الحرية الدينية في تونس: بين الإرث القانوني والتحديات الواقعية
إعداد: خولة الكلاحشي باحثة في الاتصال السياسي و العلوم القانونية وباحثة غير قارة بالمركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية قسم البحوث والدراسات الاستراتجية 17-10-2024
إن الحرية (تعني) السماح للجميع بالظهور تحت الضوء للعلن دون تزييف أو تحريف أو خوف…
ولكن السؤال الجوهري يتعلق بماهية الحرية الدينية، التي يمكن أن تنطبق متى يكون هنالك دين أو مذهب أو معتقد، والإشكالية الحقيقية تتمثل في تحديد دقيق قانوني وعملي للدين، وهو مجال للنقاش المتواصل.
أغلب الديانات سموية ولكن الحرية الدينية تتجاوز الديانات السماوية لتشمل المعتقد، الضمير أوما يسمى “بظاهرة الديانات الجديدة” ، التي قد تتصل بدين سماوي معين، وقد تكون في انفصال عنه تماماً، وتتعلق بكل ما هو حقيقة أو افتراض.
أما بخصوص التعريف القانوني للدين، فإن فقه القضاء في عديد الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا، فرنسا، لم يتفق حول تعريف دقيق موحد للدين، والأمر ذاته بالنسبة لتونس، درء لكل لبس أو فتح لباب الحد من الحرية الدينية.
وعليه، فإن المسألة تتعلق بالأمن العام، وعلى الدولة أن تحمي مواطنيها (والمقيمين فيها) ومتساكنيها، بإختلاف دياناتهم وجنسياتهم، فعندما يتصل الأمر بالحرية لا يمكن البتة أن تقبل توجهات التطرف والمزايدة والمغالاة ولا أن تسخر الحرية الدينية رأسا خدمة لغايات الحزبية ،سياسية أو خاصة.
فلكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين والمعتقد والضمير، حرية بالاعتناق والاختيار والاظهار والتعبد والتعلم وإقامة الشعائر دون خوف أو تردد، وهوما حاولت تونس تكريسه منذ الاستقلال لكنها فشلت في الواقع في ضمانه.
تاريخ التشريع المتعلقة بالحرية الدينية في تونس:
تشكل الحرية الدينية أحد أهم المبادئ الأساسية التي تأسست عليها الجمهورية التونسية منذ استقلالها عام 1956 والتي عملت على تكريسها قبل ذلك التاريخ. وقد حرصت الدولة على ضمان هذه الحرية من خلال دساتيرها وقوانينها، ونذكر بعض النقاط الهامة في هذا المجال:
1881 |
1956 |
1988 |
2008 |
2014 |
2018 |
صدور قانون الأحوال الشخصية الذي كفل حرية المعتقد وحرية ممارسة الشعائر الدينية. |
نيل تونس استقلالها واعتماد دستور 1956 الذي نص على حرية الضمير الممارسة الدينية. تم إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي ساوى بين جميع المواطنين بغض النظر عن دينهم في الحقوق والواجبات. |
صدور قانون الجمعيات الذي سمح بتأسيس جمعيات دينية مختلفة. |
إصدار قانون حرية التعبير الذي حظر التمييز على أساس الدين. |
اعتماد دستور على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة، مع ضمان حرية الضمير والممارسة الدينية لغير المسلمين نص على “حرية الضمير والمعتقد” و”حرية ممارسة الشعائر الدينية”. |
إصدار قانون مكافحة التمييز العنصري الذي حظر التمييز على أساس الدين. |
سلم القوانين المتعلقة بالحرية الدينية في تونس.
رغم أن الدستور التونسي يقر أن “الدولة مدنية”، ينص في ذات الوقت على أن الدين “الإسلام” هو دين البلاد، وأن الحكومة تلتزم بنشر القيم “الوسطية والتسامح” خاصة في الفترات الاستثنائية مثل الحملات الإنتخابية، إذ يحظر استخدام المساجد ودور العبادة للدفع بأجندات أو أهداف سياسية أو انتخابية معينة، حيث تبقى حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية مصونة بالقانون مؤمنة بالدستور إلا أن المقاربة النقدية تفضح التضارب الواضح بين المنشود والموجود .
الإعلام الديني وقود الصراعات في تونس:
منذ 2011 بدأت الأحزاب السياسية تستخدم خطاب الكراهية للحطّ من قدر خصومهم وتأجيج العنصر الديني لصالحهم. إذا لم يتم تقييد أو كبح خطاب الكراهية والدعاية الدينية لمعتقد أو توجه ضد آخر بل على العكس من ذلك رجحت كفة الميزان للاغلبية دون أي اعتبارات انسانية أو أخلاقية للاقليات التي لاحت في الأفق دون أي ضمانة بأحقية وجودها وانتمائها الفعلي للدولة التونسية وهويتها التي تضفي رونق الاختلاف الغني لأصالة التاريخ التونسي ونماء مستقبل الحريات.
