التلاعب بالعقول في عصر التكنولوجيا
20/05/2023
اعداد: صبرين العجرودي
صحفية باستراتيجيا نيوز
ساهم التطور التكنولوجي في بروز عديد الظواهر الاجتماعية، ذلك من خلالها هيمنتها على مختلف مناحي الحياة وعلى التصورات والتّمثلات الذهنية للمؤسسات والافراد، فلم نعد نتحدّث عن بنى اجتماعية مستقلة بذاتها عن التكنولوجيا أو عن التغيرات شديدة السّرعة التي تحدثها في العالم بأكمله. ولا يمكن التنكر لمزايا التطور التكنولوجي المختلفة التي لا يمكن إحصائها، لكنّها في المقابل ساهمت في إحداث العديد من الفجوات الاخرى التي من أبرزها فوضى المعلومات، إذ أتاح عصر العولمة في العقود الاخيرة سرعة كبيرة في نشر المعلومات والوصول اليها، وقدرة رهيبة في التلاعب بها عبر تقنيات واساليب متقدّمة يصعب تفكيكها أو فهمها، ممّا جعل الكثير من الخبراء في هذا الشّأن يجزمون بأنّ حرب المعلومات أو الاخبار الزائفة من الحروب الجديدة المستهدفة لوعي الشعوب، وإنّ تأثيراتها في حقيقة الامر لا تقف عند وعي المتقبل، بل اتسعت بشكل كبير لتحدد مصيره وتتحكّم في قراراته وآرائه، فتأثيرها كبير للدرجة التي تمكّننا من اعتبارها تنويما مغناطسيا أو غسلا للعقول.
تلعب العديد من المؤسسات والاطراف الفاعلة في المجتمع دورا هامّا في هذه الحرب مستغلة دورها في تمرير المعلومات ونشرها، ويجدر القول أنّ وسائل التواصل الاجتماعي من بين هذه الفضاءات التي أتاحت من ناحية حرية واسعة في التعبير عن الراي لكنّها أصبحت في المقابل فضاءً خصبا لنشر الاكاذيب والشائعات، ولئن يمكن القول نسبيا بغياب الرقابة على هذه الشّبكات الرقمية، فإنّ المثير للجدل بأن تكون الوسائط الاعلامية نفسها أحد أبرز الاطراف المُستغلَّة في نشر الاخبار المزيّفة وتداولها بشكل يمكن أن يكون أكثر خطورة وإقناعا من وسائل التواصل الاجتماعي، رغم ما يقيّد عملها من أخلاقيات ومواثيق دقيقة.
يجدر القول أنّ الاعلام كمؤسسة اجتماعية أو منظومة اجتماعية تمارس دورا ليس بالهين في بناء الافكار والتمثلات المتعلّقة بمختلف النّظم الاخرى، سواءً كانت اقتصادية أو ثقافية او سياسية، وهو ما ساهم في خلق موجة اهتمام كبرى بهذه المؤسسة بالوقوف عند أساليب ووسائل عملها، نظرا في أنّ هذه العناصر لم تعد مجرّد آليات تؤدي وظيفة اجتماعية ما أو تعتبر جزءَ من مسار اجتماعي، إنّما تستبطن جملة من القواعد، الواجب مراقبتها حتى تتناغم وطبيعة المنظومة الاخلاقية المراد الحفاظ عليها.
التاثير السيكولوجي لوسائل الاعلام الجماهيري
أدّى انتشار المعلومات بصفة سريعة الى تهاتف الدراسات والبحوث حول ماهية “التّأثير السيكولوجي لوسائل الاعلام الجماهيري”، وقد تمّ دراسة هذه العلاقة ضمن عنصرين أساسين أولهما “السبب” والذي يتمثّل في الخصائص التّي تميّز مادة اعلامية عن اخرى من حيث المحتوى أو من حيث الاساليب التي عُرضت بها على المتقبّل وثانيا الاثر الذي تركته عليه ويسمّى ذلك بـ”النتيجة”، بالتالي فإنّ البحوث سعت تحديدا الى تفكيك العلاقة بين السبب والنتيجة بتجسيدها ضمن نظريات وقواعد معينة، حيث يرتبط أسلوب تقديم المعلومة أو نشرها بمحتوى هذه المعلومة وبالخصائص الثقافية والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعيشها المتقبل للوصول للأثر المنشود تركه من وسائل الاعلام الجماهيري، لذلك تمّ التركيز على فهم التأثير السيكولوجي لوسائل الاعلام الجماهيري وعلى دراسة مختلف الاساليب والتقنيات المتطوّرة للتأثير على الجمهور الى جانب اضطراب المعلومات في عصر الرّقمنة والحروب المعلوماتية كشكل جديد للحروب الدولية والصراعات الداخلية داخل نفس البلد… ولم يأتي هذا الاهتمام من فراغ فقد دفعت الخطورة الكبيرة التي يشكّلها التلاعب بالمعلومات والاخبار والفوضى التي أدّى لها الى ضرورة تسليط الضوء على هذه الظاهرة العميقة وتوعية الجمهور بخباياها وأسرارها لعرقلتها في الوصول الى أهدافها، حيث أنّ تأثيراتها وصلت الى اقصى مستوياتها لتقوم بالإضرار بمصالح مؤسسات وأشخاص ودول بعينها ومغالطة الراي العام وايهامهم بقضايا وهمية …
مثّل مفهوم “الحشد” (La foule) مجالا خصبا لعلماء الاجتماع وعلماء النفس لدراسة الاثر الذي تتركه وسائل الاعلام الجماهيري عليهم من خلال الاخبار والمعلومات، و يكون الحشد مركّبا يختلف في خصائصه عن الخصائص التي يمكن أن تسم الافراد الذين يكونونه، اذ أنّه يشير الى نموذج سلوكي ما يجمع بين الافراد في نفس الحشد ويتجسّد في استجابتهم الموحّدة بشكل عفوي للمؤثرات الخارجية دون اي ترتيب مسبق منهم، بالتالي ما يجمع بين الافراد داخل الحشد هو تفاعلاتهم ذات الخصائص المشتركة … وقد كان التركيز في اغلب البحوث والدراسات التقليدية حول التأثير السيكولوجي لوسائل الاعلام الجماهيري حول أساليب إقناع الجمهور أو الحشد بالمعلومة الموجّهة، تأثير هذه الاساليب على تصوّراتهم وتمثّلاتهم الاجتماعية، توظيف الاعلام لصالح الاحتياجات الفردية …
نظريات تأثير وسائل الاعلام الجماهيري
وسائل الاعلام والاخبار الزائفة
تعتبر وسائل الاعلام الجماهيري وسيلة من الوسائل الناقلة لأنماط التفكير والمعرفة والقيم وبالتّالي فإن دورها أيضا يتمثل في بناء جزء هام من ثقافة المجتمع لذلك فهي تتداخل مع نظمه الأخلاقية، ولئن يمكن لها أن تمارس دورا ايجابيا في تعزيز وعي الافراد فيما يتعلّق بمختلف القضايا وضمان حقهم في الاعلام، إلاّ انّها قد تمارس في المقابل دورا عكسيا لمغالطة الراي العام وخدمة المصالح السياسية التي توظّفها من أجل الاساءة للأشخاص عن طريق نشر المعلومات المزيفة واعتماد التّضليل الاعلامي والدّعاية السوداء.
ويجدر القول أنّ انتشار الاخبار والمعلومات الزائفة يختلف ضرورة من بلد الى اخر ومن نظام اجتماعي الى اخر ومن زمن الى اخر ومن ظرف (سياسي، اقتصادي، اجتماعي) الى اخر، وتختلف كمية المعلومات الزائفة والمظلّلة أيضا وفقا لقدرة الافراد على مدى تصديق الشائعات، فمن غير المنطقي أن يتم التركيز بقوّة على استخدام اسلوب التضليل الاعلامي في بلد تكون فيه قدرة الجمهور المتلقي عالية جدّا في التمييز بين الخبر الكاذب والصحيح ، يمكن في جانب اخر استعمال أساليب أكثر تطورا لإقناع هذا الجمهور، لذلك تتخذ الاطراف الساعية الى المغالطة ونشر الاكاذيب كثيرا بعين الاعتبار خصائص وطبيعة الجمهور المتلقي، وهو ما يدفعنا الى القول بأنّه لا يمكن اعتماد نفس الاساليب والتقنيات.
كما تشكّل أوقات الازمات والصّراعات والحروب التي يمكن أن تخوضها الدّول بيئة ملائمة لنشر الاكاذيب، بحيث تتمكّن وسائل الاعلام غير النّزيهة من نشر أكبر عدد من الاخبار والمعلومات المزيفة متعلّلة بتسارع الاحداث وبالظّروف الخانقة التي تمر بها مجتمعاتهم، ثمّ ثانيا تجعل هذه الاوضاع من الجمهور فريسة سهلة للاقتناع بصحة الخبر الموجّه له بسهولة تامّة.
كما تدفع النّسب الكبيرة لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لارتفاع نسبة الاخبار المزيفة وتساهم في مزيد اقتناع المتلقي بصحتها، إذ تجد وسائل الاعلام الجماهيري مجالا موازيا في مواقع التواصل الاجتماعي لنشر أكاذيبها عبر الصفحات الاعلامية المدعومة، فمثلا يستغل بعض الصحفيين صفتهم لنشر الاكاذيب عبر صفحاتهم في الفيسبوك.
من ناحية اخرى، أدى اتساع فجوة انعدام ثقة الجمهور في وسائل الاعلام الى تحويل وجهتهم مباشرة نحو اعتماد مصادر مختلفة للحصول على المعلومات، ممّا ساهم في تنامي ظاهرة انتشار الاخبار الزائفة وتثمين المصادر المشبوهة، في حين ظلّ جزء من هذا الجمهور وفيا لهذه للوسائط الاعلامية التي قد يقوم بعضها بتزييف الوقائع خدمة لمصالح الاجندات السياسية دون الالتزام بأخلاقيات المهنة، إذ وصل الاصطفاف الاعلامي الى اعلا درجاته، فأصبح الانقسام الحزبي والسياسي بأنواعه منعكسا على الوسائل الاعلامية المختلفة وصار من الاعتيادي ان تتميز الوسيلة الاعلامية بانتماء ايديولوجي معروف (يساري او يميني، محافظ، ليبيرالي …)، بل أنه أصبح من غير الطبيعي ان تكون هناك وسيلة اعلامية غير منحازة او غير متبنية لأيديولوجية معينة، ذلك بدوره ما أدّى لانقسام الجماهير المتابعة لهذه الوسائل وجعلها عرضة لتلقي الاخبار الزائفة من مصادر اخرى تلبي رغبتها في دعم توجهها جرّاء انعدام ثقتها في المعلومة التي تتلقاها من الوسائل الاعلامية المخالفة لرايها هذا من جهة، ومن جهة اخرى الاقتصار على مصدر واحد في تلقي المعلومة.
الاشكال في هذا الجانب ليس في الانتماء الايديولوجي بعينه، إنّما في تداعيات هذا الانتماء وتأثيره على الخط التحريري للوسيلة الاعلامية بحيث تُصاغ المادة على القياس اما باعتماد التضخيم او تهميش لأخبار على حساب الاخرى أو التزييف او الانتقاء وغيرها من الاساليب الاخرى للمغالطة والتضليل والتشويه.
من البديهي أن ينعكس الانقسام السياسي للمجتمع على الوسائل الاعلامية، او على الاقل يمكن القول بأنّ الصراع السياسي أو التكالب بين السياسيين والاحزاب السياسية على الحكم يدفع هؤلاء بالتوجه فورا نحو السيطرة على المؤسسات الاجتماعية المؤثرة على الراي العام واستقطابها لتتبنى فكرها وايديولوجيتها باعتماد وسائل مختلفة كتوفير الامتيازات والتمويل وغيرها من الطرق الاخرى … والامر الذي أصبح يشكّل تهديدا واضحا لمهنة الصحافة والاعلام بشكل واضح، هو عدم استغراب هذا التوجه المنحرف عن اخلاقيات المهنة، حتى أنّ المتقبل أو الجمهور أصبح دون وعي منه يميل للصحافة المنحازة والمنصهرة داخل أجواء تأجيج الصراع السياسي والحزبي والمركّزة على المعلومات والتحاليل والآراء المهاجمة للطرف المقابل والمؤيدة لتوجههم الايديولوجي، في مقابل العزوف عن متابعة الوسائل الاعلامية المتشبّثة بأخلاقياتها والموضوعية واعتبارها غير مواكبة للأوضاع أو غير ناشطة وديناميكية، وقد أشار الباحثون في هذا المجال أنّ ذلك أدى الى ظهور “حقبة ما بعد الحقيقة” (Post- Truth Era) بحيث توضع الوقائع والبيانات والمعلومات الصحيحة الخاضعة للدلائل والبراهين المنطقية جنبا مقابل الايمان بالمعتقدات والتصورات المؤيدة لقناعاتهم الخاصة حتى ولو كانت غير منطقية ومبنية على المعلومات الخاطئة والمضللة، ويحيلنا ذلك على تفشي ظاهرة تصديق الافراد للإشاعة واعتبار الحقائق المخالفة لتوجهاتهم ليست صحيحة، ويُطلق على هذا النوع من النزوع السيكولوجي بـ”الانحياز التوكيدي” (confiirmation Bias) الذي يُشعر الافراد من خلاله بالراحة وبالثقة في معارفهم وتحليلاتهم، وهذا ما يسهّل عملية نشر المعلومات المزيفة بالنسبة للوسائل الاعلامية المنحازة، اذ لم يعد الجمهور يبحث عن المعلومة أو الخبر الصحيح بقدر البحث عن تلك التي من شأنها أن تدعم تصوراته، مثلا سيكون من السهل ان يصدّق المتلقي خبرا يشوّه طرفا سياسيا من حزب مخالف لتوجهاته حتى وإن كان خاطئا ولن يبذل جهدا في التّثبت من صحة المعلومة، في المقابل لن يصدّق أي خبر صحيح قد يسئ لأي جهة او طرف يؤمن به أو يدعمه وإلاّ سيشعره ب”التنافر المعرفي” وهي حالة يعيشها الفرد من انعدام الثقة في المعتقدات التي طالما كان متأكدا من صحتها. ومن هذا المنطلق تصبح البيئة مناسبة جدا لجعل الوسائل الاعلامية المنحازة تشتغل براحة في نشر الاكاذيب وممارسة التضليل.
يمكن القول ايضا بأنّ الصعود الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي وهيمنتها على مجال الاخبار والمعلومات وتفوّقها على وسائل الاعلام في نشر عدد كبير من الاخبار في وقت وجيز بطريقة اعتباطية جعل الاخيرة في وضعية اقرب الى التنافس مع هذه الشبكات وأثر بدوره على طريقة سير عملها من خلال تقصيرها في التثبت من صحة الخبر وتركيزها فقط على شد المتابعين من خلال المسارعة لنشر قدر أكبر من الاخبار أو بما يسمّى السبق الصحفي، خصوصا منها التي تساهم في خلق انفعالات معيّنة لدى الجمهور ك”الهلع” أو “الخوف” و”الشعور بالخطر”، اذ يسهل على الافراد تصديق الاكاذيب من هذا النوع ومتابعتها بشكل مكثّف خاصّة اذا ما كانت مهاجمة للمخالف لهم ايديولوجيا او سياسيا أو ثقافيا … لذلك تنتهج وسائل الاعلام هذه الاساليب لجلب أكثر مشاهدين، فالخبر المزيف يكون ناجحا اذا ما حقق الغايات التي تمّ نشره من أجلها وليس لمجرّد عدم صحته، اذ أنّه من الضروري أن تكون له خصائص معيّنة حتى ينجح في خدمة مصالح خاصة أو جلب أكثر عدد من المتابعين.
يمكن القول في هذا الاطار، أنّ نشر المغالطات وتزييف الحقائق قد تكمن وراءه دوافع مختلفة ومتعددة، بحيث تتعمّد الوسيلة الاعلامية نشر معلومات من نوع ما واعتماد أساليب مختلفة ومتعدّدة حتى يكون محتواها المزيّف قابلا للتصديق بنسبة كبيرة، بالتالي يعكس ذلك توفّر سوء النية نتيجة العلم المسبق بزيف المعلومة او الخبر، لاّ أنّ عدم احترافيتها أيضا في اداء عملها قد يكون أيضا سببا رئيسيا وراء نشرها للأخبار المزيفة بحيث يتحوّل الخطأ الغير مقصود أو المنشور عن حسن نية الى خبر مزيّف، ذلك نتيجة ضعف الوعي لدى الصحفيين بتقنيات التحري في الاخبار المزيفة والمظللة وجمع الاخبار من مصادرها، والتحكم في المحتوى الاخباري والتعامل مع المعلومات لا كوسيلة لضمان حق الجمهور المتلقي في الاعلام وإنما كوسيلة لإثارة الجدل والراي العام وجلب أكثر نسبة متابعة من الجمهور المتلقي سواء على الوسائل الاعلامية او على مواقع التواصل الاجتماعي.
لذلك وجب على وسائل الاعلام الجماهيري التّقيد بأخلاقيات المهنة في إطار الاحساس بالمسؤولية الاجتماعية من خلال الوعي بأهمية دورها في المجتمع الذي تشتغل ضمنه، ذلك من خلال رفض أي انحياز سياسي او غير سياسي والتثبت من صحة الاخبار وتجنّب توظيف خطاب الكراهية أو التحريض على العنف.
في الحقيقة يبدو أنّ عملية تطبيق هذا المبدأ يُخال لنا أنّها في غاية السهولة نظريا، ولكنّها على الارض الواقع تعد أمرا في غاية الصعوبة ان لم يكن مستحيلا خاصة مع الفوضى لتي يمر بها عالمنا العصري، إذ أنه من الصعب ان تكون المؤسسات المؤثرة غير مُستغَلّة أو مشتغلة خارج نواميس الدولة العميقة، ومن ناحية اخرى يكمن الاشكال في العمل الصحفي بعينه حيث يجهل الكثير من ممتهني الصحافة والاعلام ركائز الفصل بين الراي الخاص والحقيقة العلمية، بين الحكم المسبق المبني على تنشئة الافراد وتمثّلاتهم وميولاتهم و ومعتقداتهم… والحقائق المنفصلة عنها، وبالتالي اصبح من الضروري تكريس صحافة علمية تشتغل بمنطق البيانات الصحيحة والمؤكدة وتوظيف المفاهيم المجردة عوضا عن المفاهيم العامية والغير دقيقة.