غير مصنف

“التحديث الصيني النمط”.. رؤية حضارية وفرص للتعاون المستدام

قسم البحوث والدراسات الاستراتيجية

شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات كبرى قادتها مسارات التحديث والتنمية، إذ باتت التجارب الوطنية في هذا المجال معيارًا رئيسيًا لتحديد مكانة الدول في النظام الدولي الجديد. وفي هذا السياق، تبرز الصين بوصفها قوة صاعدة نجحت في صياغة نموذجها الخاص للتحديث، قائم على الجمع بين النمو الاقتصادي السريع والحفاظ على الخصوصيات الحضارية والثقافية، وهو ما جعل تجربتها محل اهتمام واسع من قبل الباحثين وصانعي القرار في مختلف أنحاء العالم.

وتكتسب هذه التجربة أهمية خاصة بالنسبة لتونس التي تجمعها بالصين علاقات صداقة متينة تمتد منذ ستينيات القرن الماضي، حيث شكّلت هذه الروابط جسراً للتفاهم المتبادل والتعاون في مجالات متعددة، بدءاً من البنية التحتية وصولاً إلى التبادل الثقافي والعلمي. إن دراسة ملامح التحديث الصيني من منظور تونسي ليست مجرد متابعة لمسار تنموي خارجي، بل هي أيضًا محاولة لاستخلاص الدروس ورؤية آفاق جديدة للشراكة بين بلدين تجمعهما مصالح مشتركة وتطلعات مستقبلية متقاربة.

ومن هذا المنطلق، يطرح المقال إشكالية جوهرية تتمثل في التساؤل: كيف تبدو ملامح “التحديث الصيني النمط” في عيني، وما الذي يمكن أن يحمله من دلالات لتونس والمنطقة العربية والإفريقية؟

مفهوم “التحديث الصيني النمط”

يُعدّ “التحديث الصيني النمط” مفهوماً مركباً يجمع بين النمو الاقتصادي المتسارع والحفاظ على الهوية الحضارية والثقافية للصين، وهو بذلك يختلف عن النماذج الغربية التي ارتبطت غالباً بعمليات التصنيع السريع مقرونة بقدر من التحولات الاجتماعية والسياسية التي أفضت أحياناً إلى فقدان التوازن الثقافي أو تآكل الخصوصيات المحلية. فقد اختارت الصين مساراً يقوم على التوفيق بين التقدم المادي والقيمي، أي بين تحديث الاقتصاد وتعزيز البنية التحتية من جهة، وصون التقاليد الثقافية والانسجام المجتمعي من جهة أخرى.

وتبرز خصوصية هذا النموذج في اعتماده على مقاربة تدريجية تراعي الخصوصية الوطنية وتضع التنمية الشاملة في قلب أولوياتها. فبينما ركّزت النماذج الغربية على تحرير الأسواق والاعتماد على آليات السوق الحرة، اعتمدت الصين مزيجاً من التخطيط الاستراتيجي طويل المدى والانفتاح على الاقتصاد العالمي مع الاحتفاظ بدور محوري للدولة في توجيه التنمية.

 
أسهمت التجربة الصينية في العقود الأخيرة في بلورة بدائل تنموية ذات جاذبية خاصة لدول الجنوب العالمي، إذ أثبتت أن النمو السريع ليس حكراً على الاقتصادات الغربية، بل يمكن أن يتحقق ضمن مقاربة تراعي الخصوصيات الوطنية وتضع التنمية الشاملة في قلب السياسات العمومية. فقد قدّمت الصين نموذجاً عملياً يُظهر أن مكافحة الفقر، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى، وتطوير التكنولوجيا المتقدمة، يمكن أن تترافق مع الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو ما جعل العديد من الدول النامية تنظر إلى “التحديث الصيني النمط” باعتباره مرجعاً قابلاً للاستلهام.
 
ويبرز في هذا السياق الدور المحوري لمبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين منذ عام 2013، والتي مثلت أداة رئيسية لتوسيع مجالات التعاون الاقتصادي والثقافي بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. فقد ساهمت هذه المبادرة في تمويل وبناء موانئ، وطرق سريعة، ومناطق صناعية، إضافة إلى مشاريع تعليمية وثقافية، ما منح عدداً من الدول فرصاً جديدة لتعزيز بنيتها التحتية والانخراط بشكل أكثر فاعلية في الاقتصاد العالمي. ولم يقتصر أثر المبادرة على الجانب المادي فحسب، بل شمل كذلك تعزيز الحوار بين الشعوب عبر تبادل ثقافي واسع النطاق.
 