وقد أثر ذلك على العملية الانتخابية حينها وتواصلت انعكاساته إلى اليوم، ممّا أدى الى تصاعد تيارات دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف تأسيسا على الاختلافات الدينية والمذهبية والعقائدية.
وتبعا لذلك أمرت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري بإغلاق عدد من وسائل الإعلام ذات الانتماءات الدينية “لعدم امتثالها لمتطلبات الترخيص”، إذ يحظر القانون بث الوسائل الاعلامية ذات الانتماءات الدينية أو السياسية خاصة خلال فترة الحملات الانتخابية وفترة الصمت الانتخابي، وأغلقت محطة الزيتونة و محطة القرآن الكريم الإذاعية لفترة من الزمن، لبثها خطابا يدعو للعنف والكراهية بين المواطنين.
كما أن الأقليات الدينية تواجه إلى اليوم صعوبات الظهور والتواصل مع السلطات التونسية لعدم اعتراف هذه الأخيرة بها، وخير مثال على ذلك الديانة البهائية، التي تم رفض منح جمعيتها العامة أي وضع قانوني، رغم حكم محكمة إدارية صادر في سنة 2020 الذي يسمح بتأسيس هذه الجمعية العامة قانونا.
وتشكو جهات مسيحية وجمعية ” التلاقي” للحرية والمساواة من وجود ضغوط حكومية ومجتمعية قوية تحد من أنشطة الكنيسة أو تعليم اللاهوت علنا، فيما تحدثت تقارير عن حالات منعت فيها الأجهزة الأمنية مسيحيين من عقد اجتماعات في فنادق أو منازل خاصة، فيما يشكو البعض من عدم اعتراف المؤسسات العمومية والسيادية بحقوقهم بشكل كامل وعلني، وتمنع إنشاء الكنائس أو المقابر التي تعتبر من المعضلات الكبرى التي بقيت دون تراخيص أو تطبيق رغم الوعود الآملة ومشاريع القوانين الرنانة.
أما عن المجموعات اليهودية فإنها تواصل العبادة بحرية، طقوس الحج في جربة “الغريبة”، وتستمر الحكومة في توفير الأمن المعابد بشكل كبير، وتدعم تكاليف ترميمها وصيانتها جزئيا، لكنها تتقاعس منذ 2019 في الموافقة على تأسيس جمعية عامة للجالية اليهودية التونسية.
ويواجه المتحولون من الإسلام إلى المسيحية أو اللا أدرية ضغوطات مجتمعية من أفراد عائلاتهم خاصة وأشخاص المجتمع لإخفاء إلحادهم، أو حتى في المشاركة في تقاليد دينهم خوف من نبذ المجتمع لهم وضعف الضمانات القانونية لحمايتهم.
التحديات التي تواجه الأقليات الدينية في تونس:
على الرغم من الإنجازات التي حققتها تونس في مجال الحرية الدينية وبذل الحكومة التونسية جهودًا كبيرة للتغلب على التحديات التي تواجه الأقليات بإطلاق استراتيجية وطنية لمكافحة خطاب الكراهية وإنشاء مرصد لمراقبة خطاب الكراهية والتمييز ومحاولة تعزيز التعاون بين الحكومة والمجتمع المدني لضمان حرية الدين والمعتقد.
وتظل هذه المبادرات قاصرة على ضمان الحقوق الدينية والعرقية لكل الأقليات الموجودة في تونس نظرا للصعوبات والتحديات التي تواجهها الأقليات الدينية، والتي يمكن أن نستشف منها عدم التوازن الفعلي بين المنشود والموجود بحيث تظهر جملة من الإخلالات و الجرائم المسلطة ضد هذه الفئات والأقليات العرقية دون أي مادة قانونية خصبة في هذا الجانب الذي يظل يترنح بين الخطاب السياسي التجريمي و بين النداء الأزلي الصارخ بفصل الدين على الدولة، في دوامة اللاعودة عن الحريات المكتسبة بحكم الدستور النافذ بتجريم وعقاب كل من ارتكب فعلا يراد به المس من الحرية الدينية وعليه نذكر:
هزلية الأسس القانونية |
التمييز العنصري الديني |
القيود على الحرية الدينية |
تنوع الاعتداءات |
تصاعد خطاب الكراهية |
ضعف آليات تطبيق القانون: تعاني تونس من ضعف آليات تطبيق القوانين المتعلقة بالحرية الدينية، مما يُعيق حماية حقوق الأقليات الدينية و هشاشة الضمانات القانونية ——- نقص التمثيل: تعاني الأقليات الدينية من نقص التمثيل في المؤسسات السياسية والاجتماعية. |
التمييز الاجتماعي: تواجه بعض الأقليات الدينية تمييزًا في التعليم والتوظيف. كما تواجه صعوبة في التأقلم مع المجتمع وخاصة في اختيار مناطق السكن. |
التضييق على حرية التعبير: تواجه بعض الأقليات الدينية تضييقًا على حرية التعبير، خاصة فيما يتعلق بنشر أفكارهم الدينية.
