الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في دول الساحل والصحراء:وجودٌ “أقل ظهورا وأقل انكشافا”
اعداد صبرين عجرودي: قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية
صرّح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في الشهر الفارط على أنّ بلاده تعتزم اعادة ترتيب أوضاعها العسكرية في القارة الافريقية باعتماد استراتيجية جديدة، وذلك على اثر انسحاب قوات برخان من مالي جرّاء الخسائر المادية والبشرية التي لحقت بها نتيجة المعارك مع التنظيمات الارهابية المستفحلة في منطقة الساحل والصحراء، ذلك الى جانب الراي العام الرافض لوجود فرنسا كقوة استعمارية قديمة مهيمنة على المنطقة ومستغلة لثرواتها.
وتسعى فرنسا الى تغيير سياستها في المنطقة لإعادة فرض هيمنتها خوفا من تهديدات التي يمكن أن تلحقها من القوى الدولية الاخرى التي لن تتوانى في السعيلملئ الفراغ الذي ستخلّفه فرنسا من مغادرة جنودها المنطقة.
فيما تتمثّل الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في دول الساحل والصحراء ؟
من الفشل الى الخروج من مالي
بعد ما شهدته المنطقة من حروب ضد الارهاب، لم تنل الجهود الفرنسية ذلك القدر من الترحيب خاصّة بالتوازي مع تولي المجلس العسكري الذي يقوده الكولونيل “أسيمي غويتا” (AssimiGoita) الحكم في مالي في اغسطس 2020، حيث تعالت عديد الاصوات المحلية الرافضة للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة على أنّ فرنسا قد خسرت حربها على الارهاب، بل هناك من اعتبر أنّ الوجود الفرنسي ساهم في تنامي الحركات الارهابية المدعومة من القوى الدولية الرافضة للنفوذ الفرنسي في المنطقة لصراعها حول الهيمنة، لذلك عبّر العديد عن رفضهم لوجودها وأنّه من الضروري تدخل أطراف دولية اخرى لإخراج المنطقة من وحل تسعة سنوات تمكّنت خلالهم فرنسا من الهيمنة والاستيلاء على ثروات دول الساحل والصحراء تحت شعار القضاء على الارهاب، أما فرنسا فقد شدّدت على أن روسيا تقف بصفة واضحة وراء هذه الحملات الداخلية الرافضة لتدخّلها في المنطقة حتى تتمكن هي الاخرى من السيطرة .
وقد مثّلت الانقلابات العسكرية المدعومة خارجياأحد أهم العوامل التي تمّ اعتمادها لإضعاف فرنسا وفتح النفوذ أمامها.
بناءً على ما سبق، أعلنت وزارة الجيوش الفرنسية نهاية مهمة الجيش الفرنسي في مالي حيث تمّ الاشارة في بيان أنّ “عملية برخانأعادت تنظيم نفسها خارج البلاد في أقل من سته أشهر” وذلك بعد ما حقّقته من هزائم فادحة في حربها على الارهاب، رأى مراقبون للوضع الداخلي أنّها زادت من قوّة هذه الجماعات الجهادية في مقابل فشل الجيش الفرنسي في المهام المكلّف بها، وهو ما ساهم بقدر كبير في تأجيج الوضع وقيام حملات محلية ضد الوجود العسكري الفرنسيتنادي بأنّ هذا الوجود لا يقف وراءه سوى السعي وراء المصالح الخاصّة.
لذلك تسعى فرنسا الى إعادة بناء وجودها في منطقة الساحل والصحراء واعتماد استراتيجيات جديدة في محاربة الارهاب لا تكبّدها أية خسائر اخرى وتضمن لها مصالحها في المنطقة وتؤمن لها نفوذها حيث أعلن ماكرون خلال القمة الافتراضية مع قادة دول الساحل في 9 يوليو من عام 2021 أنّ بلاده ستنهي عملية “برخان” العسكرية وسيتم غلق قواعد عسكرية في كيدال وتومبكتو وتيسالي من شمال مالي وستسير فرنسا نحو التقليص في عدد جنودها من 5000 عنصر الى 3500 في بداية عام 2022 ثم الى 2500 في عام 2023.
استراتيجية فرنسا الجديدة في دول الساحل والصحراء: تحويل التركيز نحو النيجر
تعد النيجر وجهة فرنسا الجديدة التي نقلت اليها جنودها، وتندرج ضمن استراتيجيتها الجديدة، فرغم الفشل الذريع الذي احرزته في المنطقة إلاّ أنّ المغادرة بالنسبة لفرنسا أمر لا يمكن حدوثه في ظلّ التهديدات الكبرى التي تواجهها من القوى الدولية الاخرى الساعية للهيمنة وبسط النفوذ في منطقة الساحل الافريقي، لذلك فإنّها لن تقوم بترك المجال لمنافسيها مهما كلفّها ذلك.
