليهم لتبني الأفكار الجهادية من خلال إقناعهم بالتوبة والرجوع إلى الله ودفعهم لمواصلة نشاطهم الإجرامي تحت مطية الدين بدعوى التكفير عن ذنوبهم السابقة (الاحتطاب، التزوير، اعتداءات، اغتيالات…). وقد وجدت التنظيمات الإرهابية في المؤسسات السجنية أرضية خصبة للاستقطاب (على غرار سجون ” Polatti ” بإيطاليا و”Topas” بإسبانيا و”Brixton” ببريطانيا وكذلك بعض المؤسسات العقابية بفرنسا)، حيث تحوّلت هذه السجون الى فضاءات مناسبة للجهاديين لترويج أفكارهم الهدامة، وكذلك التخطيط لأعمال إرهابية (خلية المغربي “عبد الرحمان الطاهيري” التي تم تفكيكها في أكتوبر 2004 وخططت لضرب الجهاز القضائي الاسباني عن طريق عناصر تم تجنيدها داخل سجن “Topas ” بإسبانيا).
كما دأب منظرو الأصولية الراديكالية قبل وبعد 11 سبتمبر 2001 على أداء زيارات إلى السجون ومراكز الإيقاف خاصة بايطاليا وفرنسا تحت غطاء “جماعة التبليغ والدعوة” ومرشدين دينيين بذريعة السعي للإحاطة بالمساجين والمساهمة في إصلاحهم وتخفيف شعورهم باليأس والظلم وهو ما ساهم في تخرّج ارهابيين متشددين مقتنعين بأن التكفير عن ذنوبهم يتمثل في الجهاد بالمال والنفس ( مثل عدد ممن عرفوا في مجال الاجرام والاتجار في المخدرات بايطاليا الذين قضوا عقوبات بالسجن بهذا البلد ثم غادروها للمشاركة في الحرب بالبوسنة وأفغانستان وكذلك البريطاني “Richard Reid” الذي تم ايقافه يوم 22/12/2001 بلندن بعد محاولته تفجير طائرة، كان تبنى الفكر الجهادي بأحد مراكز الأحداث المنحرفين).
ب- الوسط الاجتماعي:
* دائرة الأصدقاء والمحيط العائلي وعلاقات الجوار: تبدأ مرحلة الاستقطاب من خلال علاقات صداقة أو روابط عائلية، حيث تساهم هذه الروابط بصفة تدريجية في تعزيز القناعة بالفكر السلفي لتنتهي بقبوله، كما تمثل علاقات الصداقة بين أفراد مجموعة واحدة عوامل مؤثرة في مراحل التطرف سواء من حيث أنها إطار لاكتشاف الأفكار الراديكالية والتمسك بها أو ايجاد روابط تحظى بثقة المجموعة في أعمالها الإرهابية ، علما بأن هذه الحالات شائعة جدّا في صفوف المتطوعين للعراق وسوريا.
* الأحياء الشعبية: نظرا للكثافة السكنية وما تعرف به من غياب لحسن تأطير أفراد الأسرة إضافة إلى مستواها المعيشي الضعيف فالأحياء الشعبية تمثل فضاءا يجد فيه متبنو الفكر الجهادي ضالتهم في الانتداب والتجنيد.
* الجمعيات الواجهة: سخّر السلفيون ذات العوامل المذكورة لتكوين الجمعيات الواجهة المختصة ظاهريا في الأعمال الخيرية والإنسانية والاجتماعية والمستعملة فعليا كغطاء لأنشطة استقطابية إجرامية وتتلقى هذه الجمعيات دعما ماديا (مبالغ مالية كبيرة) من أشخاص لهم ارتباط وثيق بالتيار الجهادي العالمي.