الاستراتيجية الأمريكية.. الحرب أهم من المناخ والصحة!*
واشنطن-الولايات المتحدة-17-10-2022
تقرير استراتيجية الأمن القومي المنشور مؤخراً يركز على تمسّك الولايات المتحدة بمبدأ الحرب على حساب التعاون مع سائر القوى في العالم.
المحتوى الأساسي للتقرير المكون من 48 صفحة، هو آلية التعامل مع المتغيّر العالمي وكيفية الاستجابة له، وفقاً للتحديّات التي يضعها في طريق القوة الأمريكية.
يصنّف التقرير التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة ضمن مجموعتين أساسيتين.. الأولى تتمثّل بنهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة، وعودة التنافس بين الأمم، وتصاعُد حدة هذه المنافسة مع روسيا والصين، والمجموعة الثانية تتمثل في”التحديات العابرة للحدود”، كالمناخ والأوبئة والإرهاب وإمدادات الطاقة وأزمات الغذاء والمياه.
السِّمة العامة لهذا التقرير الاستراتيجي تتمثّل في تمسّك الولايات المتحدة بمبدأ الحرب على حساب التعاون مع سائر القوى في العالم لمواجهة التحديات العابرة للحدود، ويتظهّر ذلك في عدد من البنود من جهة، وآلية فهرسة التقرير من جهة أخرى.
أولاً: تؤكد الولايات المتحدة ما ذكرته في تقريرها الصادر عام 2021، والمتمثّل في تكريس أولوية المواجهة مع الصين وروسيا جغرافياً، والمواجهة (وليس التعاون) الميدانية، تكنولوجياً وسيبرانياً وعسكرياً واقتصادياً، ومن ذلك التركيز على تعزيز الأحلاف والتكتلات المختصة بتلك الجغرافيا من العالم (الكواد، آسيان، أوكوس) وهذا يعني أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للمناطق الساخنة، والمجالات الساخنة في العالم على حساب القضايا العالمية: الأوبئة والمناخ والغذاء. ومن الجدير بالذكر هنا، أن سياسة عدم التصعيد في الشرق الأوسط تتّسق مع التفرغ الأمريكي للمواجهة في الهندي – الباسفيكي، ويجب ألّا ننسى أن سياسة الولايات المتحدة في بداية الألفية، بشأن منطقتنا، كانت بعنوان “الإبحار عبر الاضطراب”، وليس “عدم التصعيد”.
ثانياً: في قائمة المسارات الأمريكية للحل، والمذكورة في التقرير، يتمّ تأكيد حقّ الولايات المتحدة في استخدام القوة العسكرية وتطوير البنية التحتية للسلاح النووي بالذات، من أجل المحافظة على مصالحها، وفي الوقت نفسه، تدين الاستخدام الروسي لهذه القوة، عندما تدافع روسيا عن أمنها القومي، وليس فقط مصالحها.
ثالثاً: إن الولايات المتحدة مستعدة للانقلاب على العولمة الاقتصادية، في سبيل الانتصار في حربها الاقتصادية على الصين وروسيا، فهي تخصّص 280 مليار دولار للاستثمار في مجالات الاتصالات والطاقة النظيفة وأشباه المواصلات، والهدف من هذه الميزانيات الضخمة هو محاولة توطين الإنتاج الأمريكي داخلياً من أجل منع سيطرة الصين على شبكات التوريد في العالم، والاستثمار في الطاقة النظيفة لتقليل الاعتماد على موارد الطاقة الروسية، وبيع هذه الأنظمة الجديدة للسوق الأوروبية المأزومة، والتي لن تتحرك الولايات المتحدة لإنقاذها إلّا في توقيتها هي، وعلى مهل.
رابعاً: في التقرير إشارة واضحة إلى إزالة الخطوط الفاصلة بين السياسة الخارجية والسياسة المحلية، وفي ذلك انحياز إلى مبدأ الحرب في الخارج لمصلحة الاقتصاد والرفاه في الداخل، وفي ذلك تحفيز للجمهور الأمريكي على قبول مبدأ المواجهة (في أشكالها المتعددة)، واعتبارها معركته الخاصة.
خامساً: يستدعي التقرير أجواء الصراع الأيديولوجي في العالم، على اعتبار أن مواجهة الصين وروسيا، وكذلك إيران، هي مواجهة بين الديمقراطية والأوتوقراطية، ويعدّ التقرير (ضمن الأسلوب المعتاد للحزب الديمقراطي) أن “الديمقراطية الأمريكية هي النظام الذي لا يمكن مماثلته ، وأن الولايات المتحدة ما زالت تدافع حقاً عن الدور الفعّال للهيئات الدولية، وحقوق الإنسان، وتقرير المصير، وحق الدول في تحديد سياساتها الخارجية بصورة مستقلة!.. إلخ. لكنّ التقرير ينقلب على نفسه في بنود أخرى، في البحث عن حلول لأزمة الديمقراطية الأمريكية التي وصّفها تقرير صيني مقابل بـ”الفيتوقراطية”، والتي تعني تعطّل القرارات الأميركية بحكم صراع أجنحة الدولة العميقة.
سادساً: تعلن الولايات المتحدة استعدادها لمواجهة روسيا في أوكرانيا، من خلال الدعم بالمال والسلاح والتأليب الإعلامي، فهي تستخدم هذه الأدوات أيضاً في مواجهة الصين في شينجيانغ والتبت وهونغ كونغ، مع المحافظة على لغة تورية لا تستفز الصين، مثلاً: “نرفض الإجراءات الأحادية بحق تايوان، ولا ندعم استقلال تايوان”.
الولايات المتحدة تبحث، في تقاريرها الاستراتيجية، عن أدوات استفزاز في المناطق الملتهبة من العالم (بحر الصين الجنوبي وأوراسيا)، وعن أدوات للمواجهة في الميادين الحساسة (السايبر، التكنولوجيا، النووي، التجارة).. هي، ببساطة، تبحث عن معايير تنافسية في هذه المجالات، ولا تكترث لفشلها في ميدان التحديات العابرة للحدود، فبايدن لا يشعر بغضاضة في الحديث عن موت 6 ملايين ونصف مليون بسبب كورونا، استحوذت الإمبراطورية الأمريكية على حصة مليون منهم.
مهما تكن الشعارات الأمريكية برّاقة، فإنّ الإمبراطورية الأمريكية لم تتغير عن لحظة كان يستعد فيها رونالد ريغان لـ”حرب النجوم”، وكان مستعداً لإعلان “حرب نهاية العالم”. لقد ساهم الإعلام الغربي، آنذاك، في أن ننظر إلى روسيا بصفتها “نظام الحكم غير الرشيد”، وأن الاتحاد السوفياتي مستعد لإنهاء العالم في حرب نووية خاطفة، لكن ريغان كان، في حقيقة الأمر، أكثر استعداداً من غورباتشوف للخطوة المجنونة.
عندما وقف جيش روسيا على تخوم كييف في بداية العملية الخاصة متردداً، كان يحاول تجنب مجزرة، وكان حريصاً على رمزية كييف (كييف روس)، إلّا أن الأمريكي يبقى الأقرب دائماً إلى لحظة الحرب العمياء.
*الكاتب الصحفي محمد فرج.. رئيس تحرير “الميادين نت”