———– تضييق على ممارسة الشعائر الدينية: تواجه بعض الأقليات الدينية قيودًا على حرية ممارسة شعائرها الدينية، مثل بناء دور العبادة الحصول على تراخيص لبناء دور عبادة أو تنظيم فعاليات دينية. |
الاعتداءات: تتعرض بعض الأقليات الدينية لاعتداءات من قبل بعض الجماعات المتطرفة. ———— التحرش والاعتداءات: تتعرض بعض النساء من الأقليات الدينية للتحرش والاعتداءات بسبب معتقداتهن. ———- الاعتداءات على دور العبادة: تعرضت بعض دور العبادة التابعة للأقليات الدينية للاعتداءات من قبل متطرفين.
|
خطاب الكراهية: انتشار خطاب الكراهية والتمييز ضد الأقليات الدينية في بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي ————- حملات كراهية من قبل بعض الجماعات المتطرفة دون رقابة فعلية.
الخطاب المتطرف: تواجه الأقليات الدينية في تونس خطابًا متطرفًا من بعض الجماعات المتشددة التي تُحرض على الكراهية والعنف ضدها. |
إن الحرية الدينية في تونس تواجه تحديات كبيرة علنا ، لكن هناك جهود حثيثة للتغلب على هذه الصعوبات الإجرائية و الفكرية خاصة. تراجع تونس في سلم الحريات يعزز الفجوة بين القوانين والمواثيق الدولية المصادق عليها من قبل وبين الواقع المجتمعي و السياسات المتبعة التي تحتاج مزيدًا من التقدم في مجال الحرية الدينية، بغية تعزيز الأمن المجتمعي والقضاء على العنصرية الدينية بتمتع جميع الأقليات الدينية بحقوقهم الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية وعيشهم في كنف السلام الدائم دون أي تمييز.
التوصيات:
-
تطبيق القوانين:
على الحكومة التونسية تطبيق القوانين التي تحمي حرية الدين والمعتقد ونفاذها عبر تكوين مأموري الضابطة العدلية والقضاة والوزارات السيادية في هذا المجال ومراجعة القوانين المتعلقة بالحرية الدينية لضمان حماية حقوق جميع المواطنين والحفاظ على حقهم في العيش بكرامة على الأراضي التونسية وإعمال مبدأ فصل الدين عن الدولة.
-
نشر ثقافة التسامح:
بين الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية العمل معا يدا واحدة على نشر ثقافة التسامح والاحترام للتنوع الديني بتعزيز دور المؤسسات الدينية في نشر ثقافة التسامح في خطب الجمعة وصلاة الكنائس وتوفير الحماية الفعلية للأقليات الدينية من التمييز والاعتداءات اللاإنسانية .
-
محاربة خطاب الكراهية:
على الحكومة محاربة خطاب الكراهية ضد الأقليات الدينية بتكثيف حملات التوعية بمبادئ التسامح واحترام الاختلاف والتنوع الديني لتعزيز القبول بالآخر شرط الاحترام المتبادل.
-
دعم الأقليات الدينية:
ينبني دعم الأقليات الدينية في مواجهة التمييز الديني على أسس حقوقية قانونية وأخرى سياسية بحت بتمكينهم/هن من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية وحقوقهم الأساسية كبناء المقابر وتكوين الجمعيات طبقا للقوانين سارية المفعول.
—————————————————–
المراجع :
موقع وزارة الشؤون الدينية التونسية.
مركز الدراسات والبحوث الديانات والمجتمعات.
موقع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.
موقع هيومن رايتس ووتش.
وفيما يلي تقدّم الأمم المتحدة أبرز الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان حول الكراهية والعنصرية الدينية:
اتفاقية الشعوب الأصلية والقبلية، 1989 (رقم 169)
إعلان حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية
الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري
الإعلان المتعلق بالعنصرية والتمييز العنصري
إعلان القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد.