التحولات العالمية الجديدة: كيف سيتعامل معها ترامب إذا كان رئيس المرحلة القادمة؟
إعداد صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 29-07-2024
كشفت الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024 تفاصيل الواقع الأميركي بشكل دقيق وسلّطت الضوء على التحديات التي تواجه الديمقراطية في الولايات المتحدة. ويجدر القول أنّ هذه الانتخابات قد عكست مدى التباين بين التصورات المثالية التي ارتبطت بأميركا منذ السبعينيات والحالة التي تشهدها اليوم من التراجع والتآكل التي تعيشها اليوم.
في الوقت نفسه، تعكس هذه لانتخابات الصراع بين الديمقراطيين وأنصار ترامب، وليس بين الجمهوريين التقليديين، حيث يفتقر الحزب الجمهوري إلى أجندة عمل واضحة بعد فقدانه لأبرز قادته السابقين مثل آل بوش وأفراد جيل رونالد ريغان. ويبيّن ذلك كيف أن الحزب يمر بمرحلة من فقدان الهوية، في الوقت الذي يُنظر فيه إلى ترامب كمنقذ مؤقت حتى تتضح معالم التوجهات الجمهورية الجديدة.
وذلك معاكس تماما لوضع الديمقراطيين، الذين يرتكزون على “عقيدة” أسَّسَها أوباما، والتي لا لازالت الى اليوم تمارس تأثيرا كبيرا على الوضع الداخلي الأميركي من الناحيتين الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية. وبذلك تبدو المعادلة الترامبية الأقرب لتحقيق الفوز في المشهد الأميركي الحالي، نظرًا للضعف الملحوظ للحضور الديمقراطي والتهديدات المحتملة بحدوث أزمة داخلية قد تصل إلى “حرب أهلية”، كما أشار بعض الجمهوريين.
لكن تظل مسيرة ترامب نحو البيت الأبيض مدفوعة بالكثير من المخاطر، ذلك لأنّها تقود أميركا إلى مرحلة مضطربة، خاصّة مع الاحتقان الذي وفّر بيئة خصبة لتفشي العنف السياسي من خلال محالة الاغتيال.
فمثلا يجد اليهود أنفسهم محاصرين بين ملفي أوكرانيا وغزة، في المقابل يتعامل ترامب مع هذين الملفين من جانب اقتصادي بحت، ويعد ذلك مرفوضا بالنسبة للصهاينة من الأميركيين والإسرائيليين على حد سواء.
من جهة أخرى يرى ترامب أنّ العلاقات مع أوروبا تضع الناتو أمام تحديات كبيرة في التعامل مع روسيا، ليس فقط في إطار الملف الأوكراني، بل أيضًا في ملفات أوروبية أخرى مثل “البوسنة والهرسك”، أو ما يمكن تسميته بـ “قوس عدم الاستقرار” الممتد عبر شرق وجنوب شرق أوروبا.
كما تواجه موسكو السياسة الغربية في هذه المنطقة عبر تحالف طويل الأمد مع قيادات “صربسكا”، أحد مكونات البوسنة والهرسك، إلى جانب مسلمي البوسنة. وقد تفاقم هذا التحدي الروسي مع اندلاع الصراع في أوكرانيا. وبالتالي فإنّ الخطر بالنسبة لدول الناتو يكمن في احتمال تخلي أميركا عنها جزئيًا بسبب انغماسها في الأزمة الأوكرانية، وما ينجم عن ذلك من تعقيدات سياسية واقتصادية.
أما الملف النووي الإيراني، فيظل موضوعًا قد يعود الى الواجهة من جديد باعتبار أنّه ميز رئاسة ترامب الأولى، وشكل تحديًا أكبر للديمقراطيين منه للإيرانيين.
أمّا ايران فتعتبر حاليا ضمن مرحلة حاسمة من الجانب الاستراتيجي، حيث تتفاوض مع الجانب الإسرائيلي حول توزيع النفوذ في شمال الجزيرة العربية، خاصة إذا ما تحقق “التوافق الفلسطيني” برعاية صينية، وهو ما تم تناوله في مناسبات علمية وإعلامية تحت عنوان “المرحلة العربية الراهنة ومالات المستقبل”.
توترات حتمية في الداخل الأمريكي
يواجه ترامب العديد من التحديات التي تجعل الوضع الداخلي الأميركي عرضة للعديد من المطبات. ذلك لأنّ هناك الكثير من الأطراف الفاعلة أو ما يطلق عليهم “لاعبون مؤثرون” يرفضون قطعا وصوله إلى السلطة، وفي الوقت نفسه، يؤدي احتمال خسارته كما حدث في 2020 قد يؤدي إلى فوضى عارمة تفوق “اقتحام الكونغرس”، حيث أنّ ترامب لم يتوانى في تهديد منافسيه بسيناريوهات متعدّدة تقود الى حافة الحرب الأهلية.
من ناحية أخرى، يحيل فشل سلسة القضايا الموجّهة ضد ترامب في النيل من سمعته السياسية إلى مزيد الاحتقان والانقسام في الأجواء الحالية ممّا قد يؤدي إلى تكرار محاولات اغتياله.
ورغم كل ذلك، فقد يتجه الوضع الأميركي الصعب في النهاية إلى دعم “ترامب” للوصول إلى الرئاسة، كوسيلة لتجاوز المخاطر الحالية وترحيل المشاكل إلى فترة لاحقة.
فوضوية السياسات الترامبية
تعتبر النزعة الفردية في اتخاذ القرارات من أبرز سمات ترامب، حيث سيكون فريق عمله “تابعًا” أكثر منه استشاريًا فاعلًا. تحكم الحسابات السياسية لترامب مبدأ تحقيق المنفعة الاقتصادية المباشرة، بحيث أنّه لا يتجه نحو حل أي ملف سياسي دون أن يقدم الطرف المقابل منافع اقتصادية للولايات المتحدة. وبناء على ذلك لن تكون أوكرانيا، ولا الأمن الأوروبي الشامل، خارج تطبيق هذه القاعدة.
نتيجة لذلك، ستواجه عدة ملفات حساسة وخطيرة الفوضوية التي تميز إدارة ترامب. ومن الضروري لأصحاب المصالح في هذه الملفات التعامل مع هذا الواقع بحذر وجدية دون التعويل على منطقية ترامب المفقودة تماما.
وبالتحديد، فإن الشأن الخليجي سيكون النقطة المركزية في هذا السياق، خاصة في ظل التناقضات العميقة التي تعاني منها بعض دوله بعد توقيعها اتفاقات تطبيع، بين محاولة الموازنة بين المصالح الإسرائيلية للدول المطبعة، والحق الفلسطيني، وتداعيات مأساة غزة.
وفي الجهة الأخرى من المعادلة، تتصدر إيران بملفاتها الشائكة التي تؤثر على الأمن القومي الخليجي والعربي، من خلال حضورها الممتد في اليمن وسوريا والعراق ولبنان.
والسؤال الأهم، هل سيقبل ترامب أن يكون تابعًا لمشاريع الجنوب العالمي وفق منافع اقتصادية مشتركة ؟
باستثناء دور وفاعلية منظمة شنغهاي للتعاون في عدّة مجالات خاصّة منها السياسية والأمنية، هناك عدة مسارات اقتصادية قد تجذب “مزاج ترامب البراغماتي” للتعاون مع الصين وروسيا. خاصةً أن هذه المسارات والمنظومات تلعب دورًا فعالًا في تحقيق التوازن العالمي، ومن أبرزها:
1- طريق الحرير الصيني والحزام الاقتصادي: يشمل هذا المشروع الكبير تحالفات وشراكات متعددة، مما يجعله جذابًا للتعاون مع ترامب.
2- مجموعة تحالف بريكس: التوسع السريع في عضويته وزيادة حجم الناتج المحلي الإجمالي لمجموع أعضائه، الذي تجاوز إنتاج مجموعة الدول السبع الكبرى.
3- أوبك: من حيث دوره الكبير في تنظيم سوق الطاقة العالمي والموازنة بين العرض والطلب ومن شأنه أن يشهد المزيد من التطور في حال التفاهم مع ترامب، بما في ذلك فتح مسار موازٍ لقطاع الغاز.
ومع ذلك فإنّه يوجد خطوط حمراء لا يقبلهما الجانب الأميركي، وهي تقليص دور المؤسسات المالية الدولية التقليدية التي تخدم المصالح الغربية والحد من هيمنة الدولار على الحركة الاقتصادية الدولية ونظام سويفت (SWIFT).
وفي الوقت نفسه، هناك عاملان قد يسهمان في تحقيق تفاهم روسي أميركي يفضي إلى تهدئة عالمية:
1. الحد من الدعم الأميركي للمؤسسات الحقوقية العابرة للقارات والراعية للقيم الغربية وأجنداتها الاجتماعية والثقافية والدينية، والتي تتعارض مع المبادئ الروسية التقليدية وتلتقي مع توجهات ترامب الرافضة للشذوذ والمثلية.
2. التسوية السياسية لأزمة أوكرانيا، وهو أمر مهم للاستقرار العالمي، تدعمه التصريحات الأخيرة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من حيث القبول بمؤتمر دولي للسلام بمشاركة روسيا، وهو تحول رئيسي. ومن جهة تصريحه بعدم جدوى الحل العسكري للأزمة، وأن الحلول الدبلوماسية قد تكون ممكنة على المدى البعيد، وهو تحول استراتيجي.
تحديات محتملة أمام ترامب
يراهن الرئيس بوتين على “مستقبل العالم الجديد” و”التعددية القطبية”، لكن ترامب، في حال فوزه بالانتخابات، سيواجه تحديًا أكبر من ذلك في إطار ما يمكن تسميته “المتغيرات الفاعلة للتسوية والتهدئة الدولية”. ستتضمن هذه التسوية بلا شك تنازلات “سياسية” من جانب روسيا وأميركا.
في المقابل، ستعزّز هذه الظروف لروسيا فرصا لتعديل استراتيجياتها «غير المكلفة عسكريًا” وتعزيز مشاريعها الإستراتيجية التي تشمل “رؤية العالم متعدد الأقطاب”، الحد من النفوذ الغربي، تعزيز قدرات الجنوب العالمي اقتصاديًا بمنأى عن الدولار ونظامه المالي، تعزيز العلاقات مع الخليج العربي.