الاستخبارات التركية: جيش الظل العثماني
تونس 23-08-2021
اعداد رباب حدادة: قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية
مراجعة : الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية
منذ نشأتها كان للاستخبارات التركية دائما دور مختلف عن أجهزة الاستخبارات الأخرى، فوظيفتها ليس دعم عمل باقي أجهزة الدولة من خلال الاستعلام والأمن القومي، فهذا الجهاز عبارة على دولة داخل الدولة.
جهاز يعمل بالتوازي مع باقي المؤسسات، أشبه بجيش الظل الذي يحمي المصالح التركية في الداخل والخارج وكل الوسائل في ذلك مباحة حتى غير الشرعية.
1- وكالة الاستخبارات التركية: من المنظمة الخاصة إلى شبكة دولية
مؤسسة “الدولة العميقة”
في نهايات الدولة العثمانية وتصاعد التهديد السوفياتي توجه الأتراك نحو تأسيس هيكل يضمن استمرارية الدولة وكان بذلك تأسيس “المنظمة الخاصة / Teskilat-i Mahusa” كفرع “لمنظمة الاتحاد والترقي” وقد التف أفرادها حول شخصية “إسماعيل أنور باشا” وتمثل تجسيدا كاملا لمعنى الدولة العميقة، كان أول قائد لها سليمان العسكري.
ساهمت الحرب الباردة في تدعيم هيكلة وتنظيم هذه المؤسسة تحت حكم الباشاوات الثلاث اللذين سيروا فعليا السلطنة العثمانية في أخر فترة لها (1913-1919)(محمد طلعت باشا/ إسماعيل أنور باشا/احمد جمال باشا) وكانوا من قيادات المنظمة الخاصة.
لم يكن للمنظمة صفة رسمية في ذلك الوقت ما خلق أزمة تمويل فكانت الاستخبارات الألمانية أول من مولها وبحلول الحرب العالمية الأولى امتدت شبكتها وكانت قوة داعمة للألمان في عملياتهم الحربية.
نشرت المنظمة عملاءها في دول شمال إفريقيا، إيران، آسيا الوسطى، الهند واندونيسيا، حيث عقدوا تحالفات مع الطرق الصوفية والمدارس الدينية، من اجل تحريض المسلمين على القتال ضد قوات الحلفاء باسم الجهاد. لم ينجحوا في كل من الجزائر وتونس والمغرب غير أنهم حققوا نجاحا كبيرا لفائدة الألمان في ليبيا حيث استطاعوا التنسيق بين قيادات محلية وقادة العمليات البحرية الألمانية (حرب الغواصات) وحسب خبراء الحرب الخسائر الايطالية في ليبيا، تسببت فيها العمليات التنسيقية والإمدادات اللوجستية الذي قام بها “العثمانيون”.
عمل أعضاء المنظمة على الدعم اللوجستي للعمليات الألمانية من خلال تسهيل دخول فرق الاستخبارات إلى الدول أهم تلك العمليات كانت في آسيا الوسطى، خاصة في إيران حيث أمنت دخول أفراد من الفرقة III B للاستخبارات الألمانية وعلى وجه الخصوص الجاسوس الشهيرWilhelm Wassmuss.
بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى تفككت المنظمة وفر اغلب أعضائها إلى أوروبا حيث تم اغتيال القيادات الاتحادية (طلعت باشا وجمال باشا) في “عملية نمسيس” التي تعتبر انتقاما الأقليات المهجرة من المنظمة الخاصة.
ألتف ما تبقى من أعضاء المنظمة حول مصطفى كمال أتاتورك، التي وجد في بعض قياداتها دعما قويا، وتم تأسيس جهاز جديد عند تزعم أتاتورك للمقاومة الوطنية عرف بجهاز الشرطة العسكرية Askerî Polis Teskilati.
بعد إمضاء اتفاقية لوزان سنة1923 واستقلال تركيا عمل أتاتورك على تأسيس جهاز استخبارات أكثر حداثة على النموذج الغربي، وكان مستشاره في ذلكVienne Walter Nicolaï قائد الفرقة III B من استخبارات الرايخ الألماني ما بين 1913-1919.
في 5 جانفي 1927تم تأسيس الاستخبارات التركية الرسمية باسم خدمة الأمن الوطني Milli Amele Hizmet-MAH وتولى رئاستها “شكري على اوجال” وتم في تلك الفترة تركيز ثلاث مراكز فرعية:
- – المركز الأول كان في فيينا وينشط في منطقة البلقان وأوروبا الشرقية
- – المركز الثاني كان في طهران ومهمته مراقبة كافة التحركات السوفياتية في آسيا الوسطى
- – المركز الثالث كان في القاهرة ومهمته مراقبة دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط. و
كانت تلك أولى فترات تمدد الاستخبارات التركية في العالم
التغير الجذري الثاني للاستخبارات التركية سيكون في نهاية الحرب العالمية الثانية حيث بلغت تركيا مرحلة من الضعف الشديد تحت ضغط الاتحاد السوفياتي، الذي طالبها بتعويضات ترابية في الأناضول الشرقية، وتحت هذا الضغط استنجدت تركيا مباشرة بالولايات المتحدة الأمريكية، وبدا العمل المشترك بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA وخدمة الأمن القومي التركيةMAH ، وتأسس مكتب مشترك لتنسيق العمليات جهّزته الولايات المتحدة الأمريكية، كما قامت بدورات تدريب للعملاء الأتراك.
وكانت المهمة الأولى لهذا المكتب هو القبض على عملاء الحلف الشرقي، تواصلت هذه العمليات إلى حدود 1989 وانتهت بالقبض على 85 بلغاري،27 سوفياتي، و 2 من الرومان.
المهمة الثانية كانت عرقلة صعود القومية العربية ومحاربة قادتها، وتم في هذا الإطار التنسيق بين الاستخبارات الإسرائيلية والتركية في عمليات عديدة منها عملية Trident -1958 التي وضعت بذلك أول خيوط التعاون التركي الإسرائيلي الذي غذاه حقد تاريخي للأتراك على العرب اللذين كانوا من أشد المقاومين للاحتلال العثماني.
1965 تغيرت وكالة الأمن القومي إلى وكالة الاستخبارات التركية Milli Istibarath Teskilatli-MIT وهي جهاز الاستخبارات الحالي، عكس هذا التغير، تغيرا في الدولة من سلطة العسكريين إلى سلطة المدنيين، وتقوية نفوذ الوزير الأول من خلال وزارة الداخلية.
سلاح الحزب الحاكم
اليوم تمثل الوكالة أقوى سلاح اردوغان ضد معارضيه في الداخل والخارج، فالمؤسسة التي التزمت في بدايات عملها بالمبادئ الكمالية لحقها مد الإسلام السياسي خاصة في العقد الأخير بتسلم “هاكان فيدان” رئاسة الوكالة وهو عضو في حزب العدالة والتنمية ويصفه اردوغان بكاتم أسراره.
يعد الصراع حول السيطرة على جهاز الاستخبارات سبب تفكك التحالف بين اردوغان و”فتح الله كولن” الذي أصبح العدو الأول للرئيس التركي. كما صنفت “منظمة غولن” المنتشرة اليوم في العالم منظمة إرهابية حسب النظام التركي، وهي تعمل على محارتها والتجسس على أعضائها خاصة بالخارج وفي الدول الأوروبية والافريقية وكل من يرتبط بها، وهي المهمة التي يتولاها جهاز الاستخبارات التركي في ألمانيا والذي زوّد الحكومة الألمانية بقائمة اسمية ل300 شخص و200 مؤسسة طالب بتسليمهم، وغالبيتهم من الحركة أو ممن يرتبطون بها، مطلب لم تأخذه الحكومة الألمانية على محمل الجد ولكن حسب ” إريش شميت إينبوم” أن المخابرات التركية حققت أهم أهدافها وهو نشر الرعب والفزع في صفوف خصومها وتضييق الخناق عليهم من خلال عزلهم عن تمديد نشاطهم ونسج علاقات من خلال إرهاب المتعاملين معها.
نشر كذلك موقع “نورديك مونتور”في 15 ماي 2021، ان تركيا انخرطت في حملة تجسس واسعة في “ألبانيا” لجمع المعلومات حول معارضي اردوغان وانخرط في هذه الحملة الدبلوماسييون الأتراك، اللذين استقصوا المعلومات عن رجال الأعمال وممثلي الجمعيات المحلية والصحفيين وعائلاتهم، ممن يعتقد بانتمائهم لمنظمة كولن، تم نقل هذه المعلومات لاحقا إلى وزارة الخارجية التركية واستعملها المدعي العام التركي “ادم اكينجي” في لائحة اتهام جنائية رفعها بتهمة الإرهاب ضد العديد من الأشخاص.
شهدت بلغاريا كذلك حملة جوسسة مماثلة حسب بيان أصدرته وزارة الخارجية البلغارية في 30 سبتمير2020، كشف أن السفارة التركية في صوفيا قامت بحملة تجسس في بلغاريا لرصد معارضي النظام التركي، وجمع كل المعلومات عنهم سواء كانوا من الأتراك أو البلغاريين وشملت حملة التجسس على وجه خاص العاملين بصحيفة “زمان” الصادرة بالنسخة البلغارية وهي الصحيفة التابعة لحركة كولن.
يعتبر استخدام الدبلوماسيين في عمليات الجوسسة مخالف لاتفاقية فيينا للعمل الدبلوماسي لسنة 1961 المادة 9 و المادة 31، غير أن تجسس الأتراك على العالم لم يقف عند هذه التجاوزات بل امتد إلى إرساء منظمات سرية مثلت الذراع المسلح للاستخبارات، وقامت بعمليات تصفية عديدة للمعارضين خاصة في النمسا وألمانيا وهي ما يعرف بتنظيم “الذئاب الرمادية” وجه قاتم آخر للأجهزة السرية التركية.
2- تنظيم الذئاب الرمادية
تاريخ دموي و إيديولوجيا متطرفة
تعود أفكار هذا التنظيم إلى فترة الأربعينات من القرن الماضي، حين تنامت الأفكار القومية لدى فئة من الأتراك في مقدمتهم الكاتب “نيهال اتيسيز” الذي وجه رسالة إلى رئيس الحكومة في تلك الفترة محمد شكري سراج اوغلو، ينتقد فها ابتعاد الدولة عن القومية التركية، بعد فترة تم اعتقال “اتيسيز” وأتباعه، بعد شكوى قدمها ضدهم السياسي “صباح الدين علي”، وكان من بين المعتقلين والمتأثرين بأفكار “اتيسيز” “ألب ارسلان تركيش” المؤسس الفعلي لتنظيم الذئاب الرمادية في فترة الستينات.
ظهرت عديد الأحزاب القومية في تركيا في فترة الستينات، أهمها حزب الحركة القومية الذي ترأسه “الب ارسلان توركش” في 1965، وتم إنشاء جناح عسكري للحزب وهو منظمة الشباب والتي لقبت بتنظيم الذئاب الرمادية.
يقوم التنظيم على أفكار متطرفة للقومية التركية، وعلى قناعة بأفضلية العرق التركي، ويتبنى التنظيم فكرة الحرب لإيمانه بأنه ينحدر من سلالة المحاربين، وأن عودة الدولة وتوحيد كافة الأعراق المنحدرة من أصل تركي لن تكون إلا باستعمال العنف والحرب.
هذه الايدولوجيا العنيفة بدأت في الظهور في الساحة السياسية التركية بين الستينات والثمانينات، إذ كان المسؤول على مذبحة “ميدان تقسيم” في اسطنبول في 1 ماي 1977 والتي ذهب ضحيتها 41 شخصا، من المفكرين والحقوقيين و السياسيين، من الأعمال التي أسندت للتنظيم، كذلك مذبحة “قهرمان مرعش” الذي قتل فيها مئات من العلويين في 1978. ووفقا للسلطات التركية، نفذت المجموعة 694 هجوما بين عام عامي 1974 و1980، راح ضحيتها الآلاف من الأشخاص.
في تقرير “لغولوبل سكيورتي” نشر في 2016، أكد أن تنظيم الذئاب الرمادية نشط إلى جانب المافيا في تجارة المخدرات، في فترة التسعينات من اجل الحصول على تمويلات وكان يتلقى تغطية أعماله من قبل المسئولين في الدولة، مقابل تصفية خصومهم السياسيين خاصة في الخارج.
هذه المعطيات تؤكدها حادثة “سوسورلوك” في 1996 حيث كشف حادثة سيارة العلاقة بين التنظيم والسياسيين والمافيا في تركيا، اذ كان الركاب كل من نائب مدير شرطة إسطنبول “حسين كوجاداغ” و”عبد الله جاتلي” قاتل مأجور و”سادات بوجاك” نائب بالبرلمان وقائد تنظيم الذئاب الرمادية في تلك الفترة.
انتشار سم الذئاب الرمادية
اليوم يلتف التنظيم بإيديولوجياتهم القومية المتطرفة، حول شخص الرئيس التركي اردوغان ويقوم بتصفية معارضيه وترهيبهم، كما يمتد التنظيم اليوم في دول عديدة خاصة أوروبا وآسيا الوسطى، وقد شارك في حروب مختلفة.
إذ تم رصد أتباعه في الصراع بين القبارصة الأتراك واليونانيين في قبرص، كما عمل على دعم “الأويغور” في إقليم “شينغيانغ” الصيني،
وفي عام 2015، قام التنظيم بهجوم بالقنابل في بانكوك، ممّا أسفر عن مقتل 19 شخصاً وإصابة 123، احتجاجاً على قرار الحكومة التايلاندية بترحيل مجموعة من “الأويغور” إلى الصين، بدلاً من السماح لهم بالسفر إلى تركيا، حيث كانوا سيحصلون على اللجوء.
قاتل التنظيم كذلك في حربي الشيشان الأولى والثانية ضد الروس، وأفادت بعض التقارير بأن التنظيم لعب دورا تنسيقي مع تتار شبه جزيرة القرم، وتركمان سوريا في السنوات الأخيرة.
تعد ألمانيا أكثر دولة ينتشر فيها الذئاب الرمادية، لأسباب تاريخية ربطت الألمان بأجهزة الاستخبارات التركية، إذ بلغ عدد الذئاب الرمادية في ألمانيا 18 ألف شخص ما يجعله اكبر تنظيم سري في الدولة، وعدد أنصاره يفوق بثلاث مرات أنصار NBD” ” اخطر حزب نازي متطرف في ألمانيا.
في 2019 حذرت النمسا من رموز وشعارات الذئاب الرمادية في الدولة، التي تعد من أكثر الدول التي تتركز فيها شبكة الاستخبارات التركية بأكثر من 400 مخبر حسب السياسي النمساوي “يريفان أصلان”، ويتركز التنظيم في غربي النمسا وبالتحديد في مدينة “كوفشتاين”.
كما قامت فرنسا في نوفمبر 2020 بحلّ تنظيم الذئاب الرمادية، معللة القرار بضلوع التنظيم في القيام بأعمال عنف وبث للكراهية والتوتر داخل الدولة، خطوة اعتبرتها تركيا مسا من سيادتها وتوعدت فرنسا برد حازم.
ألمانيا من جهتها لم تتخذ أي حل قطعي، غير أن البرلمان صادق وبالأغلبية يوم 18 نوفمبر 2020 بدراسة حظر منظمة “الذئاب الرمادية” بناءا على طلب مشترك قدمته مجموعة من الأحزاب منها أحزاب الائتلاف الحاكم والحزب الديمقراطي الحر وحزب الخضر، يطالب الحكومة بدراسة وقف التنظيم وحضر نشاطه.
بعد تمدد التنظيم في أوروبا وازدياد نشاطه وأتباعه والمتعاطفين معه وجدت الدول الأوروبية نفسها غافلة عن تنظيم ينسج خيوطه داخل مؤسساتهم وشعوبهم في الظل منذ عقود، ويبدو أن محاولات مقاومته قد بدأت متأخرة غير أنها باتت ضرورة ملحة.
وفي مطلع شهر جوان 2021 صادق البرلمان الأوروبي بتصنيف المنظمة التركية المتطرفة كجماعة “إرهابية” وحضر أنشطتها داخل الاتحاد الأوروبي.