وتركّز هذهالاستراتيجية على ثلاثة ابعاد رئيسية تتمثّل في الدفاع، التنمية والدبلوماسية، نظرا في انّ استراتيجيتها القديمة وفقا لما عبّر عليه المحللون كانت تفتقر لهذه المفاهيم وكانت مبنية في مقام اوّل على تحقيق المصالح والتّنافس مع القوى الاخرى الساعية بدورها للهيمنة، كما أشار بعض المحلّلين الاخرين الى التناقض الكامن في طبيعة الوجود الفرنسي في هذه الدول الافريقية والدّوافع التي تقدّمها لتبرير وجودها، فمثلا القول بسعيها لتكريس الديمقراطية والدّفاع عن مبادئها لا تستقيم مع السياسات الفرنسية المرتكزةعلى المنطق الاستعماري القديم، وكذلك الحال بالنسبة للوعود المقدّمة، فإنها لا تتناغم بأي شكل من الاشكال مع ما يحدث على أرض الواقع، إذ أنّ فرنسا قامت بربط تدخلها في الشأن الافريقي على جملة من الوعود المرتبطة بالحقوق والحريات وضمان العيش برفاهية لشعوب المنطقة، لكنّ الصورة التي حرص على تقديمها ماكرون سرعان ما تشوّهت بمرور الوقت وهو أمر بديهي الحصول في ظلّ الكوارث المتتالية التي لحقت بمالي والتّي زادت من حدتها القوى الاخرى المنافسة لفرنسا، وظلّت الاخيرة حتى بعد انسحابها من مالي تواجه تبعات الاتهامات الموجّهة لها، إذ أنّ السلطات الداخلية في مالي تطالب باجتماع طارئ لمجلس الامن على ما اطلقت عليه أعمال عدوانية من فرنسا مقرّة أنّها تدعم الجماعات الارهابية وتقوم بتسليحها لتوتّر الاوضاع في المنطقة وتبرّر وجودها، ذلك الى جانب الاحتجاجات الكبيرة في النيجر على جنود قوّة برخان الذي تمّ نقلهم الى اراضيها، إذ ندّد المجتمع المدني النيجيري بهذا الوجود مطلقا في الغرض عريضة تطالب بخروج قوة برخان لضمان الامن والاستقرار ببلادهم.
وفيما يتعلّق بالاستراتيجية الجديدة لفرنسا في منطقة الساحل، أشار مراقبون بأنّ التكتيكات الفرنسية الجديدة يمكن أن تنجح إذا ما ركّزت على الجوانب التنمويةوالاقتصادية لهذه البلدان ومختلف الجوانب الاخرى التي تفتقر لها، وتخلّصت أيضا منالصورة التي تعكس لوجودها وجها استعماريا، إلاّ أنّ ما يمكن أن يعرقل الاستراتيجيات الفرنسية الجديدة هو القطع نهائيا لدى الاطراف الداخلية أنّ أي تدخل من جانبها مهما اختلفت استراتيجياته فهو يخفي سياسات تحكمها المصلحة والتنافس حول النفوذ، حتّى وان حقّقت السياسات الفرنسية الجديدة قدرا من التنمية والعيش النزيه والديمقراطية فإنّ وجودها يعتبر في حدّ ذاته ورقة خاسرة، لكنّ فرنسا لن تقتنع بذلك والمثير لمخاوفها في هذه اللحظة هو التدخلات الخارجية الاخرى التي من شأنها أن تكلّفهاخسائر باهضه الثمن ليس في افريقيا فقط، بل تمتد الى ما هو أبعد من ذلك.
وذلك من شأنه أن يجعل فرنسا تواصل دون ادراك منها في اضعاف مواقفها واغراق نفسها لعدم ادراكها للأسباب الحقيقية التي تقف وراء موجة الرفض الموجّهة ضدها، وهي الان بصدد إعادة تنظيم وجودها العسكري مع التركيز على دعم القوات المحلية خاصّة في النيجر بطريقة مكثّفة.
وقد أشار ماكرون في يوليو الفارط أنّ بلاده ستؤمن استمرارية مشاركة الدول الاعضاء في الاتحاد الاوروبي في المنطقة.
وضمن الاستراتيجية الجديدة، يأتي الاهتمام بتقديم دعم كبير للقوات المحلية النيجيرية في إطار حرص فرنسا على تحويل الانظار المُركّزة عليها نحو هذه الجيوش الوطنية حتى لا يتم توليد المزيد من العداء نحوى ما تبقى من جيوشها داخل المنطقة، أي أنّ الاستراتيجية الجديدة مبنية على عمل القوات الفرنسية بتكتم ودفع القوات المحلية نحو القيام بالعمليات العسكرية بتقديم المساعدات اللاّزمة لها عوضا عن قيام الجيش الفرنسي بكل العمليات.
كما انطلقت فرنسا في ابرام اتفاقيات ومشاريع خاصّة بالجانب التنموي، اذ قامت بتوقيع قرض بقيمة 50 مليون يورو لتحسين شبكة الكهرباء في النيجر كما زادت من قيمة التبرعات المالية والغذائية في البلاد في انتظار توسيع هذه الاستراتيجية حتى تشمل دولا اخرى في المنطقة في الاعوام القادمة وتقوم بإدراجها ضمن خطّة شاملة تتمحور حول مكافحة الارهاب في المنطقة.
في نفس السياق، يمكن لفرنسا حتى تُنجح استراتيجيتها الجديدة في المنطقة بأن تتجاوز جانب العلاقات المتوترة مع مالي ومع المجلس العسكري في العاصمة وتكون أكثر عمليّة في وجودها في دول الساحل بأن تقبل دعوات النيجر وبوركينا فاسو لعودة مالي لمجموعة دول الساحل الخمس.
وبذلك فإنّ فرنسا تسعى للمواجهة الغير مباشرة للتنظيمات الجهادية، باعتماد الاشراف والتوجيه والدعم للقوات المحلية وعدم الظهور العلني، في مقابل التّركيز بشدة على تحقيق مصالحهاوتلافي الوقوع في الاخطاء القديمةممّا جعلها تتكبّد خسائر فادحة لم تُقابل إلا بالإدانة من الاطراف الداخلية.
ومن المتوقع جدا أن تفشل دول الساحل في حربها على الارهاب وان تجد هذه التنظيمات الطريق حتى تمتد الى خليج غينيا، هل يمكن اعتبار أنّ استراتيجية فرنسا الجديدة في المنطقة هي خطة حتى تعيد تمركزها بقوة في المنطقة وتثبت فشل الاطراف الاخرى المتدخلة ؟