أخبار العالمإفريقيابحوث ودراسات

الاتفاق الدفاعي الجزائري التونسي: نحو هندسة أمنية مغاربية جديدة

توقيع الجزائر وتونس اتفاق التعاون في مجال الدفاع يمثل تحولًا نوعيًا في العلاقات الثنائية، وينقل التعاون الأمني من مستوى التنسيق العملياتي إلى إطار مؤسسي شامل.

جاء الاتفاق في ظرف إقليمي دقيق يتّسم بتصاعد التهديدات العابرة للحدود، وتغير موازين القوى في الساحل وليبيا، وضغوط الهجرة غير النظامية، وتصاعد النشاط الاستخباراتي في شمال إفريقيا

اولا/ الخلفية الاستراتيجية

تطور التعاون الأمني والعسكري بين الجزائر وتونس يعكس مسارًا تراكميًا مبنيًا على التجربة والضرورة.

فمنذ الثمانينات، تعامل البلدان مع الحدود المشتركة باعتبارها فضاءً أمنيًا حساسًا، مما فرض تنسيقًا دائمًا لمواجهة شبكات التهريب والجريمة المنظمة التي شكلت أول تهديد مشترك.

غير أن التحول الحقيقي حدث بعد 2011، حين كشفت العمليات الإرهابية في جبل الشعانبي هشاشة البنية الأمنية التقليدية، وأظهرت أن معالجة التهديدات العابرة للحدود تتطلب مقاربة جماعية تتجاوز السيادة الأمنية الضيقة.

في هذا السياق، تحولت طبيعة التعاون من إجراءات تنسيقية محدودة إلى تنسيق ميداني مهيكل، تضمن تبادل المعلومات، وتخطيط العمليات المشتركة، وإنشاء غرف عمليات دائمة على المستوى الحدودي.

هذا التحول يعكس نضجًا في التفكير الاستراتيجي لدى البلدين، وانتقالًا من منطق التفاعل مع الأزمات إلى منطق إدارتها والتنبؤ بها.

الآن، يأتي الاتفاق الجديد ليمنح هذا التعاون بعدًا مؤسساتيًا واضحًا، ويحوّله من تفاهمات سياسية إلى إطار قانوني ملزم يضمن الاستمرارية والاستقرار، بغض النظر عن التغيرات السياسية.

يمكن اعتبار هذا الاتفاق خطوة في اتجاه بناء أمن مغاربي ذاتي قائم على مبدأ الاعتماد المتبادل في حماية الحدود ومكافحة التهديدات المشتركة، دون ارتهان للمظلات الأجنبية.

كما أن توقيته يعكس إدراكًا مشتركًا بأن التهديدات الحالية لم تعد ظرفية، بل هي هيكلية ومتعددة الأبعاد تشمل الإرهاب، التهريب، الهجرة غير النظامية، والجريمة المنظمة.

بالتالي، يصبح الاتفاق ليس مجرد أداة تعاون، بل ركيزة لإعادة تعريف الأمن القومي في بعده الإقليمي، وتأكيد لدور الجزائر وتونس كفاعلين أساسيين في بناء هندسة أمنية مستقلة في شمال إفريقيا

ثانيا/ مضمون الاتفاق

جاء الاتفاق الجديد بين الجزائر وتونس ليؤسس مرحلة جديدة من التعاون الدفاعي، تتجاوز التنسيق الميداني إلى بناء شراكة مؤسسية دائمة تشمل مختلف مجالات العمل العسكري والأمني.

فهو يضع إطارًا متكاملًا للتعاون يشمل:

  • التكوين العسكري المتبادل،
  • وتبادل المعلومات والخبرات الاستخباراتية،
  • وتنسيق الجهود لتأمين الحدود ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة،
  • الانفتاح على مجالات أكثر تقدمًا كالتطوير التقني والصناعة الدفاعية المشتركة.
  • تنظيم مناورات ميدانية دورية وتبادل الخبرات العملياتية، بما يعزز قدرات الجيشين على العمل المشترك في مواجهة التهديدات العابرة للحدود.

يُلاحظ أن الاتفاق لم يُصغ في قالب “معاهدة دفاع مشترك”، أي أنه لا يرتب التزامات عسكرية تلقائية في حال تعرض أحد الطرفين لعدوان، بل جاء بصيغة تعاون دفاعي شامل يقوم على مبدأ “الاندماج الوظيفي” بين المؤسستين العسكريتين.

هذه الصيغة تعكس توازنًا دقيقًا بين احترام سيادة كل دولة، والحاجة إلى تنسيق دفاعي متكامل يواجه تهديدات مشتركة ذات طابع عابر للدول.

يعبر الاتفاق عن تحول في العقيدة الأمنية المغاربية، من الانكفاء القطري إلى الرؤية الإقليمية.

فهو يعيد تعريف التعاون الدفاعي بوصفه أداة لتحقيق الأمن الوقائي، لا مجرد رد فعل على الأزمات.

إدماج الجانب الصناعي والتقني في الاتفاق يعكس وعيًا بضرورة الانتقال من التبعية التسليحية إلى بناء قدرات إنتاجية محلية مشتركة، مما يكرس مفهوم “السيادة الدفاعية”.

كما أن إدراج التنسيق في المواقف الإقليمية يشير إلى نية الطرفين في توحيد الرؤية تجاه الملفات الأمنية في الساحل وليبيا والمتوسط، بما يمنح الجزائر وتونس وزنًا تفاوضيًا جماعيًا في مواجهة الضغوط الخارجية.

بذلك، يمكن القول إن الاتفاق لا يهدف فقط إلى ضبط الحدود، بل إلى هندسة فضاء دفاعي مشترك يدمج القدرات، ويعزز الاستقلال الاستراتيجي للبلدين ضمن رؤية مغاربية جديدة.

ثالثا/ دلالات التوقيت

جاء توقيع الاتفاق في لحظة إقليمية دقيقة تتسم بتعدد بؤر التوتر وتداخل التهديدات.

الساحة الليبية

فعلى الساحة الليبية، ما تزال حالة الهشاشة الأمنية قائمة، مع غياب مؤسسات موحدة وقدرة محدودة على ضبط الحدود، وهو ما يجعل الجنوب التونسي والشرق الجزائري في تماس مباشر مع بيئة مضطربة.

منطقة الساحل الافريقي

وفي منطقة الساحل، تتزايد مؤشرات إعادة انتشار الجماعات المسلحة بعد التحولات الأخيرة في النيجر ومالي وبوركينا فاسو، ما يخلق تهديدًا متحركًا يتجاوز الحدود الوطنية.

الضفة الشمالية للمتوسط

أما على الضفة الشمالية للمتوسط، فتصاعد الضغوط الأوروبية بشأن ملف الهجرة غير النظامية بات يفرض على دول المنطقة مقاربات دفاعية وأمنية مشتركة لحماية السيادة في مواجهة ابتزازات سياسية متزايدة.

إلى جانب ذلك، تواجه تونس وضعًا داخليًا مركبًا، يجمع بين ضغوط اقتصادية وأمنية، ما يجعل التنسيق مع الجزائر عنصرًا حاسمًا لتحقيق التوازن والاستقرار.

الظرف الزماني للإتفاقية

يعكس توقيت التوقيع إدراكًا استراتيجيًا مشتركًا لطبيعة المرحلة، فهو ليس مجرد رد فعل على تطورات آنية، بل استباق لتغيرات إقليمية قد تعيد رسم خرائط النفوذ في شمال إفريقيا.

من خلال الاتفاق، تسعى الجزائر إلى ترسيخ مبدأ الأمن الإقليمي الذاتي، أي بناء مقاربة أمنية مغاربية مستقلة، لا تخضع للتموضعات الخارجية، ولا تستند إلى دعم أطراف غير إقليمية.

هذا التوجه يعبّر عن تحول في السياسة الدفاعية الجزائرية من منطق “الاستجابة” إلى منطق “الاستباق”، ومن الدفاع عن الحدود إلى إدارة المجال الأمني المغاربي بشكل جماعي.

كما يعكس استعداد البلدين للتموقع كقوة توازن في فضاء يشهد تنافسًا محمومًا بين قوى أجنبية تسعى إلى إعادة توزيع النفوذ في الساحل والمتوسط.

يمكن القول إن اختيار هذا التوقيت يهدف إلى إرسال رسالة مزدوجة:

  • من جهة، تأكيد أن أمن شمال إفريقيا يصاغ داخل المنطقة لا من خارجها.
  • ومن جهة أخرى، تثبيت الجزائر كفاعل محوري يقود مسار بناء فضاء أمني مغاربي مستقل، قادر على مواجهة التهديدات العابرة للحدود بمعادلة ذاتية، تقوم على الثقة والتكامل لا على التبعية والارتهان

رابعا/ التحولات الجيوسياسية المحتملة

الاتفاق الدفاعي بين الجزائر وتونس لا يمثل خطوة تقنية فحسب، بل تحوّلًا جيوسياسيًا يعيد رسم معالم التوازن في شمال إفريقيا.

أولًا، تعزيز الدور المحوري للجزائر.

من خلال هذا الاتفاق، تثبّت الجزائر موقعها كقوة محور في الضفة الجنوبية للمتوسط، قادرة على إدارة تفاعلات الأمن الإقليمي بوسائلها الذاتية. هذا التموقع يمنحها قدرة أكبر على ضبط المجال المغاربي، ويفرض مقاربة أمنية نابعة من بيئته الجغرافية، بدل أن تُفرض عليه من الخارج. الجزائر لم تعد تكتفي بسياسة رد الفعل، بل تنتقل إلى مبادرة إنتاج الأمن.

ثانيًا، مظلة دعم سيادي لتونس.

تونس تستفيد من التعاون مع الجزائر دون المساس باستقلال قرارها الوطني. الاتفاق يمنحها دعمًا استخباراتيًا ولوجستيًا في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، في وقت تواجه فيه تحديات متصاعدة على حدودها مع ليبيا وفي الداخل. هذا الشكل من الدعم لا يُنشئ تبعية، بل يفعّل تكاملًا وظيفيًا يراعي خصوصية كل دولة.

ثالثًا، انفتاح على فضاء مغاربي جديد.

الاتفاق يمكن أن يكون نواة لتوسيع الشراكات الدفاعية نحو ليبيا وموريتانيا، ما يخلق إطارًا مغاربيًا للأمن الجماعي، مستقلًا عن التحالفات الأجنبية. مثل هذا المسار يعيد الاعتبار لمفهوم “الاستقلال الاستراتيجي الإقليمي”، ويحدّ من تشتت السياسات الأمنية بين العواصم المغاربية.

رابعًا، الحد من الاختراقات الخارجية.

في سياق تتزايد فيه التحركات العسكرية والاستخباراتية لقوى خارجية في المتوسط والساحل، يسهم الاتفاق في غلق الثغرات التي تُستغل لاختراق النسيج الأمني المغاربي. الجزائر تراهن على أن الأمن لا يُستورد، وأن استقراره يتطلب تماسكًا مؤسساتيًا إقليميًا.

بهذا، لا يقتصر أثر الاتفاق على البعد الثنائي، بل يشكل خطوة عملية في مشروع بناء “مجتمع أمني مغاربي” تقوده الجزائر برؤية مستقلة، تستند إلى منطق السيادة والتوازن.

خامسا/ الأبعاد المستقبلية

الاتفاق الدفاعي بين الجزائر وتونس لا يُقاس فقط بآثاره الفورية، بل بقدرته على خلق دينامية استراتيجية ممتدة. فهو يفتح أفقًا لتأسيس بنية تعاون أمني إقليمي مصغّر، ينطلق من الواقع لا من الشعارات، ويعتمد على مقاربة تدريجية مبنية على المصالح المشتركة.

أولًا، ترسيخ مبدأ الأمن الوقائي.

التحولات المتسارعة في الساحل والمتوسط تفرض الانتقال من إدارة الأزمات إلى استباقها. من خلال التنسيق الاستخباراتي والمناورات المشتركة، يمكن للبلدين بناء نظام إنذار مبكر، يتيح توقع التهديدات قبل تفاقمها. هذا التوجه يقلل من كلفة المواجهة، ويعزز الاستقرار الداخلي لكلا الطرفين.

ثانيًا، بناء القدرات المحلية

التعاون في مجال التكوين والتدريب يمكّن من تطوير كفاءات عسكرية واستخباراتية مشتركة. هذا الاستثمار في العنصر البشري يمثل حجر الأساس لأي سيادة دفاعية حقيقية. بتقاسم الخبرة والتجربة، تتحول المؤسستان العسكريتان إلى مدرسة مشتركة لإنتاج الأمن الذاتي.

ثالثًا، مقاربة شاملة لمكافحة التهديدات

الأمن لم يعد يقتصر على البعد العسكري. الاتفاق يسمح بدمج الملفات الاقتصادية والاجتماعية والرقمية ضمن رؤية أمنية واحدة. مكافحة الجريمة المنظمة أو الهجرة غير النظامية أو التهديدات السيبرانية تتطلب تنسيقًا متعدد المستويات، وهو ما يوفره هذا الإطار.

رابعًا، التكامل في التصنيع العسكري

إحدى أهم رهانات المستقبل تكمن في تطوير قدرات إنتاج وصيانة عتاد عسكري مشترك. الجزائر تمتلك قاعدة صناعية دفاعية صاعدة، وتونس تمتلك خبرة تقنية وهندسية يمكن توظيفها في مشروعات تكاملية. هذا المسار يخفف الاعتماد على الخارج، ويعزز استقلال القرار الدفاعي.

بذلك، يمكن اعتبار الاتفاق مقدمة عملية لتأسيس مجلس تعاون امني مغاربي مصغّر، يستند إلى منطق الأمن الذاتي، ويمنح المنطقة قدرة على صياغة حلولها بعيدًا عن الوصاية الدولية.

الاتفاق لا يهدف فقط إلى ضبط الحدود، بل إلى إعادة تعريف مفهوم الأمن في شمال إفريقيا كمنظومة متكاملة من الوقاية، والتكامل، والسيادة

خاتمة

الاتفاق الدفاعي بين الجزائر وتونس يشكل محطة مفصلية في إعادة هندسة البيئة الأمنية لشمال إفريقيا.

فهو لا يندرج في سياق ردّ فعل ظرفي، بل يعكس إرادة سياسية لبناء أمن إقليمي مستقل عن محاور النفوذ الخارجي.

يؤسس الاتفاق لمرحلة جديدة، قوامها التنسيق الاستباقي، وتبادل القدرات، وبناء الثقة بين مؤسسات القرار العسكري.

وهو بذلك يتجاوز منطق “ضبط الحدود” إلى منطق “صناعة الاستقرار”، عبر تحويل التعاون الأمني إلى أداة لبناء السيادة المشتركة.

في العمق، يعيد هذا التفاهم رسم خريطة التوازنات في الضفة الجنوبية للمتوسط، بتثبيت الجزائر كفاعل محوري يقود مقاربة الأمن الذاتي، وتونس كشريك مؤسسي في نموذج دفاعي ناشئ.

ومن شأن هذا النموذج أن يشكل نواة هندسية جديدة للأمن المغاربي، تستند إلى منطق الجوار، والتكامل، والمسؤولية المشتركة.

الرسالة الأبرز التي يبعثها الاتفاق هي أن استقرار المنطقة لا يُستورد، بل يُبنى من الداخل عبر التعاون، لا التبعية

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق