الإعتراف الفرنسي بفلسطين بين الرمزية والفاعلية

قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 31-07-2025
إعداد الدكتور عبد العليم محمد مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
فى عام 2014، صوتت الجمعية الوطنية الفرنسية “البرلمان” لصالح الاعتراف بدولة فلسطين فى عهد الرئيس السابق فرانسوا هولاند. وفى 24 يوليو عام 2025، أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عزم فرنسا على الاعتراف بالدولة الفلسطينية فى سبتمبر المقبل فى الجمعية العامة للأمم المتحدة.
كان من المفترض أن يتم هذا الاعتراف فى شهر يونيو الماضى أثناء عقد مؤتمر حل الدولتين بزعامة فرنسا والمملكة العربية السعودية، إلا أن عقد هذا المؤتمر تأجل إلى 28 يوليو الحالى، بعد قيام إسرائيل بشن عدوانها فى 13 يونيو الفائت على جمهورية إيران الإسلامية.
يعود القرار الفرنسى بالاعتراف بدولة فلسطينية فى سبتمبر المقبل إلى بعض العناصر والعوامل فى مقدمتها تصويت الكنيست مؤخراً بالموافقة بأغلبية كبيرة على ضم الضفة الغربية وكذلك البدء فى تنفيذ عدد كبير من الوحدات السكنية فى المستوطنات الجديدة المزمع إقامتها فى الضفة الغربية، وافتتاح مؤتمر حل الدولتين برعاية فرنسية سعودية فى 28 يوليو الجاري؛ لأن عقد هذا المؤتمر سيمنح هذا الإعلان قيمة مضافة قد تحفز العديد من الدول على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
هذه المتغيرات الراهنة وإن عجلت بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلا أنها قد لا تحجب تأثير المواقف الفرنسية الإيجابية إزاء القضية الفلسطينية والميراث الأخلاقى والسياسى الذى تشكل فى سياسة فرنسا الخارجية إزاء الصراع العربى الإسرائيلى، حيث أصبحت فرنسا بحكم هذا الميراث هى الدولة الأوروبية الوحيدة التى تحظى بـ”سياسة عربية” خاصة تجاه الصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية، ومن ثم فإن عزم فرنسا على الاعتراف يعيد بعث هذه السياسة وإحيائها فى الظروف الراهنة ويتوافق مع التقاليد الديجولية لاستقلالية فرنسا إن إزاء الصراع العربى الإسرائيلى والقضية الفلسطينية، أو إزاء المواقف الأمريكية والإسرائيلية، والتى استنكرت عزم فرنسا على اتخاذ وإعلان هذا القرار، ووصفه نتنياهو بأنه “يمثل مكافأة للإرهاب” ووصفه ترامب بأنه “عديم الأهمية ولا وزن له”.
التبرير الرسمى للقرار الفرنسى وتحسباً لموقف إسرائيل يضع هذا القرار فى إطار ديناميكية جماعية، تتيح اعتراف دول أخرى بإسرائيل، وأن اعتراف فرنسا سيتيح لها أن تكون واضحة فى هذه “المعركة” ضد من ينكر حق إسرائيل فى الوجود، وفضلاً عن ذلك فإن القرار يرتبط بمسار لإصلاح السلطة الفلسطينية ونزع سلاح حماس واستبعادها من أية صورة للمشاركة فى الحكم.
تنضم فرنسا بهذا القرار إلى قائمة الدول التى تعترف بدولة فلسطين كدولة ذات سيادة، والتى يفوق عددها المائة وأربعين دولة، إلا أن اعتراف فرنسا يكتسب أهمية خاصة لأنها أول دولة من الدول التى تشكل مجموعة السبع وهى الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وإيطاليا وكندا والمملكة المتحدة؛ كما أنها دولة ذات ثقل تاريخى وسياسى فى أوروبا منذ الثورة الفرنسية، وقد لعبت مع ألمانيا دوراً أساسياً وتكوينياً فى إنشاء الاتحاد الأوروبى منذ أن كان جماعة “الحديد والصلب” بعد الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الحين تعتبر فرنسا وألمانيا قاطرة الاتحاد الأوروبى وهذا الثقل المتنوع لفرنسا إن فى أوروبا أو فى مجموعة الدول السبع أو مجلس الأمن الدولى، يمنح اعتراف فرنسا قيمة متزايدة ومهمة حتى لو ظل فى حدود الرمزية والأخلاقية التى تدعم حق الشعب الفلسطينى فى الدولة وتقرير المصير.
وتمثل أهمية هذا الاعتراف مصدراً للقلق والتوتر لكل من إسرائيل والولايات المتحدة؛ لأن هذا الاعتراف من قبل فرنسا بدولة فلسطين قد يتضمن “effet d’entrainement” أى دافع ومحفز للعديد من الدول على الإقدام على مثل هذه الخطوة، أو تأثير “الدومينو” أى خلق بيئة محفزة على هذا الاعتراف وحاضنة له.
على الصعيد الداخلى الفرنسى، حظى القرار بمواقف متناقضة ومتفاوتة، حيث رحب به اليسار الحزب الاشتراكى وفرنسا الأبية وعارضه اليمين المتطرف، وتحفظ عليه بعض الرموز السياسية اليمينية من اليمين التقليدى والوسط، كما أن المجلس التمثيلى للجالية اليهودية الفرنسية قد وصف القرار بأنه “خطأ أخلاقى” و”خطأ دبلوماسى” و”خطر سياسى”، ومعروف أن فرنسا بها أكبر جالية يهودية يقدر عددها بـ 500 ألف يهودى ما يعادل أقل من 1% من السكان، كما أنها أى فرنسا بها جالية عربية وإسلامية كبيرة يقدر عددها بنحو 6 ملايين نسمة أو ما يعادل 6% من السكان، ومن المؤكد أن القرار الفرنسى يأخذ فى الاعتبار مواقف الجالية العربية المسلمة التى تؤيد القضية الفلسطينية، حيث أشار التقرير الفرنسى عن الإخوان الذى صدر فى مايو 2025 إلى ضرورة تبنى موقف مؤيد للقضية الفلسطينية ضمن التوصيات التى انتهى إليها كمبادرة إيجابية إزاء الجالية العربية.
الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة لن تلحق بفرنسا فى هذا الشأن، أى أنها ترجئ اعترافها بالدولة الفلسطينية حتى وقت لاحق، وعند توفير شروط إقامة هذه الدولة، وتمنح هذه الدول الأولوية لوقف المأساة فى غزة وإدخال المساعدات ووقف إطلاق النار والإبادة، وكان من اللافت فى هذا الشأن تصريحات رئيسة لجنة الشئون الخارجية فى البرلمان البريطانى إيميلى تورنبيرى، حيث حثت الغرب على التحرك سريعاً للاعتراف بفلسطين وإلا فلن تبقى فلسطين للاعتراف بها، وذلك فى إشارة إلى استمرار الإبادة وقرار الضم للضفة الغربية الصادر عن الكنيست وتسريع الاستيطان.
ولا شك أن قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل فرنسا يكتسب وزناً رمزياً وسياسياً مهماً وقد يدفع لحراك دبلوماسى، خاصة أن فرنسا تعد العضو الثانى عشر فى الاتحاد الأوروبى الذى يعترف بالدولة الفلسطينية.
علاقة فرنسا بإسرائيل ما تزال وثيقة، ففرنسا من أكثر الشركاء التجاريين لإسرائيل، كما أن فرنسا صاحبة فضل فى تسليح إسرائيل نووياً فى الوقت الذى كانت الولايات المتحدة الأمريكية فى عهد كينيدى ترفض حصول إسرائيل على السلاح النووى.
القيمة الرمزية للقرار الفرنسى قد تكون مهمة وذات تأثير، إذا لم يكن فى الإمكان القيام بإجراءات أخرى أو اتخاذ قرارات أخرى تعزز مسار الانتقال من الرمزية إلى الواقعية والميدان، إلا أنه فى الحالة الفرنسية لا يبدو الأمر على هذا النحو، حيث تراجعت فرنسا عن اللحاق بأسبانيا وإيرلندا فى مطالبتهما بمراجعة الشراكة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبى؛ نظراً لقيام إسرائيل بانتهاك حقوق الإنسان وإهدار مبادئ القانون الإنسانى الدولى فى غزة وفلسطين، يضاف إلى ذلك أن فرنسا متهمة بانتهاك نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية؛ حيث منحت نتنياهو حصانة ضد مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة، والأهم من ذلك أن فرنسا ما تزال مستمرة فى بيع الأسلحة لإسرائيل فى تناقض واضح مع التزامها الأخلاقى والسياسى بوقف الإبادة ورفع الحصار والسماح بإدخال الإغاثة والمساعدات إلى غزة.
وعلى ضوء ذلك، فثمة إمكانية وأفق سياسى وعملى لتطوير هذه الرمزية المتمثلة فى قرار الاعتراف، نحو مواقف عملية تعزز من فاعلية القرار وابتكار آليات للتنفيذ تضغط على إسرائيل وتلزمها بالتفاوض وقبول الحل الدولى مع الشعب الفلسطينى، وذلك يتطلب تجميد التبادل التجارى أو تقليصه مع إسرائيل، وحمل شركات السلاح الفرنسية على وقف العمل بالعقود الحالية مع إسرائيل ووقف التفاوض حول عقود جديدة، وينبغى أن يتذكر صانع القرار الفرنسى أن قرار حظر تصدير السلاح لمن يبدأ العدوان كان هو نقطة البدء فى صياغة العقيدة الديجولية إزاء الصراع العربى الإسرائيلى عندما لوح ديجول بهذا المبدأ فى وجه البادئ بالعدوان عام 1967.
ولا شك أن تزامن إعلان قرار الاعتراف مع القرارات والإجراءات السابقة، من شأنه أن يمنح هذا القرار فاعلية وتأثير ضروريين فى هذه الآونة لوقف التوسع الإسرائيلى ووقف مسلسل تصفية القضية الفلسطينية وتنفيذ الرؤية الخلاصية التوراتية التى تعد بمثابة مرجعية السلوك الإسرائيلى منذ السابع من أكتوبر وفى ظل التوافق الأمريكى الإسرائيلى ليس فحسب فيما يتعلق بضمان تفوق إسرائيل بل وضمان انتصارها فى كافة المعارك التى تشنها فى المنطقة والتوافق حول أهداف تغيير الشرق الأوسط بما يلائم مصالح إسرائيل الأمنية والاستراتيجية وفرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة وإعادة صياغة علاقة إسرائيل بالمنطقة على غرار علاقة المركز الاستعمارى بالمحيط أى علاقة تبعية.
ومع ذلك، فإن قرار الاعتراف الفرنسى بدولة فلسطينية حتى بافتراض صعوبة اتخاذ الإجراءات السابقة من وجهة النظر الفرنسية بطريقة تزامنية مع القرار، وبافتراض بقاء هذا القرار فى إطار الرمزية السياسية والأخلاقية، فإن ذلك لا ينفي التأثير المهم للقرار فى خلق ديناميكية جديدة فى الصراع العربى الإسرائيلى مثل حث العديد من الدول الأخرى والكبرى من مجموعة السبع أو غيرها على أن تحذو حذو فرنسا، والأهم من ذلك فك الارتباط بين الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبين المفاوضات بين فلسطين وإسرائيل، لأن هذا الارتباط يضع الأوراق كافة فى يد إسرائيل ويضع مصير هذه الدولة الفلسطينية بين تلافيف العقل الإسرائيلى بل وترك هذه المسألة أى الدولة الفلسطينية وهى مفتاح الحل فى الصراع رهن توازنات القوى الراهنة والتى هى لصالح الكيان الإسرائيلى، وبلا شك فإن ذلك يضعف حجة المرجئين للاعتراف والرابطين بينه وبين المفاوضات التى تتلاعب بها إسرائيل خاصة وأنها تتنكر لأى كيان فلسطينى أو حقوق فلسطينية تتجاوز الجيوب الصغيرة المحاطة بالسيادة الإسرائيلية.
يمثل ذلك أداة للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية – حليفها الرئيسى – لأنه يجعل من موضوع الدولة الفلسطينية مستقلاً عن رغبة إسرائيل بل وحق تعترف به كبريات الدول وصغارها والمجتمع الدولى عموما.
وبطبيعة الحال، لا يمكن إنكار الجهود الدبلوماسية المصرية خاصة منذ البداية فى رفض التهجير والمطالبة بحل الدولتين والتمسك بالقرارات الدولية، وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الاعتراف الفرنسى بالدولة الفلسطينية ولدت أثناء زيارة ماكرون الأخيرة لمصر، كما أن المملكة العربية السعودية لعبت دوراً هاماً فى هذا التحول المهم من خلال مبادرة حل الدولتين ورعايتها للمؤتمرات التى عقدت فى هذا الصدد وإشراك فرنسا فى رعاية المؤتمر المنعقد فى 28 و29 يوليو الجاري.