“الحرب وصناعة الموت: شركات السلاح الدولي و صناعة القرار “
فاتن جباري قسم العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية
تقديم : مع بلوغ العالم ذروة عصر الذكاء الاصطناعي، دخلنا عولمة جديدة وحضارة سلاح حديثة اخذت تفرض نفسها أين نشاهد في حرب الشرق الاوسط و طوفان الاقصى ، نشاهد مختلف انواع السلاح التي تُسوّق كعجائب خارقة و ساحقة، و كأرفع منجزات التكنولوجيا و الطائرات و العبارات و الصواريخ التي توظّف لتهويل الأسطورة الأمريكية الصهيونية ، ودب الرعب في الشعوب المستضعفة، والمجتمعات المظلومة ثم مراكمة الأرباح الهائلة من الاستراتيجيّات العدوانيّة والاستعماريّة المعربدة …التي خططت مسبقا لتحوّل الحرب على غزّة إلى حقلٍ لتجربة آخر الصناعات الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة والأمريكيّة من أجل “إثبات فعاليّتها الميدانيّة”. هذا الإثبات هو الدعاية الأهم التي تقودها الألة الدعائية الصهيونية المروجة للسلاح من خلال افتعال تجارب واستعراضات تقدّمها شركات السلاح لمندوبي حرفاء الدول !!. بالنسبة لهذه الشركات التي لا تعترف بأي منظومة حقوق انسان او قانون دولي متعارف عليه يصبح الدم وأعداد القتلى وكبر عدد من الدمار والحطام هو الضمان الوحيد لنجاعة و مدى فاعلية هذه الأسلحة.
وما من شك وأن مدى تأثير شركات صناعة الأسلحة في توجيه السياسات الدولية في عالم مضطرب جدا ، لا تتوقف فيه الحروب، تلعب الحركة العالمية للأسلحة والتسلح دورًا حيويًا ومهمًا في السياسة، بل أن الدخول في مختبر السلاح الدولي سواء بتصنيع السلاح او بامتلاكه أو شرائه هو من منظور استراتيجي ” السياسة الأكثر رواجا في تأمين الدول لنفسها ” وبذلك صارت شركات السلاح العابرة للقارات هي التي تقود القرار الدولي في الحرب والسلم وتؤثر على سلوكيات الحكومات والشركات والسياسيين في جميع أنحاء العالم. في هذه الأجواء ينشط دور الصحافة والإعلام في تغطية الحروب، وتتبع السلاح وصفقاته فمن الصادم وأن ما نراه يوميا عبر مختلف الأجهزة ، الحاسوب و الهواتف و وكالات الإعلام الدولية هو استهلاك ترويجي لسوق السلاح العالمي.
أولا – غزة مختبر لتجارة الموت ؟
تمتلك شركات الأسلحة تأثيرا هاما على الإدارات الأميركية المتعاقبة بما يتعلق باتخاذ قرار الحرب من عدمه في أي منطقة جغرافية في العالم. وبما أن عمليات الشراء ترتكز على ضمان جودة السلاح وضرورة تجربته عملياً قبل عقد أي صفقة أما إسرائيل فهي من توفر هذه المساحة. اذ أن الأسلحة التي يتم اختبارها في كل حرب يشنها كيان الاحتلال تشهد ارتفاعاً في الطلب العالمي وهذا ما يعطي للحرب على غزة بعداً آخر، باعتبار أن الاستراتيجية أميركياً وإسرائيلياً حولت الساحة في منطقة الشرق الاوسط الى مختبر لتجربة أحدث الأسلحة.
منذ فترة زمنية لابأس بها دفعت أكبر شركات التسليح ، الرأي الدولي أي الحكومات نحو مزيد امتلاك وانتشار السلاح لقد مارس خبراء هذه الشركات ضغطا ايديولوجيا ، سياسيا ، و اقتصاديا بصورة ذكية ومقنعة : ان مقياس الدول المتحكمة و المتقدمة بما يضمن مكانتها العظمى في عصر الذكاء الاصطناعي ، لا يقاس الا ببناء حضارة سلاح حديثة ، فأخذت هذه الشركات تفرض نفسها على الدول التي تجهل البرامج الاستخبارية ومحاربة الارهاب وفق الطابع العسكري والتعاطي مع الانظمة الدولية وتعطي بالمقابل حجة لتلك الشركات من خلال التهديدات على الـأمن القومي وارساء السلام الدولي و حماية المجتمعات باسم محاربة الإرهاب و مكافحة الجريمة و الطائفية او العنصرية او الحرب الاهلية وماهي إلا حرب إيديولوجية صنعت داعش وغيرها …وكانت الآلة الإعلامية تتلاعب بها الأطراف المستفيدة من بناء هذه الشركات بسبب ضعف البناء القانوني وغياب التثقيف والوعي الامني الذي اصبح يشكل هاجساً للجميع وصراعاً لا ينتهي.
بناء على عدة قراءات يبدو أن هناك علاقة وثيقة بين الساحة السياسية الدولية بما يحدث من حروب وصراعات وأزمات وبين بورصة السلاح العالمي أي هذه الشركات الخفية والعملاقة . في قائمات الشركات الأكثر ثراء أو لوائح الأشخاص والمؤسسات الأكثر تأثيراً ونفوذاً في العالم، فإننا لا نجد من بين الأسماء الموجودة على اللوائح أي من أصحاب شركات الاسلحة ولا حتى الشركات نفسها، هذا على الرغم من ان تجارة السلاح حول العالم تحتسب بترليونات الدولارات سنوياً، وعلى الرغم أيضاً من أن لوبيات شركات الأسلحة يمكنها التأثير في سياسات الحكومات في شؤون الحرب و السلم والمصالح الخارجية وعلاقاتها. بل وتبني بعض الحكومات سياساتها على أساس ما تطلبه شركات صناعة الأسلحة وتجارتها، حتى أن بعض الرؤساء يبدون وكأنهم وكلاء أعمال لدى هذه الشركات أو مندوبي مبيعات تجارة السلاح العالمي ، فتكون في أعلى لوائح زياراتهم الدبلوماسية إلى دول أخرى، عقود بيع الأسلحة وشرائها. وكلما تمكّن رئيس من عقد صفقة ضخمة لبيع السلاح فإنه يحقّق بالمقابل شعبية في بلاده ورضى من الكتل المالية والصناعية فيها، وربما يضمن انتخابه لدورة ثانية.
ولكن ما هو السرّ في أن أعمال وصفقات وقوة وسلطة شركات صناعة الأسلحة تبقى في الظلّ أو في الكواليس، وتبدو وكأنها تعمل في الخفاء أو خلف الكواليس. فلا نعرف الكثير عما يجري في مكاتبها وبين مالكيها، ولا نعرف الكثير عن صفقاتها وعلاقاتها بالسلطات المختلفة، كما هي حال غيرها من الصناعات؟
ثانيا – خطورة التحالف الساسي-العسكري
اجرى جون كينيث غالبريث وهو أحد أهم المفكرين الاقتصاديين في الولايات المتحدة دراسة حذر فيها من عواقب سيطرة التحالف الصناعي-العسكري على السياسة الأمريكية وتركت كتاباته الفلسفية والاقتصادية والسياسية أثرا كبيرا خلال فترة حرب فيتنام على السياسيين الأمريكيين .الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، وهو جنرال سابق في الجيش تولى قيادة قوات الحلفاء في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، كان قد حذر أيضا من سيطرة التجمع الصناعي-العسكري على السياسة، وذلك في خطاب الوداع الذي ألقاه عام 1961 بعد أن أمضى فترتين في الرئاسة. وكانت واقعة اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي، الذي خلف أيزنهاور، وما أحاط بعملية الاغتيال من غموض حتى الآن دليلا على تشعب وتعقيد علاقات شركات السلاح الأمريكية بالسياسة، وقدرتها على التغلغل في كل مراكز صنع القرار، خصوصا وأن كينيدي كان يسعى إلى إنهاء الحرب الباردة بطرق سلمية.
أصبحت الحرب فرصة ذهبية لشركات صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة لتحقيق أرباح استثنائية، وزيادة مبيعاتها من الأسلحة الجديدة والتقليدية. كما تتطلع هذه الشركات إلى تحقيق أرباح غير مسبوقة ، بعد أن اتفقت قيادات الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري على ميزانية عسكرية قياسية تصل إلى 858 مليار دولار للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، بزيادة 115.5 مليار دولار عن ميزانية الدفاع الأصلية لعام 2022 بنسبة زيادة تبلغ 15.6 في المئة تقريبا.
منذ العام 2022 قرر الرئيس الأمريكي جو بايدن تزويد أوكرانيا بأسلحة من مخزون وزارة الدفاع الأمريكية للمرة الثامنة والعشرين ، بقيمة مليار دولار. وتتضمن الأسلحة والمعدات بطاريات صواريخ باتريوت المتطورة للدفاع الجوي، وهي منظومة قادرة على إسقاط صواريخ كروز والصواريخ الباليستية قصيرة المدى والطائرات بنسبة أعلى بكثير من أنظمة الدفاع الجوي المقدمة سابقا، إضافة إلى ذخائر ومعدات عسكرية لتعزيز قدرة أوكرانيا على مواصلة الحرب علاوة على مساعدات أمنية إضافية بقيمة 850 مليون دولار. وقالت وزارة الخارجية الأمريكية أن إجمالي المساعدات العسكرية الأمريكية إلى أوكرانيا قد وصلت إلى أعلى معدلاتها .
اما الحرب في غزة فتشير تقارير إحصائية بأن شركات السلاح الأمريكي – الإسرائيلي قد سجلت أرقام معاملات غير مسبوقة ،
وتختلف حسابات شركات الأسلحة ومالكيها من أعضاء الكونغرس الأميركي وكبار رجال الأعمال في الولايات المتحدة في “إسرائيل” عن رغبات المسؤولين. ففي الوقت الذي ترغب فيه الإدارة الامريكية بكبح التصعيد لأسباب تتعلق بحظوظ الرئيس جو بايدن الرئاسية في الانتخابات المقبلة، تتطلع شركات الأسلحة إلى ما يجري على أنه “فرصة لتحقيق مزيد من الأرباح الهائلة” على حد تعبير محللة وول ستريت و كريستين ليواج.
وتتقاطع صادرات السلاح الذي تنتجه إسرائيل، مع التجارة الدولية بأدوات الموت التي بات التجار والوكلاء الإسرائيليون من أبرع العاملين فيها عالميا وأكثرهم خبرة لا سيما وأن معظمهم من خريجي الجيش والدوائر الأمنية، وقد اكتسبوا خلال خدمتهم الرسمية معارف وخبرات واطلعوا على أسرار حربية، وشاركوا في دورات كثيرة مع ضباط ومسؤولين من دول أخرى. ومع عولمة التجارة بما فيها تجارة السلاح، حيث تكشف احدى التقارير وان اسرائيل قد اشرفت على نقل سلاح أنتج في صربيا بناقلات بحرية يونانية إلى القبائل والقوى المتصارعة في شرق أفريقيا أو للميليشيات المتقاتلة في ليبيا والسودان في مناطق نزاع دولي. لقد ثبت وفق تحقيقات دولية تورط اسرائيل في بيع أسلحة لحكومة جنوب السودان، وبيع أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية للمتمردين على هذه الحكومة. هذا البلد المنقسم حديثا السودان، والذي أنهكته المجاعات والحروب بين القبائل ، ما أوصل هذه الدولة الغنية بموارد النفط إلى شفا الانهيار الشامل. وقد تخلل هذه الصراعات بمنطقة الشرق الأوسط ارتكاب مجازر ضد الإنسانية وعمليات قتل للمدنيين واغتصاب للنساء على نطاق واسع، واللافت أن اسرائيل الضالعة في تزويد مختلف الأطراف بالأسلحة لم تكن ابدا تحت طائلة العقوبات او التحقيقات الجنائية على ارتكابها جرائم ضد الإنسانية. الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الأمنية التي كشفت التقارير الموثقة وأنهم تجار السلاح على امتداد العالم، والأمر لا يقتصر على ضخ مزيد من العملات الصعبة للخزينة الإسرائيلية، بل يشمل كذلك اهتمام مراكز القرار الإسرائيلي بهذا القطاع “الواعد” وتوفير كل أسباب الدعم لنموه وتطوره، بالإضافة لما يمكن أن تجلبه صادرات السلاح من فوائد سياسية ودبلوماسية ونفوذ متعاظم لدى دول تقيم، علاقات سياسية مع إسرائيل.
ثالثا- تحويل التوتر إلى حرب
- التربح من الحرب:
تتربع شركات السلاح الأمريكية على قمة الشركات المصدرة للسلاح في العالم، وتحتل خمس شركات أمريكية المراكز الأولى بين أكبر عشر شركات لصناعة الأسلحة في العالم، وهي شركات لوكهيد مارتن، ورايثيون للتكنولوجيا، وبوينغ، ونورثورب غرومان، وجنرال دايناميكس. وتسيطر هذه الشركات فيما بينها على النسبة الأعظم من إمدادات السلاح إلى القوات الأمريكية، وكذلك على النسبة الأكبر من الصادرات العسكرية الأمريكية للعالم. وأبدت دراسة أصدرها معهد كوينسي دهشتها من سرعة تمرير قرارات المساعدات العسكرية لأوكرانيا، التي تصب مباشرة في مصلحة شركات السلاح، وهذه الشركات تنفق مبالغ سخية على ما يقرب من 700 من شخصيات وجماعات الضغط السياسي، منهم أعضاء في الكونغرس، من أجل ترويج مصالحها وتم تقدير نفقات هذه الشركات لهذا الغرض بحوالي 2.5 مليار دولار خلال العقدين الأخيرين.
وتهيمن شركات الصناعات العسكرية الخمس الكبرى التي تعمل في مجالات صناعات الطيران والفضاء والسفن والمعدات الدفاعية على المشتريات العسكرية للبنتاغون. على سبيل المثال فإن شركة «بوينغ» تستحوذ وحدها على أكثر من 20 في المئة من مخصصات المشتريات العسكرية لوزارة الدفاع. وقد سجلت أسهم هذه الشركات قفزات كبيرة بعد نشوب حرب أوكرانيا تراوحت بين 8 إلى أكثر من 22 في المئة في الوقت الذي كان فيه مؤشر ستاندرد آند بورز قد هبط بنسبة 4 في المئة بعد نشوب حرب أوكرانيا.
وقد ارتفعت المبيعات العسكرية لشركة رايثيون بنسبة 9 في المئة في العام الماضي، لتصل إلى 42 مليار دولار، وبذلك جاءت في المرتبة الثانية بعد لوكهيد مارتن التي بلغت مبيعاتها في العام نفسه 60 مليار دولار، حسب تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لدراسات السلام” سيبري” بلغت قيمة المبيعات العسكرية للشركات المئة الرئيسية في سوق السلاح العالمي في العام الماضي 592 مليار دولار وذلك على الرغم من التحديات التي تواجهها شبكات الإمدادات العالمية وسياسة التسلح هذه هي بمثابة الرد الأمريكي على التقدم الصيني في الميدان العسكري حيث تسعى هذه الشركات حاليا إلى زيادة قدراتها التكنولوجية، من أجل اللحاق بالتطورات السريعة التي تشهدها الصناعات العسكرية على مستوى العالم. وتسجل تقارير معهد سيبري أن 80 في المئة من صادرات السلاح في العالم تستحوذ عليها الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن إضافة ألمانيا. وفي ظل التوجهات الحالية للحرب وزيادة الإنفاق العسكري في اسرائيل و ألمانيا واليابان وتايوان ، فمن المتوقع أن يشهد العام المقبل انتعاشا كبيرا في المبيعات العسكرية. - قوة شركات الأسلحة السياسية
على الرغم من أن الأمر يتعدى مجرد “سوق حرة”، بل تتداخل فيه سلطة شركات صناعة الأسلحة على القرار السياسي الداخلي، سواء في الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها من الدول المصنّعة للأسلحة كفرنسا وألمانيا وإيطاليا وسويسرا، وهذا ما لا ينطبق على الصين، إذ إن صناعة الأسلحة مرتبطة مباشرة بالسلطة المركزية للدولة أو للمكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم.
بحسب منظمة العفو الدولية في تقريرها حول انتشار السلاح في العالم وعوامل الحدّ منه، “لم يطرأ أي تغيير على القانون الفيدرالي الأميركي الذي يحكم التجارة في الأسلحة بل ان القوانين الامريكية فشلت بطريقة مفتعلة في مواكبة التغييرات في الصناعة الحربية من حيث النطاق والحجم ونوع المنتجات التي يتم تصميمها وبيعها. والقوانين القديمة غير مهيأة لمعالجة التقدم التكنولوجي مثل مبيعات الأسلحة عبر الإنترنت، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وبنادق الأشباح محلية الصنع والتي لا يمكن تعقبها، وانتشار كواتم صوت الأسلحة النارية وغيرها من الملحقات الخطرة.
خلاصة : لم يكن من المتصور وأن السياسة الدولية هي مخبر لشركات السلاح العالمي .فمع هذا الارتباط الوثيق لم يعد لمعاهدات السلام ولا لأجهزة الأمن الدولي ولا للعدالة الدولية أية مركز ثقل في تحديد التصنيف الائتماني بل على العكس فقد اثبتت الدول الطاغية بما فيها امريكا واسرائيل ان امتلاك السلاح الفتاك هو أداة ائتمان وقوة في تحد صارخ للمجتمع الدولي باسره و أمن وسلم المجتمعات وتحديات المناخ وبقاء الأنسان على قيد الحياة .