الاعتراف الأمريكي “المحتمل” بأرض الصومال.. قراءة في المؤشرات والتداعيات والسيناريوهات
إعداد الدكتور ربيع محمد محمود قسم البحوث والدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية 23-01-2025
مع تصاعد التنافس الدولي بين الولايات المتحدة، وروسيا والصين، وتعرُّض حركة التجارة العالمية وإسرائيل لتهديدات أمنية مباشرة مصدرها البحر الأحمر وخليج عدن؛ ارتفعت وتيرة التكهنات حول نية إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التوجُّه نحو الاعتراف باستقلال إقليم أرض الصومال .
إقليم أرض الصومال، محمية بريطانية سابقة، استقلت عن مقديشيو من جانب واحد عام 1991، ويتمتع بكافة مظاهر الدولة، عدا الاعتراف الدولي، ويُعدّ ذا أهمية جيوإستراتيجية كبيرة؛ بالنظر إلى خصوصية موقعه الجغرافي؛ إذ يقع على الساحل الجنوبي لخليج عدن عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، كما يحتضن ميناء بربرة الإستراتيجي، الذي يدور حوله صراع نفوذ إقليمي ودولي في إقليم القرن الإفريقي، إلى جانب اعتباره بديلاً محتملاً لميناء جيبوتي المجاور.
علاوةً على ذلك، ارتبط إقليم أرض الصومال على مدار عام 2024 بصراعات إقليمية بسبب مساعي إثيوبيا -الحبيسة- في الحصول على منفذ بحري في الإقليم الانفصالي، ما دفع قوى من خارج القرن الإفريقي على غرار مصر وتركيا إلى الانخراط في قضايا الإقليم أمنيًّا وعسكريًّا ودبلوماسيًّا، إلى جانب توتر علاقات مقديشو مع أديس أبابا، التي تُعدّ مساهمًا رئيسيًا في قوة حفظ السلام في الصومال، كما تقرب الأخير من منافسي إثيوبيا التاريخيين؛ مصر وإريتريا.
وفي حين أبدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة التزامًا بسياسة “صومال واحد” تماشيًا مع الإجماع الدولي والإفريقي بتجنُّب الاعتراف الرسمي باستقلال أرض الصومال؛ طرح جمهوريون ومسؤولون سابقون ومحتملون في إدارة ترامب فكرة الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة، وهو ما عزَّز من آمال “هرجيسا” في الحصول على تأييد أكبر دولة في العالم لاستقلالها عن مقديشيو.
يُعزّز ذلك، تعرُّض العلاقات الأمريكية الصومالية لضربة قوية في ولاية ترامب الأولى (2017- 2021م)، إذ أعلن -آنذاك- إدراج الصومال ضمن قائمة حظر السفر على عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة([1])، واتخاذه قرارًا نهاية فترة ولايته الأولى بسحب القوات الأمريكية المتمركزة هناك([2])، بيد أن سلفه جو بايدن تراجع لاحقًا عن تلك القرارات([3]).
ويبدو ظهور وجهات النظر وردود الفعل المختلفة تجاه مسألة الاعتراف الأمريكي من عدمه بأرض الصومال مرتبطًا بمبررات وفرضيات تقول: إن المصالح الجيوإستراتيجية المتنافسة للولايات المتحدة في القرن الإفريقي، إلى جانب سعيها للهيمنة على النظامين الإقليمي والدولي ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد موقف إدارة ترامب تجاه تبنيها أو عدم تبنيها اعترافًا دوليًّا بإقليم أرض الصومال كبلد مستقل عن الصومال.
تأسيسًا على ما سبق، تُقدّم هذه الورقة قراءة في تاريخ ونشأة أرض الصومال، والانخراط الأمريكي في الصومال منذ مطلع التسعينيات، ومؤشرات ودوافع الحراك الجمهوري للاعتراف بالإقليم الانفصالي، والسياق الدولي والإقليمي الذي تدور حوله هذه المؤشرات، وتداعياته المحتملة على الدول المعنية وأصحاب المصلحة؛ إذا ما أصبح واقعًا فعليًّا.
مقدمة تمهيدية:
يُعدّ إقليم أرض الصومال -بواقعه الإقليمي والدولي الحالي-، تجسيدًا للإقليم الذي شكَّله البريطانيون في القرن الإفريقي نهاية القرن 19 من رحم “الصومال الكبير”؛ تاريخيًّا، كان “الصومال الكبير” يُشكّل وحده منطقة القرن الإفريقي، قبل أن يُعاد تخطيطه وتقسيمه في مراحل زمنية متعاقبة مِن قِبَل قوى الاستعمار إلى خمسة أقاليم تعود في الأصل إلى القومية الصومالية:
الصومال الفرنسي: كان يُعرَف بـ”العفر والعيسى”، وهو جيبوتي حاليًّا، الدولة التي استقلت عن فرنسا عام 1977.
الصومال الإثيوبي: إقليم أوغادين أو الصومال الغربي، ضمّه الاحتلال البريطاني إلى إثيوبيا عام 1954.
إقليم جنوب غرب الصومال: يُعرَف أيضًا باسم “أنفدي”(NFD) أو “المحافظة الشمالية الحدودية”، وقد ضمَّته كينيا إلى أراضيها عام 1963.
الصومال الإيطالي: وهو دولة الصومال الحالية وعاصمتها مقديشيو، واستقلت عن إيطاليا عام 1960.
الصومال البريطاني: أرض الصومال، يقع شمال غربي الصومال، سبق أن نال استقلالاً رسميًّا عن بريطانيا واعترافًا دوليًّا -لبضعة أيام- في يونيو 1960، قبل أن يُشكّل مع الصومال الإيطالي دولة الصومال الحديثة.
وبداية من عام 1977، حاول الرئيس الصومالي الأسبق سياد بري تحقيق حُلم الوحدة الصومالية للمناطق الخمسة، بالقوة العسكرية، لكنّ محاولاته باءت في النهاية بالفشل، وفي 1991، أعلنت أرض الصومال استقلالها كجمهورية ذاتية الحكم.
ومنذ ذلك الحين، سلك الإقليم مسارًا مختلفًا عن الجنوب الذي غرق في الحروب الأهلية والفوضى، وقد حقَّق استقرارًا سياسيًّا وأمنيًّا ملحوظًا، وفي عام 2001، أقرت إدارته دستورًا جديدًا ينص على نظام انتخابي متعدد الأحزاب، تلاه إجراء انتخابات دورية، مع بروز اهتمام دولي متزايد بتحوُّل أرض الصومال نحو الديمقراطية وتعزيز الاستقرار.
الانخراط الأمريكي في الصومال منذ 1991:
جاء إعلان الإقليم استقلاله في نفس العام الذي شهد انهيار نظام سياد بري، ولاحقًا دخل الصومال في صراعات وحروب أهلية للسيطرة على الأراضي والموارد، ثم حدثت مجاعة كبيرة في البلاد، دفعت الولايات المتحدة إلى التدخل عام 1993 بدعم أُمَمي؛ للتخفيف من حدتها ومساعدة البلد الذي مزَّقته الحرب الأهلية؛ إذ قادت عملية عسكرية إنسانية للقضاء على المجاعة، وفي حين لم تصل معظم المساعدات إلى الصومال إلا بعد أن مرَّت المجاعة، إلا أنها ربما زادت من تفاقم الحرب الأهلية عن طريق دعم “اقتصاد الحرب” الناشئ الذي استفادت منه الميليشيات المتحاربة([4]).
وفي أكتوبر 1993، وقعت معركة دامية بين قوات أمريكية وصوماليين، قُتل خلالها 18 جنديًّا أمريكيًّا، وسقطت مروحيتان أمريكيتان، إلى جانب سقوط ما بين 300 و1000 صومالي بين قتيل وجريح، تسبَّبت في الأخير في إعلان أمريكا سحب قواتها في مارس 1994، كما حذت الأمم المتحدة حذوها بعد فترة وجيزة، وتركت جنوب ووسط الصومال تحت رحمة أطرافها المتحاربة([5]).
وخلال العقد الأول من القرن العشرين، هيمن ملف مكافحة الإرهاب على العلاقات بين البلدين، في وقتٍ كانت فيه الولايات المتحدة في حالة حرب بالوكالة منذ عام 2007، مثلتها قوات البعثة الإفريقية (أميصوم) والصومالية والإثيوبية من جهة والقاعدة التي تمثلها حركة الشباب من جهة ثانية([6]).
وبعد غياب دام أكثر من عقدين على المستوى الدبلوماسي الرسمي؛ أعلنت واشنطن عام 2013 استعادة العلاقات الدبلوماسية مع الصومال، كما أعلنت انتهاء سياسة الازدواجية التي كانت تنتهجها مع الحكومات الانتقالية، والإدارات الإقليمية التي تشكَّلت بعد الإطاحة بسياد بري مطلع التسعينيات، وتحديدًا إدارتي أرض الصومال وبونتلاند([7]).
ولم تدم حالة الود الأمريكي تجاه الصومال طويلاً، فمع انتخاب ترامب رئيسًا في ولايته الأولى وإعلانه قرارات أكثر عداءً تجاه الصوماليين، تراجَع عنها بايدن لاحقًا، مع ذلك، أبقت واشنطن على تعهداتها خلال ولايتي ترامب وبايدن بدعم الصومال في المجالات التنموية ومشاركته مكافحة الإرهاب([8])، وإن كانت هذه المشاركة لم تُقوِّض قدرات حركة الشباب، ولم تُحرِّر المناطق الخاضعة لسيطرتها، وكذا لم ترفع من القدرات القتالية للقوات الصومالية ولا قوات بعثة الاتحاد الإفريقي.
مع ذلك بقي الدور العسكري الأكثر فعالية للولايات المتحدة في الصومال، خاصةً مع توقيع البلدين اتفاقًا في فبراير 2024 لتعزيز قدرات القوات الصومالية في الحرب ضد حركة الشباب([9])، وهو الاتفاق الذي جاء بعد نحو عامين من إقرار مجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو 2022 قانون شراكة أمنية مع إقليم أرض الصومال([10]).
مؤشرات ودوافع الحراك الجمهوري:
يتبنَّى العديد من الجمهوريين الاعتراف بأرض الصومال كجمهورية مستقلة، واتباع نهج أكثر برجماتية في التعامل مع الصومال، ما قد يُعزّز من احتمالية تغيُّر السياسة الأمريكية طويلة الأمد تجاه القضية الشائكة.
ومن جهتها، أشادت الخارجية الأمريكية بالانتخابات في أرض الصومال، وأبدت تطلعها للعمل مع الرئيس المنتخب عبدالرحمن محمد عبدالله، كما أبرزت سفارتها في مقديشو أهمية الانتقال السلمي للسلطة في أرض الصومال، واصفةً إياه بأنه نموذج للحكم في المنطقة([11]).
وسبق أن كلفت إدارة بايدن وفدًا رفيعًا لزيارة أرض الصومال في ديسمبر 2024، لتهنئة رئيسها الجديد، وهو الإجراء الذي لاقَى ترحيبًا آنذاك مِن قِبَل جيم ريش، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، مؤكدًا ضرورة التخلي عن هذه “السياسة الخاطئة””([12])، علمًا بأن “ريش” سبق وقدّم عام 2021 تشريعًا يطلب من وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” دراسة التعاون الدفاعي ثنائي الاتجاه بين الولايات المتحدة وأرض الصومال، وتجاوز مقديشو، لكن لم يتم تمرير المشروع([13]).
ونقل موقع “سيمافور” الأمريكي عن “بيتر فام”، المبعوث الأمريكي السابق إلى إفريقيا في ولاية ترامب الأولى، قوله: إن العملية الديمقراطية في أرض الصومال “أثبتت جاذبيتها كشريك للولايات المتحدة ودول أخرى ([14])، في حين أشاد السفير الأمريكي السابق لدى إثيوبيا “تيبور ناجي” باعتراف الولايات المتحدة بانتخابات أرض الصومال، ووصف العملية بأنها منارة للديمقراطية في إفريقيا، كما توقع “تغييرًا وشيكًا في موقف واشنطن” حيال أرض الصومال([15]).
وفي ديسمبر 2024 قدَّم النائب الأمريكي “سكوت بيري” مشروع قانون جديد إلى الكونجرس([16]) يدعو إلى الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة؛ لأسباب منها “استقراره على مدى عقود من الزمان، والتزامه بالديمقراطية، وأهميته الإستراتيجية في القرن الإفريقي، وموقعه بالقرب من خليج عدن والطرق البحرية الحيوية، وإمكاناته كشريك رئيسي في مكافحة الإرهاب والتجارة والاستقرار الإقليمي”.
ويتعين على مشروع القانون أن يمر عبر مجلسي الكونجرس قبل أن يُوقّعه الرئيس ليصبح قانونًا، ومع سيطرة الحزب الجمهوري حاليًّا على كلٍّ من مجلسي النواب والشيوخ، فإن مشروع “بيري” لديه فرصة قوية لمروره.
كما سبق أن كشف وزير الدفاع البريطاني الأسبق جافين ويليامسون، عن إجرائه محادثات مع فريق ترامب بشأن الاعتراف الرسمي بأرض الصومال، وشدَّد الوزير البريطاني المحافظ على أنه “واثق من أن ترامب سيتناول هذه القضية بمجرد توليه منصبه”([17])، وسبق لويليامسون أن قدّم مشروع قانون للاعتراف بأرض الصومال، لكن لم يتم تمريره في البرلمان البريطاني([18]).
وحملت وثيقة “مشروع 2025: مشروع الانتقال الرئاسي”([19]) إشارة عابرة إلى أرض الصومال، ودعت ترامب إلى الاعتراف بالإقليم باعتباره “بديلاً” محتملاً حال تدهور الوضع الأمريكي في جيبوتي، في إشارة إلى القاعدة العسكرية الأمريكية هناك، وهذه الوثيقة صادرة عن مؤسسة التراث المحافظة، وشارك في صياغتها أعضاء سابقون ومحتملون في إدارة ترامب، وإن كان الأخير سبق أن نفى أثناء حملته الانتخابية صلته بالمشروع([20]).
وخلال منتصف الشهر الجاري، دعا بيان صادر عن رئيس “اللجنة الخاصة بالحزب الشيوعي الصيني” في الكونجرس الأمريكي، جون مولينار، وزارة الخارجية الأمريكية، إلى إنشاء مكتب تمثيلي في “هرجيسا”، مشيرًا إلى الأهمية الإستراتيجية لأرض الصومال؛ بسبب موقعها الجغرافي الحيوي على خليج عدن والبحر الأحمر، فضلاً عن الدور الحيوي لميناء بربرة.
وفي حين شدَّد البيان على أن مثل هذا الوجود الدبلوماسي يمكن أن يُعزِّز المصالح الأمريكية، ويواجه النفوذ المتزايد للصين، وأكد البيان على أن وجود مكتب أمريكي في “هرجيسا” لا يتعارض مع الاعتراف الأمريكي بالحكومة الفيدرالية في مقديشو، مستشهدًا بدول أخرى من بينها بريطانيا والدنمارك وكينيا وتايوان ممن تحتفظ بمكاتب هناك دون الاعتراف رسميًّا بسيادة أرض الصومال([21]).
التداعيات المحتملة للاعتراف بأرض الصومال:
أولاً: التداعيات على الصومال
من غير المستبعَد أن يُقوِّض الاعتراف الأمريكي من مساعي الحكومة الفيدرالية في الحفاظ على سيادة البلاد وسلامة أراضيها، ويمكن إيجاز أبرز التداعيات المحتملة على الصومال؛ جراء الاعتراف الدولي بالإقليم الانفصالي، في التالي:
قد يقدم انفصال أرض الصومال مسوغات لأقاليم أخرى ذات رغبات تاريخية في الانفصال، بما يُعزِّز من مخاطر “بلقنة” البلاد.
يمثل الانفصال خسارة جيوإستراتيجية كبيرة للصومال، بالنظر إلى خصوصية وميزات موقع الإقليم الجغرافي، وما يمتلكه من ثروات طبيعية ومعادن، إلى جانب احتضانه ميناء بربرة الإستراتيجي.
تضييق هامش المناورة مع إثيوبيا في القضايا الثنائية الشائكة، خصوصًا المرتبطة بالسيادة الوطنية والوصول البحري.
فقدان ميزة المناورة مع الولايات المتحدة عبر تعزيز العلاقات مع الصين، التي لديها هي الأخرى مخاوف من تقارب أرض الصومال وتايون التي تسعى إلى الانفصال عن بكين، وتُعدّ مثالاً مشابهًا للإقليم الصومالي الانفصالي.
للصين مصالح إستراتيجية في القرن الإفريقي عمومًا والصومال تحديدًا، منها: تأمين تجارتها التي تمر عبر خليج عدن والبحر الأحمر، واستكمال مبادرة الحزام والطريق، إلى جانب مساعيها في إقامة قاعد عسكرية في الصومال لتوسيع حضورها العسكري الإقليمي بعد قاعدتها في جيبوتي([22]).
واستعدادًا لـ”طريق وعر” محتمل في عهد ترامب، استعانت حكومة مقديشيو بواحدة من كبرى جماعات الضغط في واشنطن لدعم مصالحها الوطنية لدى الإدارة الأمريكية الجديدة([23]).
ثانيًا: بالنسبة لأرض الصومال
يأتي على رأس المكاسب التي ستحصدها أرض الصومال من الاعتراف بسيادتها: تحقيق غايتها التاريخية في الحصول على اعتراف دولي مِن قِبَل أكبر قوة في العالم، بما قد يُعزّز من مكانتها الدولية، إلى جانب تشجيع دول أخرى لاتخاذ نفس السلوك الأمريكي، وتمكينها من الانضمام إلى المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، ومواجهة تحديات وعقبات الوصول إلى المساعدات الدولية، وعقد الاتفاقيات.
وفي سبيل التعامل المباشر مع الولايات المتحدة كدولة مستقلة بعيدًا عن مقديشيو، أبدت إدارة أرض الصومال رغبة في منح قاعدة عسكرية لواشنطن في بربرة([24]).
ثالثًا: التداعيات على مستوى قضايا القرن الإفريقي
من بين أبرز المستفيدين من الاعتراف بأرض الصومال: إثيوبيا؛ إذ إنه يُعزّز من قدرة إدارة الإقليم على عقد الاتفاقيات الدولية، بما يسمح للدولة الحبيسة بإقرار اتفاق يمنحها حق الوصول البحري، في ضوء ما لديها من طموحات وتطلعات جيوإستراتيجية خاصة على المستويين الاقتصادي والعسكري.
في المقابل، تبقى جيبوتي صاحبة مصلحة رئيسية في الوقوف بوجه الاعتراف بأرض الصومال؛ إذ تشارك مصر وإريتريا والصومال مخاوفهم من الطموحات الإثيوبية على حساب السيادة الإقليمية لحكومة مقديشيو من جانب، ومن جانب آخر يفقد الاعتراف الدولي بأرض الصومال ما تملكه جيبوتي من أوراق مساومة قوية ضد أديس أبابا، منها حيازة نحو 95% من تجارة إثيوبيا الخارجية التي تمر عبر موانئ جيبوتي البحرية، واعتبارها مقرّ وجود عسكري دولي مفرط([25]).
ويناوئ مثل هذا الاعتراف الدور المصري في القرن الإفريقي، في ضوء اعتبار القاهرة وجود قوة إثيوبية بحرية على ساحل البحر الأحمر يُمثّل تهديدًا لمصالحها الوطنية، وهو ما يتبين من انخراط مصر في قضايا القرن الإفريقي بشدة مؤخرًا، بما في ذلك تحالفها مع الصومال وإريتريا لمواجهة التطلعات البحرية الإثيوبية، وما يرتبط بأزمة سد النهضة الإثيوبي الذي تتخوّف من تداعياته مصر على حصتها المائية.
رابعًا: التداعيات على مستوى إفريقيا
يُهدّد الاعتراف الأمريكي بأرض الصومال المبدأ الإفريقي القائم على “قدسية الحدود الموروثة من الاستعمار الغربي”، ويدفع إلى تغييرات جذرية في عموم القارة، منها تشجيع وإحياء رغبات حركات انفصالية أخرى مثل تيجراي في إثيوبيا، وبيافرا في نيجيريا، إلى نيل الاعتراف الدولي، بما قد يُحيي مرة أخرى الحروب الأهلية والتزاعات الإقليمية التي شهدتها القارة خلال فترة إنهاء الاستعمار الغربي وما تلاها.
خامسًا: الشركاء الدوليون
تُعدّ الإمارات وإسرائيل أبرز الرابحين من وجود اعتراف أمريكي ودولي بإقليم أرض الصومال. أما بالنسبة للإمارات فلديها علاقات وثيقة مع “هيرجسا”، وتدير كذلك ميناء بربرة والبنية التحتية المرتبطة به، وفي السنوات الأخيرة تماهت المصالح الإماراتية الإسرائيلية، خصوصًا مع تمدُّد النفوذ الإماراتي إلى ما هو أبعد من القرن الإفريقي إلى أرخبيل سقطرى في اليمن([26]).
علاوةً على ذلك ثمة تقارير كشفت عن نوايا إسرائيلية لإنشاء قاعدة عسكرية، بدعم إماراتي، في إقليم أرض الصومال، مقابل الاعتراف به؛ لتعزيز تدابيرها الأمنية ضد التهديدات الأمنية القادمة من الحوثيين في اليمن، وتعزيز قدراتها على المراقبة من مضيق باب المندب([27]).
وفيما يخص تركيا، التي لديها علاقات قوية مع كلٍّ من الصومال وإثيوبيا؛ فإن الاعتراف بأرض الصومال قد يثير الشكوك حيال دورها في القرن الإفريقي؛ إذ قادت أنقرة مؤخرًا وساطة هدَّأت التوترات بين مقديشو وأديس أبابا بسبب أزمة المنفذ البحري الإثيوبي في أرض الصومال.
السيناريوهات المحتملة:
مع اكتساب قضية استقلال أرض الصومال الكثير من الزخم داخل أروقة الحزب الجمهوري وإدارة ترامب في الآونة الأخيرة، ثمة ثلاثة سيناريوهات مستقبلية حول التحول الأمريكي المحتمل عن سياسة “صومال واحد” إلى الاعتراف بالإقليم الانفصالي.
السيناريو الأول:
قد تُقدم إدارة ترامب على إعلان الاعتراف بأرض الصومال دولة مستقلة ذات سيادة، بما قد يشجِّع دولاً أخرى في اتخاذ السلوك ذاته، هذا السيناريو، يمكن القول: إنه يتأسس على مصالح أمريكية منها: تعزيز النفوذ الإقليمي، ومجابهة الصين وروسيا في القرن الإفريقي، إلى جانب تدعيم الوجود العسكري عبر استغلال ميناء بربرة كمركز لوجيستي في العمليات العسكرية ومكافحة الإرهاب، ومراقبة القرصنة وجماعة الحوثي في اليمن التي تستهدف السفن الغربية والإسرائيلية.
ومن المتوقع أن تشهد ردود الفعل تنوعًا بين تأييد ورفض الانفصال، من جهة ستعمل إثيوبيا والإمارات وإسرائيل بشدة لدعم مثل هذا القرار، في حين ستعمل روسيا والصين ومصر وتركيا إلى جانب الاتحاد الإفريقي على معارضة الاعتراف.
السيناريو الثاني:
يقوم هذا السيناريو على اعتراف أمريكي غير رسمي/ غير مباشر بأرض الصومال، عبر توسيع علاقات التعاون الثنائية دون إقامة علاقات دبلوماسية رسمية، على أن تركز هذه العلاقات على الشؤون الأمنية والتجارية والتنموية.
وعلى غرار السيناريو الأول، يتأسس هذا السيناريو على مصالح أمريكية؛ منها: تعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي بين واشنطن وهيرجسا، ومن الممكن أن تصبح أرض الصومال شريكًا رئيسيًّا في مكافحة الإرهاب في القرن الإفريقي والقرصنة في خليج عدن والبحر الأحمر، ومراقبة التحركات الإقليمية للقوى المتنافسة خصوصًا روسيا والصين.
كما يُسهم هذا السيناريو في عدم إغضاب حلفاء واشنطن الإقليميين على غرار الصومال ومصر، إلى جانب جيبوتي التي تستضيف القاعدة العسكرية الأمريكية الرئيسية في إفريقيا.
السيناريو الثالث:
يحمل هذا السيناريو “عدم اعتراف” أمريكي بأرض الصومال؛ بحيث تظل الولايات المتحدة في موقف محايد، تتجنَّب فيه الاعتراف الرسمي المباشر أو غير المباشر بأرض الصومال، ويعتمد هذا السيناريو بصورة كبيرة على عقيدة الرئيس ترامب والصورة الذهنية “العنصرية”([28]) التي يحملها تجاه قضايا واهتمامات وبلدان القارة الإفريقية.
وفي النهاية؛ تُرجّح الورقة السيناريو الثاني “اعتراف أمريكي غير مباشر/ غير رسمي بأرض الصومال” إلى جانب افتتاح مكتب تمثيلي في “هيرجسا”؛ بناء على إرهاصات وبوادر ظهرت في السنوات الأخيرة، منها الترحيب الرسمي بنتائج الانتخابات في الإقليم الانفصالي، مع الالتزام بالدعم المقدَّم للحكومة الفيدرالية الصومالية أمنيًّا وعسكريًّا.
إجمالاً، من غير المرجح أن يحدث تحوُّل أمريكي كبير تجاه الإقليم الانفصالي، أو نفض اليد كليةً عن سياسة “صومال واحد”، مع ذلك تبقى السيناريوهات الأخرى مرهونةً بمقاربات قائمة على المنافسة الجيوإستراتيجية مع الصين وروسيا في القرن الإفريقي، إلى جانب مدى قدرة الفاعلين الناشئين على غرار مصر وتركيا إلى جانب الاتحاد الإفريقي في الوقوف بوجه أيّ اعتراف محتمل بأرض الصومال، وكذا مدى قدرة حلفاء واشنطن ممن يؤيدون استقلال أرض الصومال خاصة الإمارات وإسرائيل وإثيوبيا في تسويق وتحريك هذا الاعتراف.
المراجع والمصادر
([1]) U.S. Federal Government, Executive Order 13769 – Protecting the Nation from Foreign Terrorist Entry into the United States. Federal Register, 27 January 2017
([2]) United States Department of Defense, Somalia Force Posture Announcement, 4 December 2020
https://www.defense.gov/News/Releases/Release/Article/2435972/somalia-force-posture-announcement/
([3]) The White House, Proclamation on Ending Discriminatory Bans on Entry to The United States, 20 January 2021.
– بي بي سي، بايدن يتراجع عن قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من الصومال، 16 مايو 2022م. بايدن يتراجع عن قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية من الصومال – BBC News عربي.
([4]) Bjørn Møller, The Horn of Africa and the US “War on Terror” with special Focus on Somalia (Working paper), (Aalborg: Institut for Historie, Internationale Studier og Samfundsforhold, Aalborg Universitet), 2009, P 19: 21 The Horn of Africa and the US “War on Terror” with special Focus on Somalia – Aalborg University’s Research Portal
([5]) IDEM, P 21.
([6]) عبد الرحمن محمد حسين، الاعتراف الأمريكي بالحكومة الصومالية وتأثيراته السياسية في المنطقة، مركز الجزيرة للدراسات، 26 فبراير 2013م https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2013/02/20132269507408652.html
([7]) المرجع السابق.
([8]) قراءات صومالية، وزير الخارجية الصومالي يلتقي مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية، 14 أكتوبر 2021م:
https://bit.ly/3BZga91
([9]) حسين معلوم، إعادة تموضع: دلالات الاتفاق الأمريكي-الصومالي للتدريب العسكري، الحائط العربي، 20 فبراير 2024م: https://bit.ly/40r35hU
([10]) US. Congress, S.3861 – Somaliland Partnership Act, 2022.
https://www.congress.gov/bill/117th-congress/senate-bill/3861/text
([11]) متاح على: https://x.com/AsstSecStateAF/status/1858961100517073085
([12]) متاح على: https://x.com/SenateForeign/status/1864420545258803537
([13]) الشرق نيوز، تقرير: “أرض الصومال” تستعد لتقديم عرض لبايدن مقابل الاعتراف الأمريكي، 2 فبراير 2022م
https://bit.ly/4gOWTX3
([14]) Yinka Adegoke, A Trump White House looks set to recognize the world’s newest country, Semafor, 10 December 2024 https://www.semafor.com/article/12/10/2024/somaliland-trump-white-house
-looks-set-to-