الجيش الأوروبي الموحّد والتّحرر من الهيمنة الامريكية

إعداد: صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات

مراجعة : الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية

تسعى أوروبا الى تركيز استقلالها الذاتي على مستوى قوّاتها الدّفاعية بعيدا عن هيمنة الولايات المتحدة الامريكية من خلال حلف الشمال الأطلسي، ذلك ما دعى اليه الرئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون” مؤخرا الذي تولّى قيادة الاتحاد الاوروبي، فقد كان هذا المشروع حبيسا لعدّة عراقيل في السنوات الفارطة ولم يتمّ التّعامل معه بالجدية الكافية، إلا أنّ الامر حاليا يُعد مختلفا للغاية، إذ تصرّ فرنسا رغم كلّ الصعوبات على تفعيل الجيش خاصّة مع سيطرة حلف الشّمال الاطلسي وخسارتها عديد الملفات الدّولية الاخرى، فهي تبحث عن ورقة رابحة في ظلّ الازمات التي تواجهها.

عوائق تأسيس الجيش الاوروبي الموحّد

انطلقت فكرة التأسيس للجيش الاوروبي الموحّد في ثمانينات القرن الماضي من الرّئيس الفرنسي السّابق  “فرانسواميتران” والمستشار الألماني “هلموت كول” وقد شكّل مشروع تأسيس هذا الجيش  جزءا من جملة مشاريع أطلقها الطّرفين لتطوير اوروبا بداية من فرنسا وألمانيا كونهما البلدين الاكثر قوّة اقتصاديا وسياسيا في الاتحاد الاوروبي، لكن المشروع ظلّ قيد الإطار النّظري، دون تطبيقه على أرض الواقع بسبب التّركيز على قضايا اخرى، في المقابل تمّ الاقتصار على تكوين “الفيلق الاوروبي” المشكّل من 1000 جندي فقط ويتركّزون بصفة خاصة في ستراسبورغ في فرنسا.

لم تقف فكرة التأسيس لهذا الجيش في تلك الفترة، فقد عادت الى الظّهور في النّصف الاول من تسعينات القرن الماضي (عام 1950) عند قيام الحرب في يوغسلافيا حينها صرّح رئيس فرنسا السابق “جاك شيراك” ورئيس وزراء بريطانيا الاسبق “توني بلير” في بيان لهما أنّه : يجب أن يتمتّع الاتحاد الأوروبي بالقدرة على القيام بأعمال مستقلّة، بدعم من قوّات عسكريّة ذات مصداقيّة”.

وفي عام 1999 تمّ إنشاء فرق عسكرية مصغّرة مكوّنة من 50 الف جندي الى حدود عام 2007 حين تمّ تشكيل مجموعتين تكتيكتين تتشكّل كل واحدة من 1500 جندي من الاتحاد الاوروبي، لكنّ ظلّت هذه المشاريع الدّفاعية المصغّرة نظرية ولم تُفعّل طيلة عشر سنوات كنتيجة لبعض العوائق التّي من أبرزها اتفاقية لشبونة الصّادرة في شهر أكتوبر من عام 2007.

تعتبر هذه الاتفاقية شبيهة بدستور الاتحاد الاوروبي، وتُعطي الحق بإبرام مشاريع واتفاقيات تهدف الى الدفاع الذاتي الموحّد لدول اوروبا، لكنّها تمنح الاولوية لتمتّع كل دولة باستقلالها الوطني في المسألة الدّفاعية، وبناءً على ذلك تترك الخيار لكلّ منها بالانضمام الى حلف الشّمال الاطلسي او التعويل على نفسها، جعل ذلك كل من “نيكولا ساكوزي” رئيس فرنسا السّابق ورئيس الوزراء الاسباني السّابق “خوسيه ماريا أزنار” يرفضان قطعيا فكرة الاستقلال الدّفاعي للاتحاد الاوروبي مقابل اضطلاع النّاتو بذلك.

أمّا العائق الثّاني فهو جملة الالتزامات المقيّدة للدّول الاعضاء من الاتحاد الاوروبي في حلف الشّمال الاطلسي، فمثلا خلال قمة الاطلسي المنعقدة في بريطانيا تعهّدت هذه الدّول بتخصيص 2% من النّاتج المحلي الاجمالي على الدّفاع في بداية عام 2024، وهو أمر لا يجب الاخلال به في كلّ الظّروف، لذلك فإن مسألة الدفّاع الاوروبي الموحّد تُعد غاية صعبة في ظلّ هذه النّفقات، ذلك الى جانب نفقاتها (دول اوروبا) الضّخمة من شراء المعدّات الدّفاعية والتي قاربت قيمتها 26.4 مليار يورو سنويا نتيجة اعتمادها على أنظمة دفاعية متنوّعة.

كما شكّل الاختلاف الكامن بين مختلف القوّات العسكرية للبلدان الاوروبية عائقا كبيرا أمام توحيد القدرات الدّفاعية أو بما يمكن أن يُطلق عليه بـ غياب عقيدة عسكرية موحّدة بين دول الاتحاد الاوروبي، إذ أن مشروع تكوين جيش اوروبي يتطلّب تجانسا على مستوى عمليّات التّدريب والمعدّات المستخدمة والقوّة، وذلك يعد أمرا صعبا للغاية خاصّة في ظلّ التنافر الشديد بين دول الاتحاد الاوروبي، إذ لا يمكن بتلك السّهولة توحيد الجيوش الاوروبية نظرا للاختلافات العميقة والكثيرة فيما بينها لأنّ ذلك يتطلّب وقتا طويلا، كما قد تحمل الى ظهور بعض الاعتراضات والاختلافات بين دول الاتحاد الاوروبي حتّى إذا كانت الموافقة على تشكيل جيش موحّد مطلقة تمامّا، فإنه من المحتمل جدّا بروز بلد ساعٍ لفرض هيمنته وفكره، ممّا سيعرقل تكوين الجيش، فمثلا تعتمد فرنسا على الجانب العسكري في سياساتها الخارجية لذلك فإن الرئيس له صلاحيات واسعة فيما يتعلّق بتوجيه القوّات العسكرية، في حين أنّ ألمانيا على العكس من ذلك فإنّها متحفظّة بشدة في توظيف قوّاتها العسكرية الخاضعة لسلطة البرلمان، وبالتّالي فإنّ أي تدخل عسكري ألماني سيكون نابعا بصفة آلية من التّفويض الشّعبي، وذلك من شأنه أن يُحدث خلافا واضحا بين البلدين في إطلاق القوّات العسكرية.

كذلك ساهم الاختلاف في وجهات النّظر على مستوى غاية السّعي الى تكوين جيش اوروبي موحّد سابقا في الوقوف حاجزا أمام تأسيسه، فمثلا ترى بريطانيا أنّ الاستقلال الدّفاعي لأوروبا هو أمر ضروري لتخفيف ثقل المهمة على الولايات المتحدة الامريكية، كما انّ هناك بعض البلدان على غرار بولونيا ودول البلطيق تبني مشاريعها الدّفاعية فقط ضدّ روسيا التي ترى أنّها العنصر المهدّد الدائم لها، لذلك تأسيس الجيش الموحّد لا تُحدث فارقا كبيرا بالنسبة لها مع وجود الولايات المتحدة الامريكية المعروفة بعداوتها لروسيا، أمّا ألمانيا فهي تنظر للأمر بطريقة مغايرة تمامًا إذ لا ترى أنّ هناك تهديدا واضحا يستدعي ذلك لكنّها في نفس الوقت لا تعارض، في حين تُعدُّ فرنسا البلد الاوروبي الاكثر صلابة في موقف تأسيس الجيش الموحّد مستقلّ بذاته عن الولايات المتحدة الامريكية بناءً على عديد الاسباب، وعمليّة إقناع بعض الاطراف الاوروبية الاخرى الحليفة للولايات المتحدة الامريكية داخل حلف الشّمال الاطلسي تُعد مهمّة صعبة للغاية خاصّة في ظلّ عدم وجود مؤشرات تدل على نجاح الجيش الاوروبي الموحّد في المستقبل، لذلك من الطبيعي أن ترى بعض البلدان أنّ الاقدام على الموافقة على هذه الخطوة ليس إلاّ مجازفة منها.

الى جانب هذه العراقيل، فقد اضطلعت الولايات المتحدة الامريكية بدور هامّ للغاية في تعطيل مسار تفعيل الجيش الاوروبي الموحّد معتبرة أنّه لا حاجة له بوجود حلف الشّمال الأطلسي، ولكن الواقع اليوم هو كذلك نهاية الحلف الأطلسي وهزيمة كبيرة لهذا الجيش الهجين.

عودة الى التفكير في مشروع التأسيس للجيش الاوروبي الموحّد

 عادت التّطلعات لتشكيل الجيش الاوروبي الموحّد للنّقاش مجدّدا بسبب الانسحاب الامريكي من افغانستان الذّي خلّف حالة من الارتباك لدى الفرنسيين، إذ وجدت فرنسا نفسها في تبعية الولايات المتحدة الامريكية من خلال انسحابها هي بدورها من الاراضي الافغانية رغم رفضها القاطع لهذه الخطوة التي طالما اعتبرت أنّ تداعياتها ستكون خطيرة، لكن عدم استقلالها العسكري وضعفها مقارنة بالولايات المتحدة الامريكية فرض عليها الانصياع التام لرغبتهم وأثار ذلك فيما بعد رغبتها في العودة الى فتح ملف تكوين جيش موحّد يكون قائما بذاته بعيدا عن حلف الشّمال الاطلسي.

 كما خلّف التحالف الثلاثي بين كل من الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا واستراليا في سبتمبر الماضي موجة غضب لدى الاتحاد الاوروبي خاصّة بعد إقصائه من المحيط الهادي والهندي رغم التّمركز العسكري الفرنسي في المنطقة بما يقارب 8000 آلاف جندي، وقد تزامن ذلك مع فسخ استراليا عقد الغواصات الموقّع بينها وبين فرنسا في عام 2016 والذي قدّرت قيمته بـ 65 مليار دولار مقابل القيام باتفاقية تنفيذ برنامج التّزويد بغواصات تعمل بالدّفع النّووي مع الولايات المتّحدة الامريكية وبريطانيا في إطار تحالفهم المسمّى بـ “اوكوس” الهادف لمجابهة الصين في المحيط الهادئ، وقد مثّل ذلك استفزازا حادّا لفرنسا في علاقتها بالولايات المتحدة الامريكية واستراليا وبريطانيا.

في هذا الاطار قال المفوض الاعلى للسياسة والامن في الاتّحاد الاوروبي “جوزيببوريل” في اجتماع في سلوفينيا بين وزراء دفاع دول الاتحاد الاوروبي إبان سيطرة حركة طالبان على الحكم:

“لقد أظهرت أفغانستان أنّنا تأخرنا في الاستقلال الذّاتي الاستراتيجي تترتّب عليه تكلفة، وأن السّبيل الوحيد للمضي قدمًا هو توحيد قواتنا، وتعزيز، ليس فقط قدرتنا، لكن أيضا إرادتنا في العمل” وقد انتهى الاجتماع الى اتفاق وزراء الدّفاع الى توحيد قوّتهم الدّفاعية في شكل جيش مستقلّ بين الدول الاوروبية يتكوّن من 5000 جندي.

كما صرّح الرئيس الفرنسي ماكرون مؤخرا بأنّ الولايات المتحدة الامريكية لن تحترمهم كحلفاء إلاّ إذا كانت شؤنهم الدّفاعية ذات سيادة مثلما هو الحال بالنسبة للصين، لذلك فإنّ إحياء فكرة تأسيس جيش موحّد حاليا تجاوزت إطارها النّظري لينطلق ماكرون في الجانب العملي ابتداءً بنعش جيوش اوروبا بحلف الشّمال الاطلسي. وردّا على اتفاقية الغوّاصات بين استراليا والولايات المتحدة الامريكية التّي اعتبرتها فرنسا خطوة مستفّزة للغاية بادرت بدورها في الدّخول في سلسلة التّفاوضات مع روسيا حول ملف اوكرانيا بعيدا عن التّصعيد الامريكي.

وترى الولايات المتحدة الامريكية أنّ هذه المبادرة الفرنسية (التّفاوض مع روسيا) ليست إلاّ خطوة مستعجلة للغاية في تفعيل الجيش الاوروبي الموحّد على حساب شق حلف الناتو، رغم أنّ أهداف هذا الجيش كانت واضحة لكلّ الاطراف من البداية بأنّها لمناهضة التّهديدات الرّوسية والصّينية، لكن واشنطن على يقين تامّ بأنّ فرنسا تستهدفها مباشرة لضرب هيمنتها الدّفاعية حتّى وإن كان ذلك على حساب مصالحها، وبالتّالي فإن الهدف من الدّخول في حوارات مع روسيا ليس لا علاقة له بالبحث عن حل للملف الاوكراني بقدر ما هو سعي لإضعاف حلف الناتو وعدم الدّخول في حرب مع روسيا خاصّة وأنّ إغلاق الغاز والنّفط على اوروبا يثير مخاوفها بشدّة.

حاليا وبعد تزعّم فرنسا للاتحاد الاوروبي، اصبحت التأسيس لجيش موحّد فكرة مؤكّدة حيث بادر زعماء الدّول الاوربية لتأسيس قوّة دفاع تسمّى “قوّة الدّخول الاوّل” كبديلة لحلف الشمال الاطلسي تتكوّن من 5000 فرد بالاعتماد على سفن عسكرية وطائرات حربية ودبّابات مدرّعة واسلحة صاروخية،ومن الدّول الاوروبية الموافقة على تشكيل هذه القوّة هي ألمانيا واليونان قبرص والنمسا وبلجيكيا والتشيك وإيرلندا وإيطاليا وهولندا والبرتغال وإسبانيا وسلوفينيا، وقد تمّ تخصيص بندا في ميزانية الاتحاد الاوروبي من أجل تمويل الدّول الاعضاء لمشروع الجيش الموحّد لتطوير الاسلحة وجميع مستلزمات هذه القوّة الدّفاعية.