الإستعمار البريطاني وعلاقته بأزمة الحدود في نيجيريا
اعداد : صبرين العجرودي
تحررّت القارة الإفريقية من قيود الإستعمار ولم تتحرر من وحل الصراعات الداخلية، فقد شكلت هذه القارة السمراء منبعا لثروات لم تأخذ منها إلا نصيبا من الحروب والأزمات والإنقلابات المتتالية التي كلفت الشعوب الإفريقية تكاليف باهضة نالت من اقتصادها وثقافتها ومجتمعاتها و حتى بيئتها.
وفي خضم هذه الأزمات تواترت معاناة الإفريقيين ولم يتمتعوا بأبسط حقوقهم وهو ما نلاحظه حاليا من أزمات الجوع والفقر والتهميش والفساد وضحايا الحروب . لم تكن فترة ما بعد الإستعمار خالية من المجهودات في النهوض بدول ما بعد الإستعمار، فتكاتفت القوى لتحقيق التقدم الإقتصادي وبناء سياسات ناجحة، إلا أن سير الدول الإفريقية نحو نظام الحزب الواحد لتحقيق استقلالها وتكريس مبدأ الديمقراطية داخلها لم يكن إلا منطلقا لقيام الإنقلابات العسكرية و ولادة نزاعات جديدة مع استغلال المافيا و العصابات الاجرامية الارضية لبسط هيمنتها.
حول الصراع في إفريقيا
يُرجحُ أن التعدد العرقي و الإثني يلعب دوره الهام في عدم استقرار الأوضاع في القارة الإفريقية، وأن اعتماد سياسات موحدة بين هذه الأعراق هو في الحقيقة الإتجاه نحو خوض صراعات جديدة.
من جهة اخرى يرفض الكثير من الباحثين في شأن الواقع الإفريقي توجيه الإهتمامات نحو العوامل الداخلية لتحليل الوضع في إفريقيا دون الأخذ بالإعتبار للعوامل والأطراف الخاريجية، ويعتبرون أن الحال في إفريقيا لا يمكن أن يكون نتيحة لتعدد الأعراق والديانات فقط، نظرا أن القارة الإفريقية ليست الوحيدة التي تتعد فيها الأعراق والديانات ولذلك يجب توجيه النظر لعدة جوانب تتفاعل فيما بينها لتولد هذه الصراعات، ويجدر التعامل مع الأعراق في إفريقيا كونها واجهة تتخفى وراءها الكثير من المصالح سواءا من أطراف داخلية أو خاريجية وهي بمثابة ركيزة للسياسات الإقتصادية المعتمدة على الثروات الطبيعية، حيث تفضي هذه البرامج الإقتصادية المبنية على استغلال الموارد الطبيعية إلى نزاعات بين الشعوب والحكام الذين ينقسمون بين متواطئين ومناهضين للأطراف الخاريجية الساعية لمصالحها.
لذلك فقد يتجه الكثير من الباحثين نحو الخلفية التاريخية للبلدان الإفريقية لوضعها مع جوانب اخرى للتداخل فيما بينها لبناء الأزمة الحالية في إفريقيا. ويجدر الإشارة أن الاهتمام التاريخي بالقارة السمراء ـ لتحليل أوضاعها ـ ينضوي تحت مفهوم الحدود التي قام بتشيدها المستعمر لتحقيق مصالحه والمقصود هنا أن القارة الإفريقية بصورتها الحديثة ما هي إلا خريطة رسمها المستعمر خلال فترة الإستعمار.
وقد اختارنا في هذا النص الإشارة إلى الإستعمار البريطاني لدولة نيجيريا الواقعة غرب إفريقيا ولمحة صغيرة لبقية للمستعمرين وتقسيم الحدود الإفريقية فيما بينهم.
ويُشار إلى أن مفهوم الحدود السياسية حسب المحللين ليس هو نفسه الحدود الجغرافية الفاصلة بين الدول، إنما تحديدا تلك الإنقسامات السياسية والإجتماعية الناجمة عن الحدود السياسية.
الأسباب الإقتصادية للإستعمار البريطاني
تمكنت البرتغال من الولوج إلى إفريقيا بحيث أخذت من الساحل الإفريقي مجالا لأنشطتها التجارية وتاجرت بالأفارقة (تجارة الرقيق ) في النشاط الزراعي للأمريكيتين، وقد كان النجاح البرتغالي مطمعا للدول الأوروبية الأخرى كفرنسا وبريطانيا وألمانيا.
وفي وقت لاحق مثلت تجارة الرقيق في غرب إفريقيا في أوائل القرن السادس عشر عمودا هاما للنشاط الإقتصادي في الكثير من الدول وكان لبريطانيا النصيب الهام من هذه التجارة في مجالها الإقتصادي في ذلك الوقت، بحيث كان البحارة البريطانيين يقمون برحلات نحو شوطئ غرب إفريقيا لجلب الزنوج من هذه الدول، وكان القبطان الانجليزي جون هوكنز (John Hawkins) أحد المشتهرين بنشاط تجارة العبيد من غرب إفريقيا في ستينات القرن 16م حيث قضى سنوات طويلة في هذا النشاط وقام برحلات عديدة لجلب الرقيق من أجل العمل في جزر الهند الغربية.
حتى القرن الثامن عشر كان الإستغلال البريطاني لثروات دول غرب إفريقية قائما دون الحاجة لها بالدخول إلى القارة ولم يقتصر على الثروات الطبيعية فحسب بل تم استغلال الثروات البشرية لهذه الجهة من القارة لصالح الأعمال التجارية حيث امتلكت بريطانيا مجموعة اقتصادية تعمل بين غينيا وسيراليون ، لذلك لم ترا دافعا من التوغل مباشرة الى القارة ما دامت أنشطتها تسير وفقا لمصالحها.
كانت هذه الأوضاع مستقرة حتى حدوث الثورة الصناعية في بريطانيا، بحيث تغيرت الظروف الإقتصادية
والسياسية وأصبحت في حاجة للدخول مباشرة إلى القارة الإفريقية خاصة بعد فقدانها لأسواق أمريكا الشمالية
وضمانا لاستمرار مصالحها انطلقت بريطانيا في القرن التاسع عشر إلى التوسع في غرب إفريقيا وتحديدا غانا ونيجيريا وسيراليون وغامبيا، أين أنشئت إمبراطورية بحرية وتمكنت من بسط نفوذها ونيل النصيب الهام من ثروات هذه المستعمرات. وقد كان ذلك في إطار الصراع بين الأطراف الأوروبية حول الأراضي الإفريقية خصوصا بين بريطانيا وفرنسا. حيث شرع مؤتمر برلين هذا الصراع الأوروبي من خلال الدعوة لتحديد كل الأطراف مستعمراتها الإفريقية، أدى ذلك لإحتداد الصراع ونشوب الحرب الباردة أو باستعمال السلاح.
“لقد كانت دوافع الإستعمار البريطاني نابعة من صميم الواقع البريطاني، ولم تنفذ إلا بعد دراسة عميقة لمقتضيات المصالح البريطانية، فالتقدم الصناعي الذي حازته إنجلترا خلال الجزء الأول من القرن التاسع عشر هو الذي وجه أنظار البريطانين نحو الخارج ومن ثم أصبح التوسع ضرورة تحتمها الظروف “.[1]
الأسباب السياسية للاستعمار البريطاني
على رغم ما تمتلكه دول القارة الإفريقية من ثروات تشكل مطمعا بالنسبة للكثير من الدول الاخرى فإنها لم تكن إلا مثالا للدول الأكثر معاناة من التخلف الإقتصادي والحكم الديكتاتوري نتيجة ضعف سياساتها، وقد كانت بريطانيا آنذاك في أوج ازدهارها الحضاري والاقتصادي لذلك قدمت نفسها كمنقذ لهذه الشعوب من خلال توسعها التجاري في غرب افريقيا كما سعت للقضاء على تجارة الرقيق في إفريقيا.
ويجدر الذكر أن الإهتمام البريطاني لم يكن بذلك القدر الكبير بالقارة الإفريقية سوى لكونها طريق على الهند للأنشطة التجارية، لذلك لا تحبذ بريطانيا مزيدا من التوسع في إفريقيا تجنبا لمسؤوليات اخرى قد تقع على عاتقها نتيجة لذلك.
في وقت لاحق شهدت الرؤيا البريطانية لإفريقيا تحولا جذريا، كان ذلك نتيجة تغير المشرفين على السلطة حيث لم تكن سياسة العزلة لبريطانية حلا ناجعا لضمان مصلحة بريطانيا. وبمساندة بعض الأطراف في إفريقيا اتجهت بريطانيا نحو إنشاء إمبراطورية إفريقية للسيطرة على مستعمرات من إفريقيا وتم الاتفاق عام 1890 م بين فرنسا وانجلترا حول شمال نيجيريا.
سياسات الإستعمار و تقسيم الحدود الإفريقية
تراوحت السياسة الإستعمارية لبريطانيا بين منهجين، حيث انتهجت سياسة السلم في المناطق الشمالية من سيراليون وغانا وبعض بقاع اليوروبا في نيجيريا. وانتهجت سياسة القوة في مناطق اخرى خاصة في نيجيريا الشمالية.
اعتمدت بريطانيا أساليب مختلفة في محاولتها الزحف على مجمل مناطق نيجيريا، وكان للمبشرين[1] والقناصل وحكومة لاغوس[2] دور في نجاح الإستعمار البريطاني لمناطق اليوروبا [3] ، بحيث كانت لاغوس نقطة الإنطلاق نحو أغلب بلاد اليوروبا التي ترا أنها في حاجة إلى المعاهدات التي أبرمتها بريطانيا وأنها تقضي جزءا كبيرا من مصالحها خاصة وأنها في إطار السلم. وقد أتت الحاجة لبريطانيا في انتهاج سياسة الحرب عندما لقت المقاومة من منطقة ايجيبو [4] حيث شُنت معركة بين الطرفين كسبتها بريطانيا لتطور أسلحتها و لذلك لم تجد بعض المناطق الاخرى من اليوروبا ( أبيوكوتا، إيبادان [5]، إيكيتي، إيجيسا [6]، الأويو [7]) خيارا اخر غير الخضوع للاستعمار البريطاني في الفترة الممتدة بين 1893 و 1899 م.
واختلف زعماء منطقة الدلتا الخاصة بنهر النيجر في نيجيريا فيما بينهم حول مسألة الخضوع للاستعمار البريطاني، حيث تشبث بعض القادة في حقهم في ممارسة السيادة في مناطقهم وتنظيم أنشطتهم التجارية بأنفسهم دون تدخل من الأطراف الاخرى، وكان لهم الا أن واجهوا المبشرين والقناصل البريطانيين.
وكان الملك جاجا حاكم الأبوبو من أشهر القادة الذين وقفو في وجه الاستعمار البريطاني آنذاك وتشبث بموقفه مطالبا بدفع التجار البريطانيين الرسوم [8]إلى أن اتهم بالإخلال بمعاهدة بريطانيا وعرقلة نشاطهم التجاري وحوكم في أكرا (عاصمة غانا) و نُفي إلى جزر الهند الغربية عام 1887 ، وكان ذلك بعد ايهامه من طرف القنصل البريطاني جونستون أنهم سيقومون باجتماع ويغادر بعد انتهائه. وبعد هذه الأحداث لم يكن لدول الدلتا إلا قبول بريطانيا وانشئت اللجنة التي فرضها القنصل جونستون.
اعتمدت بريطانيا في غزوها لنيجريا الشمالية على الشركة الإفريقية الوطنية (Royal Niger Company )التي أسسها George Taubman[9] في عام 1879 وكانت أهداف هذه الشركة هو تعزيز السيطرة البريطانية على أقاليم النيجر. وفي عام 1886 صدر مرسوم ملكي ينص على صلوحية إدارتها لمنطقة حوض التشاد وبعض المناطق الاخرى الداخلية و الساحلية، كما قام Taubman بمزيد التوغل داخل نيجيريا من خلال إحداث عدة مراكز تجارية باتفاق مع الزعماء المحليين لنيجيريا الشمالية. وتغيرت تسمية الشركة من الشركة الإفريقية الوطنية إلى شركة النيجر الملكية ومثلت أسابا العاصمة الإدارية لمدينة دلتا مركز لعملياتها.
وخلافا للسياسة الديبلوماسية عموما التي اعتمدتها بريطانيا في غزو مستعمراتها فقد انتهجت فرنسا سياسة التويع العسكري مسيطرة بذلك على امبراطورية التكرور الإسلامية الواقعة في أعالي النيجر وإمبراطورية ساموري في وادي غينيا وانتهى الصراع حول النيجر بإمضاء اتفاقية عام 1898 حددت من خلالها بريطانيا وفرنسا مجال استعمارهما.
كما احتد الصراع بين ألمانيا وبريطانيا حول ممتلكات سلطنة الزنجبار الى حين القيام باتفاق عام 1886 م ينص على تقسيم المستعمرة بين بريطانيا وألمانيا واستمر ذلك حتى أمضيت اتفاقية هيلوجلاند عام 1890 حيث تمكنت بريطانيا من غزو داخلي امتد الى بحيرة نيانزا فيكتوري.
وأفضى هذا التقسيم إلى كل من محمية شرق إفريقيا الألمانية ومحمية شرق إفريقيا البريطانية دون مرعاة للانقسامات العرقية أو النزاعات في هذه المناطق.
وفي وقت لاحق احتلت فرنسا كل من تاجورة وجيبوتي، وسيطرت إيطاليا على ميناء مصوع، لتقوم بريطانيا فيما بعد باحتلال زيلع[10] و بربرة [11]عام 1884 م. وأضافت إيطاليا فيما بعد أرضا جديدا إلى مستعمراتها سميت بالصومال الإيطالية وذلك إثر توقيع اتفاقية مع بريطانيا شرعت هذا التقسيم الحدودي.
وانقسمت الصومال بذلك بين كل من بريطانيا وفرنست وإيطاليا لتصبح التسميات : الصومال البريطاني، الصومال الإيطالي، الصومال الفرنسي.
وبالتدقيق في التقسيم الإستعماري للقارة الإفريقية بين المستعمرين الأوروبيين فإنه يتبين هامشية التقسيم و وهمية الحدود التي وضعها السياسيون في خضم الصراع حول مناطق بسط النفوذ حيث تحد بين بعض دولها أنهار أو مراعي وقبائل هي في الحقيقة لا تعتبر فاصلا رسميا بين هذه المناطق حيث اعتبر زارتمان (William Zartmen) [12] أن المعضلة ليست في طبيعة الحدود وإنما التنوع العرقي واللغوي والثقافي فإن انعدام الحدود أو شبه تواجدها سيؤدي حتما إلى الصراعات التي تشهدها إفريقيا اليوم واختلال تماسك الدولة القومية .
لذلك فإن الإستعمار في إفريقيا تمكن من بناء أزمة أزلية لازالت تدفع ثمنها الشعوب السمراء إلى حد اليوم نتيجة للتقسيمات المتنافرة فكانت الإنقلابات العسكرية والتنظيمات الإرهابية والمافيا وضعف المنظومة الإقتصادية والسياسة والفقر المدقع هي مصير الدول الإفريقية.
المراجع
[1] المبشرون: الواجهة الدينية للمستعمر.
[2] أكبر مدن نيجيريا و غرب إفريقيا
[3] من أكبر المجموعات العرقية التي تتركز في نيجيريا و يبلغ عددهم 30 مليون تتوزع غالبيتها في بعض ولايات نيجيريا و تمثل 16 % من سكانها .
[4] إحدى المناطق الحكومية في جنوب غرب نيجيريا و تبعد 110 كم عن العاصمة لاغوس
[5] من ضمن بلدان شمال غرب يوروبا
[6] تقع في يوروبا الوسطى
[7] تقع في جنوب شرق يوروبا
[8] ضرائب تفرض على السلع التي تستوردها دولة من دولة اخرى
[9] اطلق عليه مؤسس نيجيريا نتيجة تأسيسه جزء هام من المستعمرات البريطانية في نيجيريا
[10] مدينة صومالية تقع في الشما ل الغربي على ساحل حليج عدن المقابل لدولة جيبوتي
[11] مدينة تقع شمال غرب الصومال
[12] عالم سياسة امريكي
[1] آدم عبد الله الإلوري ، الإسلام في نيجيريا و الشيخ عثمان بن فوديو الفلاني ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ، 2014 ، ص 23