التاريخ يعيد نفسه… “طريق التوابل” و”طريق الحرير”..وأين نحن من هذا؟
اعداد الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية
ها هي اليوم “دلهي” تعلن عن أكبر مشروع لها وتعيد أمجاده إنه “المشروع الممرِ التجاري الموجهِ للشرق الأوسط وأوروبا” إنه مشروع إقتصادي عملاق يعتمد على النقلَ البحري والبري، وستبني شبكةَ طرقٍ وقطارات، كأنَّنا نقرأ كتابا من تاريخ الهند القديم.
وفي المقابل وفي خريف 2013، أعلنَ الرئيس الصيني عن “مبادرة الحزام والطريق”، مشروع ضخم تشارك فيه 139 دولة، ضمنها دول عربية، بدرجاتٍ متفاوتة. الطريقُ من خطين، بري عبر آسيا إلى الشرق الأوسط، ثم أوروبا، وبحري يشق المحيطَ الهنديَّ إلى أفريقيا وأميركا الجنوبية.
الهند القوة والعملاق الإقتصادي والبشري الذي ينافس الصين كان ولا يزال قلقا من المبادرة وقد احتج في العديد من المناسبات ولكن بشكل ديبلوماسي ومن خلال المعايير الدولية، وخاصة كانت الهند دائما تلمّح ديبلوماسيا للصين على أن الطريق الحرير يمرُّ بمناطق متنازع عليها في كشمير مع باكستان، حليفةِ الصين وبوابتِها الرئيسية للعالم.
أما في ما يخص دولنا العربية فهي المستفادة من هذين المشروعين ومن تنافس “العمالقة” الذي حفّز التنافس العربي في حدّ ذاته بل أنه يوجد ترحيب كبير من كل الدول العربية وسعي حثيث بأن تصبح مؤهلةً لعقودٍ أكبرَ في المشروعين العملاقين.
الطريقُ والحزامُ الصيني و”ممرُّ التوابل” الهندي، في باطنُها مشاريعُ سياسية، فكيف للمنطقة أن تستفيد وأن لا تتورط في صراعِ الفيلةِ الدولية؟
بدايةما المشروع؟
المشروع يهدف إلى خلق ممر جديد يربط الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ويتألف من 3 ممرات منفصلة، بحرية وبرية:
- الممر الأول: وهو ممر بحري ويبدأ من موانئ الهند مثل مومباي وصولًا إلى موانئ الإمارات وعلى رأسها ميناء جبل علي.
- أما الممر الثاني فهو ممر بري يعتمد على السكك الحديدية، يبدأ من الإمارات ثم السعودية وصولًا إلى الأردن ومنها إلى ميناء حيفا على الساحل الإسرائيلي على البحر المتوسط،
- فيما يأتي الممر الثالث وهو الشمالي الذي يبدأ من حيفا باتجاه أوروبا مباشرة، فرنسا وإيطاليا واليونان، وهو ممر بحري.
الممر لن يقتصر على نقل البضائع فقط، لكنه سيشتمل على إمداد خط كابلات إنترنت سريعة، وخط نقل هيدروجين أخضر في الاتجاهين بصفته وقود المستقبل، ومن هنا جاءت تسميته بـ”الممر الأخضر”، وعليه تكون الدول التي يمر بها هذا الممر هي (الهند – الإمارات – السعودية – الأردن – إسرائيل – اليونان – إيطاليا – فرنسا).
كما هو معلوم المشاريعُ السياسية لطالما كانت تاريخياً شبكةً من المصالح الاقتصادية فالثلاثي المتشابك الذي لا يفصل هو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وهذا ما سنعيشه في المرحلة القادمة.
واشنطن ودلهي مقتنعتان بأنَّ هناك دوافعَ صينية خفية تجارية وعسكرية وراءَ مبادرتِها “الحزام والطريق”، الهند، مثلُ الصين، قوةٌ صاعدة، ترغب كذلك في التمدّدِ والحصولِ على مزيد من الموارد والأسواق، كلتا المبادرتين اقتصادية وسياسية.
اختارت واشنطن تعزيزَ علاقتِها بالهند، القوة المرجحة، مع أن أغلب مواقفها لا تتماشى والأجندة الأمريكية. فمثلاً، رفضت “دلهي” دعوة رئيس أوكرانيا لقمة العشرين الحالية، إرضاءً لموسكو ولا ننسى الهند من الخماسي المؤسس لقوة “البريكس” التي ترفضها قطعا الولايات المتحدة الأمريكية.
كيف ستستفيد المملكة العربية السعودية من المشروع؟
ولي العهد السعودي أشار إلى أن المشروع “يسهم في تطوير وتأهيل البنى التحتية التي تشمل سككًا حديدية وربط الموانئ وزيادة مرور السلع والخدمات وتعزيز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية”.
ويتضمن المشروع”مد خطوط الأنابيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمي، بالإضافة إلى كابلات لنقل البيانات من خلال شبكة عابرة للحدود ذات كفاءة وموثوقية عالية”، مشددًا على أن “مذكرة التفاهم بشأن مشروع الممر الاقتصادي تدعم جهود تطوير الطاقة النظيفة وتوليد فرص عمل جديدة ومكاسب طويلة الأمد لجميع الأطراف”.
والسؤال المطروح ماذا ستختار المملكة “ممر التوابل” أو طريق الحرير”؟
الجواب بسيط الاثنان معا ويهمنا كثيرا أن نكون مع المبادرتين ما داما يخدمان المصالح العربية والإقليمية.
فالسعودية، على سبيل المثال، تبيعُ مليوني برميل نفط للصين، ونحو مليون برميل للهند وبالتالي مهم جدا أن تكون مطبّعة مع المبادرتين بل بالعكس لا يوجد تظارب في المصالح للعملاقين بل هناك ربح كبير للسعودية بل يمثل البلدان اليوم، وإلى سنوات مقبلة، أكبر سوقين للرياض.
فالهندُ ستزيد من استيرادها البترولي من 5 إلى 7 ملايين برميل يومياً في 2030، بخلافِ ما يعد به رئيس الوزراء بتخفيض استيرادِ بلاده إلى النصف. التقديراتُ تقول العكس، ستزداد وارداتُها بنسبة النصف. وسيزداد تنافس القوى الصاعدة على مصادر البترول الجغرافية، والخليج تحديداً. فهي ركنٌ أساسيٌّ في خططِ السياسات العليا للدول الكبرى إلى منتصف القرن الحالي. وبالنسبة للسعودية على جميع المستويات اللوجستية والجغرافية وحتى السياسية تحبّذ أن تكثف تصدير البترول للعملاقين الهندي والصيني.
كما لا يفوتنا أن نذكر أن السعودية اليوم في موقع قوي، آخذين في الاعتبار أنَّها تعمل منذ 6 سنواتٍ على مشروعها الاقتصادي العملاق الذي ينسجم مع المبادرتين الصينية والهندية.
وقد اتجهت المملكة العربية السعودية لتقوية علاقاتِها الاقتصادية مع القوتين الصاعدتين وفعلا نجحت وانظمت كعضو للبريكس في أكبر تحدي إقتصادي وسياسي عالمي. وقد نجحت كذلك في إدارة العلاقات مع القوى الكبرى وذلك بالتنسيق النفطي مع موسكو، والتصدير لبكين ودلهي… وهنا أصبحت المملكة العربية السعودية الدولة العربية الإسلامية التي نجحت في ترويض العمالقة على جميع المقاييس.
فرص عظيمة للاستفادة من المشروع والتحول إلى مركز اقتصادى إقليمى
شهدت قمة العشرين المنعقدة قبل أيام فى العاصمة الهندية نيودلهى الإعلان عن تطوير ممر جديد للسفن والسكك الحديدية يربط الهند بالشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط.
طريق التوابل
الفكرة الرئيسية للمشروع تركز على مد ممر تجارى كبير يبدأ من الهند ثم يصل الإمارات ثم السعودية والأردن وإسرائيل قبل أن يصل إلى أوروبا، ويضم الممر كابلا بحريا لنقل الطاقة، وهو ما يسهل التجارة ويزيد من فعاليتها عبر الدول المار خلالها.
كما ينظر البعض للممر الجديد بأنه محاولة أمريكية للرد على فكرة التكتلات الاقتصادية الجديدة وعلى رأسها البريكس، وإطار لخطة عمل معدة لمواجهة التوسع الاقتصادى والتجارى الصينى فى العالم، وتحديدًا من خلال التركيز على منطقة الشرق الأوسط باعتبارها منطقة التواصل مع مختلف أنحاء العالم، ومحطة النقل الرئيسية إلى دول الاتحاد الأوروبي.
هل يعتبر طريق التوابل منافسا لمبادرة طريق الحرير؟
ما يلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا وإسرائيل “فرحين” جدا على هذا الإعلان على المشروع بل أنهم سارعوا على تهنئة أنفسهم فهل صحيح أن هذا المشروع من أجل “ضرب” مبادرة “الحزام والطريق”؟
لقد خصص الاتحاد الأوروبى نحو 300 مليار يورو على استثمارات البنية التحتية فى الخارج بين عامى 2021 و2027 من خلال مشروع “البوابة العالمية” وهو مشروع الى حدود اليوم فاشل ولم يجد طريقه الى التنفيذ.
فمشروع البوابة العالميةقد تم إطلاقه جزئياً لمنافسة مبادرة “الحزام والطريق” الصينية والدفاع عن المصالح الأوروبية مع الشركاء التجاريين الرئيسيين.
ووفقاً للعديد من المصادر، تقف مبادئ المشروع على النقيض من آلية تمويل البنية التحتية فى “مبادرة الحزام والطريق” الصينية، والتى تعرض تمويلها لانتقادات لكونه غامضا ويجبر الدول الفقيرة على الوقوع فى فخ الديون، فالإتحاد الأوربي والأمريكان لم يجدوا منفذا لتنفيذ مشروعهم سوى التشكيك في نوايا الصين وضرب مصداقيتها ومصداقية المبادرة.
وفي مبادرة “التوابل” ربما يجد الإتحاد الأوروبي متنفسا ويعتبر أن هذا الممر ضرورى وجاء في الوقت المناسب فى ظل الآثار السلبية التى يعانيها نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.
كما يرى الأوروبيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية أن التكتل الآخذ فى التوسع “بريكس”، والذى تؤدى فيه الصين دورًا قياديًا، لا تقابله سوى مجموعة دول العشرين التى يمكن أن تقاوم الزحف الصيني. ورغم ذلك فأغلب الخبراء يرون أن العالم قد تغير وأن طاولة قادة العالم لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية ولا أوربا على رأسها.
كما أن أوروبا تواجه أزمة مزدوجة تتمثل فى الركود وارتفاع الأسعار على السواء نتيجة الحرب.
وبحسب الأوروبيين والأمريكان فهم يرون أن الممر الكبير ربما سكون الحل للفكاك من “المارد الصينى” المهيمن على التجارة العالمية، لكن لم يتضح بعد أى الكفين أثقل أو انهما سيعملان مع بعض وستكون الطامة الكبرى على الغرب. وفي المقابل تُغلب معظم الدول مصالحها المباشرة فى الانتماء إلى طرف على حساب آخر أو حتى الى الطرفين، وتتجه دول أخرى إلى اتباع سياسات مرنة للوصول إلى أقصى مكاسب اقتصادية.
لماذ أحدث المشروع قلقا مصري؟
المشروع الذي لم يزل في طور الدراسة رغم التحديات الجيوسياسية الهائلة أمامه أحدث قلقًا كبيرًا لدى المراقبين من الجانب المصري، فيما انقسمت الآراء بشأنه، فريق يرى فيه تهديدًا كبيرًا لقناة السويس العالمية وتهديدًا لثقل مصر الإقليمي، وإنه يأتي ضمن خطة التآمر والاستهداف الكبرى على مصر التي يتنباها قطاع كبير من المصريين، فيما يميل فريق آخر إلى التقليل من شأنه وأنه لا يعدو محاولة لاستهداف النفوذ الصيني وتهديد مشروع طريق الحرير الذي تعول عليه في فرض قبضتها على حركة التجارة العالمية، وأنه مشروع لا يزال طور الدراسة ولا يمكن للهند أن تتآمر على الصين فهي العضو المؤسس للبريكس وبالتالي هو مشروع من أجل البروبغندا لا غير.
وفي قراءة موضوعية من جانب بعض الخبراء فقد استبعدوا أن يكون للممر الاقتصادي الهندي أي تأثير على قناة السويس وحركة التجارة العالمية بها، نظرًا للصعوبات اللوجستية الكبيرة التي من المحتمل أن يواجهها المشروع، ومن ثم لا يمكنه منافسة الممر المصري العالمي، ومن أبرز تلك الصعوبات: المشاكل التي ستواجه تفريغ سفن الحاويات الكبيرة القادمة من ميناء مومباري وصولًا إلى ميناء جبل علي، ثم تحميلها في قطارات لتقطع مسافة طويلة من الإمارات والسعودية والأردن، ثم تفريغها مرة أخرى تمهيدًا لشحنها في حاويات بميناء حيفا، ثم تفريغها مجددًا في أوروبا…
كذلك من الصعوبات وشبه الإستحالة لتنفيذ الممر هو التمويل وخاصة وأن أوربا والغرب يشكون من مشاكل تمويلية كبرى وقد أشرنا منذ البداية لفشل المشروع الأوربي “البوابة العالمية” التي لم تجد أوربى تمويلا له وسيكون نفس الشيء لهذا الممر والإعتماد الغربي على المملكة العربية السعودية وعلى الإمارات لن يكون كما تريد.
كما أن الصين وهي أكبر مصدّر في العالم وصاحبة الريادة في حركة التجارة العالمية فمن الطبيعي أنها لن تستخدم هذا الممر المدشن خصيصًا لمنافستها، وستعتمد على قناة السويس، وعليها ستتأثر أهمية هذا المشروع كثيرًا بالغياب الصيني، هذا بجانب المسافة والوقت الكبيرين التي تحتاجهما حركة التجارة من الهند وصولًا إلى أوروبا، الأمر الذي يدفع الكثير من الدول للتفكير طويلًا قبل نقل خط السير من القناة المصرية إلى الممر الأخضر.
الخلاصة:
المشروع يهدف في المقام الأول إلى منافسة الصين من خلال خلق بديل لطريق الحرير ومبادرة الحزام والطريق، وهو المشروع الذي تعول عليه بيجين للتحكم في حركة التجارة العالمية.
كما أن اختيار الهند تحديدًا لتكون نقطة انطلاق لهذا الممر الجديد لم يكن اختيارًا عشوائيًا حيث تسعى نيودلهي إلى تصدر المشهد بديلًا عن خصمها ومنافسها الأول، الصين، وهنا تلاقى الطموح الهندي مع المخطط الغربي لتقليم أظافر النفوذ الصيني وتمخض عن هذا المشروع.
ورغم الفارق الكبير بين الهند والصين في حركة التجارة العالمية، تبلغ صادرات الصين السنوية 3.5 تريليون دولار مقابل 800 مليار دولار حجم التجارة الهندية، فإن مودي وحزبه الحاكم يراوده طموح استبدال الصين كقوة اقتصادية بالهند الذي تحيا في الآونة الأخيرة علاقات جيدة مع القوى الاقتصادية الكبرى، كما عززت مؤخرًا علاقتها مع القوى النفطية في الخليج.
تدعم أمريكا بقوة هذا المشروع نظرًا لاحتمالية أن يكون البديل الأكثر تأثيرًا لاتفاقيات التطبيع وتوسيع الحضور الإسرائيلي في المنطقة، فحين يصبح هذا المشروع جاهزًا، فإن التنسيق والتفاهم والتعاون والربط الملاحي البري والبحري بين تل أبيب والرياض وبقية العواصم في الشرق والغرب سيكون أمرًا طبيعيًا، وهو ما يحقق الهدف من التطبيع حتى وإن لم يكن تحت مظلة أبراهام.
وبالنسبة للقلق المصري فيتمثل في تهديد ثقل مصر الاقتصادي إقليميًا ودوليًا، ومنافستها في العديد من المشروعات التي كانت تعول عليها في وضع موطئ قدم لها على خريطة الاقتصاد الدولي، وعلى رأسها قطاع الهيدروجين الأخضر، حيث كانت تستهدف القاهرة جلب استثمارات أجنبية في هذا المجال تقدر بنحو 40 مليار دولار في منطقة محور قناة السويس بحلول 2030.
كذلك المشروع يهدد ريادة مصر في قطاع الكابلات والإنترنت، وهي صاحبة المركز الثاني عالميًا في الكابلات البحرية للإنترنت، وبالتالي فإن المشروع حال تنفيذه وإمداد خطوط إنترنت من الهند إلى أوروبا عبر الدول التي يمر بها فإنه بذلك يسحب البساط من تحت الريادة المصرية.