وعلى المستوى الجيوسياسي، أتاح النموذج الصيني مجالاً لإعادة تشكيل موازين القوى الدولية، حيث مثّل بديلاً لنمط الهيمنة الاقتصادية التقليدية، وأسهم في بروز عالم أكثر تعددية. فبفضل سياستها القائمة على التعاون المتكافئ وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، استطاعت الصين أن تحجز لنفسها موقعاً استراتيجياً متقدماً، وأن تقدم نموذجاً يسعى إلى خلق توازن عالمي جديد يقوم على الشراكة والمنفعة المتبادلة.
 
أبعاد الصداقة الصينية التونسية
 
تعود جذور الصداقة الصينية التونسية إلى عام 1964، تاريخ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهو ما مثّل محطة أساسية في مسار التعاون الثنائي الذي اتسم بالاستمرارية والاحترام المتبادل. وعلى امتداد العقود الستة الماضية، حرصت تونس والصين على تعزيز شراكتهما عبر مشاريع تنموية وثقافية عكست عمق الروابط بين الشعبين.
 
ومن أبرز مظاهر هذا التعاون تشييد المستشفى الجامعي الجديد بصفاقس الذي اعتُبر أحد أهم المشاريع الصحية في البلاد بتمويل صيني، إضافة إلى إسهام الصين في برامج البنية التحتية وتطوير شبكات الطرق والجسور. كما وفّرت الصين لتونس برامج متعددة للمنح الدراسية، مكنت مئات الطلبة التونسيين من متابعة دراستهم في الجامعات والمعاهد الصينية، وهو ما أتاح نقل المعرفة والخبرات العلمية إلى تونس. ولم يقتصر التعاون على المجالين الصحي والتعليمي، بل شمل أيضاً التبادل الثقافي من خلال تنظيم أسابيع ثقافية صينية في تونس وتظاهرات فنية مشتركة عزّزت الحوار بين الحضارتين.
 
وتفتح هذه التجربة آفاقاً واسعة أمام تونس للاستفادة من الخبرة الصينية في مجالات حيوية. ففي قطاع الطاقة، يمكن لتونس أن تستلهم من التجربة الصينية في الطاقات المتجددة لتطوير مشاريعها الوطنية في الطاقة الشمسية والرياح. وفي المجال التكنولوجي، يُعدّ التعاون مع الشركات الصينية فرصة لتسريع التحول الرقمي وتعزيز الابتكار. أما على مستوى البنية التحتية، فإن الشراكة مع الصين تمثل رافعة حقيقية لتطوير الموانئ والطرق والمناطق الصناعية، بما يساهم في جعل تونس نقطة وصل بين أفريقيا وأوروبا. إن هذه الأبعاد المتعددة للصداقة الصينية التونسية لا تقتصر على إنجازات ماضية، بل تشكّل قاعدة متينة يمكن البناء عليها لمستقبل أكثر تكاملاً وازدهاراً.
 
ريادة الصين في التحديث وفرص التعاون مع تونس

تجسد التجربة الصينية ريادة واضحة على مستوى عالمي في مسار التحديث، إذ لم تقتصر على تحقيق نمو اقتصادي سريع فحسب، بل تجاوزته إلى بناء نموذج تنموي متكامل يجمع بين الابتكار التكنولوجي، الاستقرار الاجتماعي، والحفاظ على الهوية الثقافية. فقد تمكنت الصين من تطوير منظومة بنية تحتية فائقة الحداثة تشمل شبكات النقل والاتصالات، وموانئ عالمية، ومدناً ذكية، مع توسيع قاعدة الابتكار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا الحيوية. هذه الريادة لم تولد صدفة، بل كانت نتيجة رؤية استراتيجية طويلة المدى تراكمت عبر عقود من التخطيط المنهجي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المتكاملة، مع التأكيد على الانضباط المؤسسي وروح العمل الجماعي.

ومن زاوية التنمية العالمية، تُظهر ريادة الصين كيف يمكن لدولة أن تقدم بدائل ملموسة لدول الجنوب، عبر مبادرات مثل “الحزام والطريق” التي وفرت فرصاً للبنية التحتية، والتعاون الصناعي، والتعليم التقني، والنقل البحري واللوجستي، ما يسهم في تعزيز التنمية الاقتصادية لدول الشركاء. ويظهر هنا دور القيادة الصينية في صياغة نموذج يسمح بتحويل التحديات إلى فرص، وتحقيق التنمية المستدامة دون التفريط بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية، وهو ما يجعل هذا النموذج مرجعاً عملياً يمكن لتونس والدول العربية والإفريقية استلهام مبادئه في تعزيز التخطيط الاستراتيجي، وتنمية الطاقات البشرية، وتعزيز قدرات الابتكار الوطنية.

بهذه الطريقة، تتحوّل ريادة الصين إلى درس عملي ورؤية ملهمة للشباب والقيادات في تونس، مؤكدة أن النجاح التنموي يحتاج إلى الجمع بين الطموح الفردي والمجهود الجماعي، وبين الحداثة والهوية، وبين الابتكار والاستدامة، وهو ما يضع الصين في مصاف الدول الرائدة عالمياً في التحديث والتنمية الشاملة.

رؤيتنا حول “التحديث الصيني النمط” 
 
إن النظر إلى “التحديث الصيني النمط” من زاويتي الشخصية يتيح فهم الأبعاد المختلفة لتجربة تنموية متكاملة استطاعت الصين من خلالها تحقيق قفزات اقتصادية واجتماعية هائلة خلال عقود قليلة. فالأمر لا يقتصر على معدلات النمو أو حجم الاستثمارات، بل يشمل الطريقة التي توفق بها الصين بين التحديث الاقتصادي والحفاظ على الهوية الثقافية والاجتماعية، وهو ما يمنح النموذج الصيني خصوصية واضحة مقارنة بالتجارب الغربية.
 
وفي إطار هذه الرؤية، أجد أن ما يميز هذا التحديث هو وضوح الأهداف، والانضباط في التنفيذ، والتخطيط الاستراتيجي طويل المدى الذي يضمن استدامة الإنجازات وتحويل التحديات إلى فرص ملموسة للنمو. كما يظهر في هذا النموذج اهتمام متوازٍ بالجانب البشري والاجتماعي، إذ ترافق التنمية الاقتصادية مع تحسين جودة الحياة، وتوفير فرص التعليم، وتعزيز البحث والابتكار.
 
من منظور شخصي، تمثل هذه التجربة مصدر إلهام للشباب التونسي، إذ توضح أن الطموح الفردي والجماعي لا يحقق النتائج إلا إذا ارتبط بالالتزام المجتمعي والتخطيط المنهجي. فهي تقدم دروساً في الانضباط والعمل المتواصل، في التفكير الاستراتيجي، وفي الجمع بين الحداثة والتمسك بالجذور الثقافية. وبالنظر إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه تونس والمنطقة، يصبح “التحديث الصيني النمط” نموذجاً يمكن استلهامه لتطوير سياسات وبرامج تشجع على الابتكار، وتعزز القدرة على مواجهة الأزمات، وتفتح آفاقاً للنمو المستدام على مستوى الشباب والمجتمع ككل.
 
بهذه الطريقة، يتحول النموذج الصيني من تجربة أجنبية بعيدة إلى مرجع عملي وإلهام فكري يمكن البناء عليه لتعزيز قدرات المجتمعات النامية، بما فيها تونس، في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين وتحقيق تقدم متوازن ومستدام.
 
خاتمة
 
إن تجربة “التحديث الصيني النمط” لا تمثل مجرد إنجازات اقتصادية، بل تعكس رؤية حضارية شاملة تجمع بين التقدم المادي والحفاظ على الهوية الثقافية والاجتماعية، وهو ما يجعل هذا النموذج مرجعاً عالمياً لدراسة التنمية المستدامة. وفي هذا السياق، تتجلى أهمية الصداقة الصينية التونسية ليس فقط في الإنجازات السابقة، بل في الإمكانات المستقبلية للتعاون والتكامل بين البلدين، حيث يمكن للشراكات الاقتصادية والثقافية والتعليمية أن تعزز التنمية وتفتح آفاقاً جديدة للتبادل المثمر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق