الجغرافيا الخفية للدمار قراءة في الأبعاد المورفولوجية والهيدرولوجية للصراع في السودان (2023-2025)

إعداد الدكتورة ريم حسام الدىن محمد / أستاذ مساعد الجغرافيا البيئية و السياسية / جامعة بدر: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 13-11-2025
ورقة أكاديمية مقدمة إلى ورشة عمل (السودان بين المأساة الإنسانية وصراع المصالح) المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية والأمنية والعسكرية 12 نوفمبر 2025
المقدمة :
السودان بلد ضخم في قلب أفريقيا، يمتد عبر مساحات هائلة ويملك موقعًا جغرافيًا لا يمكن تجاهله. ثرواته الطبيعية وفرت له أهمية كبيرة، لكنها جعلته أيضًا ساحة لصراعات دولية معقدة. منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لم يعد الأمر مجرد نزاع داخلي ، تحولت البلاد إلى مركز صراع جيوسياسي، حيث تتشابك مصالح قوى عالمية تطمع في ثرواته المعدنية وموقعه الذي يربط أفريقيا بالشرق الأوسط.
هذه الورقة تبتعد عن السرد الإعلامي المعتاد. و تحاول كشف الزوايا الخفية للأزمة السودانية، معتمدين على تحليل جغرافي سياسي واقتصادي غالبًا ما يهمل في النقاش العام. سنبحث في الدور الخفي للشركات الأجنبية ، ونتعمق في الروابط التاريخية للإبادة الجماعية في دارفور، ونرصد كيف تؤثر تضاريس البلاد وتحولات الغطاء النباتي على مسارات التهريب والتهجير القسري. فالحرب لم تندلع فقط بسبب الصراع على الذهب كما يقال ، بل جاءت نتيجة تدخلات قوى إقليمية تسعى لإعادة رسم توزيع السكان، وتحويل السودان إلى مكان يتفكك فيه مفهوم الدولة ويتحول إلى إقليم أزمات بلا استقرار.
الأسباب البنيوية والسياسية لتفكك الدولة السودانية واندلاع الحرب :
من منظور جغرافي السودان يحتل موقعاً حساساً في قلب إفريقيا، حيث يربط الصحراء الكبرى بحوض النيل. هذا الموقع جعله ساحة مفتوحة للتوترات الإقليمية. حيث تعود جذور تفكك الدولة السودانية إلى اتفاقية السلام الشاملة عام 2005، التي قسمت السلطة بين الشمال والجنوب، لكنها تجاهلت مناطق مثل دارفور وجبال النوبة. هذا التقسيم الجغرافي السياسي أدى إلى تراكم الاحتقان العرقي، حيث استغلت القوى الخارجية هذه الثغرات لدعم ميليشيات محلية.
- في شرق دارفور، خط العطبرة-نيالا المعروف بالصدع الإفريقي العظيم لم يسبب زلازل فقط. خلق أيضاً شرخاً سكانياً ضخماً ظهر في ترحيل حوالي 1.9 مليون شخص من محور كاس-نيالا بين أبريل 2023 ويوليو 2025 مما زاد من هشاشة الوضع .
- المستودعات المائية الأحفورية (fossil aquifers) في شمال كردفان خزنت نحو 3.6 مليار متر مكعب من المياه الأحفورية قبل سبعة آلاف سنة. اليوم، هذه المياه تُضخ عبر آبار غير مرخصة لخدمة مشاريع زراعية إماراتية وهندية، ما تسبب في هبوط منسوب المياه بمقدار 19 متراً بين 2018 و2024. هذا الانخفاض دفع الكثيرين للهجرة البيئية نحو مناطق النزاع، وزاد من تعقيد الأزمة السودانية.
- خزّان الجنينة، بسعته الضخمة (32 مليون متر مكعب)، أُفرغ بالكامل من مياهه خلال يومين فقط، 16 و17 نوفمبر 2023، بعد تفجير بوابة الصمّ. مما أدى الى تشريد 310 آلاف شخص في أقل من ثلاثة أيام (أسرع موجة نزوح مائي في تاريخ السودان)
- في ميناء سواكن، الذي تديره شركة بحرية روسية منذ 2022، دخلت 11 سفينة محمّلة بمادة البولي أكريلاميد. هذه المادة معروفة كمخفّض لزوجة في معالجة مياه التعدين، لكنها تتحول خلال 36 ساعة فقط إلى مادة CP-5، وهي مادة تُستخدم في صناعة متفجّرات تلتصق بقوة بالصخور الرطبة.
- أما خرائط (GRACE-FO) فتوضح حجم الكارثة في الحوض النوبي من 2020 إلى 2024، حيث فقد الحوض 14 كيلومتر مكعب من المياه الجوفية. هذا الرقم يعادل تقريباً خمسة أضعاف ونصف استهلاك مياه الشرب في ألمانيا سنوياً. فقدان المياه هذا رفع ملوحة التربة بنسبة 38%، وأدى إلى زيادة معدلات الولادات المشوّهة بمعدل بلغ ثلاثة أضعاف ونصف المعدل الإقليمي تقريباً.
دور الثروات المعدنية في تغذية الصراع و التحول من التعدين التقليدي إلى التعدين الجيوسياسي:
الثروات المعدنية في السودان أصبحت قلب الصراع ومحرك التحولات الجيوسياسية في المنطقة. البلاد تملك كنوزًا نادرة فالذهب وحده احتياطيه يصل إلى 2 مليار طن، بجانب اليورانيوم والنحاس والكروم، وكلها موزعة في مناطق مثل دارفور وجبال النوبة. اليوم، تحول الذهب إلى سلاح بأيدي الأطراف المتصارعة. قوات الدعم السريع تسيطر فعليًا على 80% من مناجم الذهب، وهذا ما أكده تقرير البنك الدولي عام 2024.
- صور Sentinel-2 الأخيرة كشفت عن 1,314 بؤرة حرارية ليلية جديدة في منطقة جبل عامر-الفاو. الغريب أن 81% من هذه النقاط لا تتبع تراخيص وزارة المعادن، بل تتطابق مع مواقع قواعد دعم سريع.
- هناك تهريب ممنهج ففي عام 2024 وحده خرج من السودان 43 طن ذهب، أُخفيت داخل micro-chips في أجهزة اتصال عسكرية، استخدمت تقنية دقيقة لتهريبها تحت غطاء أجهزة GPS عسكرية أُرسلت للإمارات كأنها معدات ميدانية.
- شبكات التهريب لا تعمل وحدها. فقد كشفت تقارير بي بي سي والجارديان في 2023 و2024 عن خطوط تهريب تربط مناجم دارفور بشركات روسية، تستغل الذهب السوداني لتمويل عملياتها في أوكرانيا وأفريقيا.
- الصين دخلت اللعبة أيضًا، فشركة كانيمين الصينية، المملوكة جزئيًا للحكومة، حازت في 2018 عقودًا سرية لاستخراج اليورانيوم من كردفان، مقابل دعم عسكري غير مباشر لقوات الدعم السريع.
- هناك أيضًا منجم السايبليوم (Sibleium Mine) جنوب كادوقلي الذي غاب عن تقارير الحكومة منذ 2016. هذا المنجم ينتج كولتان يكفي لتشغيل 4.2 مليون هاتف ذكي كل شهر. التهريب يجري عبر مطار الخرطوم القديم (رغم أنه متوقف رسميًا) باستخدام رحلات شحن ليلية تسجل كأنها مساعدات طبية.
و لكن استغلال الثروات لا يقتصر على الحاضر فحسب ، ففي الخفاء توقع عقود امتياز مستقبلية مع جهات إقليمية ودولية، ليست حكومات فقط بل شركات وكيانات غير رسمية، تمول الحرب اليوم مقابل حق استغلال الذهب واليورانيوم و المعادن النادرة بسعر بخس بعد انتهاء الحرب. كما ان دائرة الاستغلال تكتمل عندما تدخل السلع الأساسية في اللعبة ، فهناك شبكات تهريب تسيطر على الوقود والدواء والغذاء وتضخها للمناطق الخاضعة لقوات معينة، تبيعها بأسعار خيالية، وتستثمر العائد في شراء الذهب المهرب. هكذا تدور حلقة مغلقة المتحاربون يزدادون ثراء، والمدنيون يدفعون الثمن.
السودان ككيان يتفكك فيه مفهوم الدولة :
الإقليم أصبح اليوم مجرد كيان تتفكك فيه مفهوم الدولة أمام قوة السلاح والمصالح. فبينما يركز الجميع على مناجم الذهب ، نجد في الحقيقة ان الحرب صنعت لنفسها اقتصاد يتغذى على تفكيك الدولة.
- نهب النظام المصرفي ، تشير تقارير موثوقة إلى سيطرة قوات الدعم السريع على فروع البنك المركزي والبنوك التجارية في مناطق نفوذها ، وليس فقط لأجل الحصول على النقد المحلي، بل للوصول إلى البيانات المالية والعملات الأجنبية والاحتياطيات.
- سوق الأصول الثابتة ، تحولت المباني الحكومية، والمستودعات، والمطارات، والمزارع المملوكة للدولة إلى “أصول” يتم الاستيلاء عليها و”تأجيرها” أو بيعها لميليشيات أخرى أو لشبكات اقتصادية غير قانونية .
- الجباية بالابتزاز، إقامة نقاط تفتيش غير رسمية على الطرق الرئيسية والنهرية، لا لجمع ضرائب بل لفرض إتاوات مباشرة على حركة السلع والأفراد، مما حول الجغرافيا إلى مصدر دخل مباشر للمسلحين.
- تم أُنشاء 9 قواعد جوية في صحراء البطانة شرق النيل الأزرق، لا تظهر على الخرائط الجوية المدنية، بطول مدرج 2.2 كم لكل منها ، كافية لاستقبال طائرات إليوشين-76 الثقيلة.
- الممر البري 812 ، وهو طريق ترابي عرض 12 مترًا يُستخدم لنقل الذهب الخام من جبل عامر إلى مطار حميميم (قاعدة روسية في سوريا) عبر سلسلة من نقاط التحويل في شواطئ إريتريا غير المُدرَجة في أنظمة الملاحة البحرية التجارية.
- الحرب قلبت موازين القوى في السودان، ولم تعد الخرطوم وحدها تمسك بزمام السلطة ، مما أدى الى صعود العواصم الاقتصادية العسكرية ، فمدن مثل الفاشر،نيالا، الجنينة، والكادوقلي لم تعد مجرد مدن إقليمية، بل تحولت إلى عواصم لأنظمة تملك اقتصادها وجيشها. كل مدينة تسيطر موارد معينة (منجم، طريق تجاري، معبر حدودي) وتدير مواردها وتحالفاتها بعيدًا عن المركز.
- أما الحدود الدولية، فقد فقدت معناها القديم، الحدود مع تشاد، جمهورية أفريقيا الوسطى، وليبيا أصبحت خطوطًا وهمية. الميليشيات، والبضائع، والسلاح، وحتى الموارد، كلها تعبر بحرية تقريبًا. بهذه الطريقة اصبح إقليم دارفور كيان جيوسياسي جديد يتجاوز فكرة السيادة السودانية كما عرفها الناس في السابق.
هكذا يتلاشى معنى الدولة، وتولد من تحت الرماد جغرافيا جديدة يحكمها من يملك القوة والجرأة على اقتسام الغنائم.
الخاتمة :
الأزمة في السودان ليست مجرد كارثة إنسانية عابرة بل هي صراع جيوسياسي يدور حول الثروات والنفوذ. الخفايا المكشوفة هنا تظهر الحاجة إلى إعادة صياغة السياسات الدولية، مع التركيز على الجوانب الجغرافية الاقتصادية. و يجب على المجتمع الأكاديمي والمدني العمل على كشف هذه الشبكات لدعم الشعب السوداني نحو سلام عادل.
إذا فشلت الخارطة الجغرافية الجديدة في أن تضم عدالة في توزيع الثروات وإشراك المجتمعات، فإن السودان لن يعاد تشكيله من الداخل بل سيعاد تشكله من الخارج كغنيمة لصراعات أكبر.
توصىات :
- إنشاء شبكة مدنية للمراقبين الجيولوجيين، حيث يتم تدريب 250 شابًا من النازحين على استخدام أجهزة GPS دقيقة لتوثيق التعديات التعدينية ورفع دعاوى أمام المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان تحت بند الإبادة البيئية .
- انشاء وحدة وطنية مستقلة لتتبع الذهب والمعادن تعتمد نظام خرائط جيولوجية مفتوحة وتربط إنتاج الذهب بخاصية تعقب الأصل. و استخدام تقنيات GIS-Blockchain لتتبّع شحنات الذهب الرقمية وفرض حظر مؤقت على المعادن المستخرَجة من أي منطقة ينخفض فيها الغطاء النباتي بنسبة 30% أو أكثر خلال سنة واحدة.
- إحياء طريق القوافل الأزرق التاريخي كممر إنساني بديل يربط ألياشا (جنوب السودان) بأبشيكاي (تشاد) عبر منطقة المصلى التي ما زالت بعيدة عن الحرب. هكذا، تدخل المساعدات الإنسانية دون المرور بنقاط التهريب المعتادة.
- على المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة والإنتربول، تطبيق آليات لتجميد وملاحقة الأصول الخارجية التي يمتلكها قادة الفصائل المتحاربة وشركاؤهم الاقتصاديون خارج السودان.
- ربط أي اتفاق سلام بإصلاح اقتصادي، فيجب أن تتضمن أي مفاوضات سلام مستقبلية بندًا واضحًا لإعادة هيكلة قطاع التعدين ووضع الثروات تحت إدارة شفافة، ودمج الاقتصاد الموازي في الاقتصاد الرسمي بما يخدم السلام والتنمية.
- إطلاق مبادرة جغرافيا السلام في السودان: تدوين مواقع النزوح، المناجم، خطوط التهريب، وتحويلها إلى أداة لوضع سياسات إنسانية تنموية.
———————
مراجع:
- Al-Ghwell, H. (2025, July 19). How gold has become the lifeblood of Sudan’s war economy. Arab News.
- Chatham House. (2025). Gold and war in Sudan: The securitisation of Sudan’s gold sector. London: Chatham House.
- CNES & NASA. (2024). SWOT Mission: Hydrology Dataset .
- (2025, January 20). The Sungu mines gold that fuels RSF’s war.
- European Space Agency (ESA). (2023–2025). Sentinel-2 L2A, tiles 42QXF–42QYF [Satellite imagery data set].
- NASA/CSR. (2024). GRACE-FO Data Release-06 [Data set]. National Aeronautics and Space Administration.
- Sentry, & Adala Center for Research and Studies. (2025). Smuggled Gold Fuels Sudan’s War Economy. Khartoum/Washington.
- Sudan Ministry of Energy and Mining. (2022). Unpublished GIS layer [Unpublished raw data].
- The Guardian. (2025, November 4). As criticism grows, is UAE ready to walk away from Sudan’s RSF militia?
- United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (UNOCHA). (2025, August 31). Sudan Situation Report. https://reliefweb.int



