أخبار العالمبحوث ودراسات

الأزمة في أوكرانيا وطواحن الحرب في ليبيا

اعداد : عادل الحبلاني قسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية

مراجعة وإشراف الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية

ليس العالم بمترامي الأطراف بل هو قرية صغيرة في ظل العولمة التي فتحت الأبواب والنوافذ وجعلت مما يحصل في المحيط له علاقة بما يحصل في الخليج وما يحصل في القطب الشمالي له علاقة بما يحصل في جنوبه، وجعلت التوترات والأزمات الحاصلة في اسيا وأوروبا وأمريكا لها علاقة بما يحصل في جنوب إفريقيا وشمالها، بحيث أصبح الحديث عن تشابكات وتقاطعات بين ما يحصل هنا وما يحصل هناك أمرا وجيها لا سيما في ظل تناحر و صراع اخذ صفة السرمدية بين الاتحاد السوفياتي سابقا ( روسيا اليوم) وبين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

 وفق هذا المنظور وفي إطار التشابكات والتعقيدات التي ألقت بظلالها على العلاقات والسياسات الخارجية بين الدول وانطلاقا من القول بأن كل ما يحصل سياسيا له خلفيات اقتصادية بالضرورة، سوف نحاول  فك شفرات العلاقة بين الحرب الدائرة في أوكرانيا والتوترات السياسية والعسكرية في ليبيا داخل إطار أوسع هو لعبة الأمم.

ماهي الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية  لكل من أوكرانيا وليبيا ؟

ولماذا يتركز صراع القوى الوازنة في العالم على هاتين الدولتين على وجه الخصوص ؟

كيف يكمن فهم الترابط والتشابك بين ما يحصل في أوكرانيا عسكريا وما يجري في ليبيا سياسيا  ؟

الأهمية الاستراتيجية لأوكرانية وليبيا

الجغرافيا والموارد الطاقية

دولة أوكرانيا

تقع أوكرانيا أو كما تسمى التخوم أو الحافة على تقاطع طرق بين دول أوروبية واسيوية كما أنها تعد ثاني أكبر دولة في أوروبا من حيث المساحة بعد روسيا، حيث  تبلغ مساحتها  603.700 الف كم2 وتنقسم إلى 24 إقليما فضلا عن جمهورية القرم الذاتية الحكم والتي تقع جنوب البلاد، ويبلغ طول حدودها البرية حوالي  4,663كم وتحدها الدول التالية: بيلا روسيا 891 كم، المجر 103 كم، ملدوفا 939 كم، بولندا 526 كم، رومانيا (جنوبا) 16كم، رومانيا غربا 362 كم، روسيا 1,576 كم، سلوفاكيا 97 كم.

جغرافيا ثرية وخصبة تحوي أكثر من 3 الاف بحيرة إلى جانب مجموعة كبيرة من الأنهار فضلا عن بحرين هما البحر الأسود وبحر ازوف ومناخ يغلب عليه طابع الاعتدال، بالإضافة إلى موارد طبيعية متعددة ومتنوعة  من خام الحديد، الفحم، المنجنيز، الغاز الطبيعي، النفط، الملح، الكبريت الجرافيت، التيتانيوم، الماغنسيوم، القولين، النيكل، الزئبق، الأخشاب، الأراضي الخصبة.

موارد طبيعية هامة وطاقية هائلة وموقع استراتيجي وأمني واستراتيجي على قدر كبير من الأهمية يقابله شح طاقي أوروبي من نفط وغاز على وجه الخصوص ومحاولات أمريكية المحافظة على هيمنتها على العالم من خلال سعي حثيث لتركيز قوات حلف شمال الأطلسي داخل الأراضي الأوكرانية لتثبيت موطئ قدم يسمح اقتصاديا بتوفير وتزويد أوروبا الحليف الاول لأمريكا بالطاقة الضرورية من غاز ونفط، ويسمح استراتيجيا بإبطال ورقة ضغط الطاقة الروسي على أوروبا ويسمح سياسيا بالسيطرة والهيمنة الأمريكية الغربية على المنطقة، سيما في ظل الادعاءات والاتهامات بالتوسع الروسي وإعادة إحياء أمجاد الاتحاد السوفياتي وحليفه الاستراتيجي التنين الروسي وشروع طريق الحرير الذي سوف يطلق رصاصة الرحمة على التجارة الغربية الأمريكية واحتكارها للأسواق العالمية.

مزاعم وادعاءات واتهامات أمريكية غربية قوبلت برد روسي هو الأقوى منذ الحرب العالمية الثانية، رد عسكري في عمق الأراضي الأوكرانية  يهدف إلى حماية الأمن القومي الروسي ومصالحه الاقتصادية والاستراتيجية ويثبت سياساتها المفتوحة والرامية إلى إنهاء الغطرسة والهيمنة الأحادية التي عاشها العالم لعقود طويلة، يقابله ذهول وحالة من الريبية والتلكؤ في المواقف الغربية وخاصة دول أوروبا التي تعيش انقسامات داخلية سيما بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي وتردي العلاقات بين فرنسا وإيطاليا.

إذ ليست التبعية الطاقية إلى روسيا وحدها هي التي تجعل من أوروبا ومن ورائها أمريكا عاجزة أمام روسيا الاتحادية بل إن تباين المواقف الاوروبية نفسه هو دليل أكبر على حجم الفرقة وعدم رضاء العديد من الدول على السياسات الأمريكية خاصة  فترة ولاية دونالد ترامب التي شهدت خلاف حاد بين ألمانيا وأمريكا، بالإضافة إلى تنامي اليمين الشعبوي في كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وهولندا والذي يهدد ويضرب في العمق مقولة التكتل والاتحاد الأوروبي.

فشلت سياسة الهيمنة والاستحواذ الأمريكي الغربي في تعويض الغاز والنفط الروسي بالغاز والنفط السوري و من وراءه القطري من خلال محاولات إنهاء حكم الأسد وتثبيت عملائهم الإخوان وفق مخطط يهدف إلى جعل أنقرة قنطرة عبور للطاقة ولعل أكبر دليل على ذلك عودة العلاقات السورية الإماراتية السعودية، وهي تفشل من جديد بكل المقاييس السياسية والعسكرية والاستراتيجية في أوكرانيا سيما بعد التصريحات المرتبكة للغرب وأمريكا بعدم الدخول في حرب مباشرة مع روسيا التي ذهبت إلى اشتراط بيع النفط والغاز بالروبل الروسي.

وبما أن الطاقة وخاصة الغاز أصبح على قدر كبير من الأهمية سيما وأنه طاقة صديقة للبيئة فإنه في الكثير من الأحيان ما يتحول إلى ذنب ونكبة للكثير من الشعوب التي تتوفر اراضيها على هذا المنتوج الحيوي ويحولها إلى حلبة صراع بين قوى دولية عظمى، فما شهدته سورية وما يحصل في أوكرانيا وما تعيشه ليبيا من انقسامات سياسية وحروب أهلية يؤكد بالضرورة على قدر كبير من التشابكات والترابطات والتعقيدات التي يعيشها العالم اليوم ويبرز أن ما يحصل هناك يلقي بظلاله على ما يدور هنا.

 الدولة الليبية

تقع ليبيا في شمال إفريقيا، يحدها من الشمال البحر الأبيض المتوسط ومصر من الشرق والسودان من الجنوب الشرقي والتشاد والنيجر من الجنوب وتونس والجزائر من الغرب وتبلغ مساحتها 1.8 مليون كلم مربع تتوفر على ثروات نفطية وغازية  تجعل منها التاسعة عالميا من حيث الاحتياطات النفطية.

وتكمن الأهمية الجغرافية لليبيا في موقعها الاستراتيجي المتواجد بين البحر المتوسط ومن خلفه أوروبا شمالا وبين الصحراء الكبرى ومن ورائها السودان الإفريقي وإفريقيا المدارية جنوبا، الأمر الذي جعلها خشبة قفز من القاعدة الأم، وموطئ قدم على اليابس الإفريقي، ورأس حربة داخل محيط الاستعمار القديم والجديد.

هذه العوامل وغيرها التي جعلت من ليبيا فائض قوة وموقع ديناميكي وحيوي لازال يسيل لعاب الغرب منذ الاستعمار إلى اليوم، ولكن هذه المرة في ظل تغير استراتيجيات القوى العالمية الكبرى، التي خرجت من منطق الاستعمار العسكري والحروب المباشرة إلى حروب بالوكالة، كان الإخوان المسلمين وحركاتهم الإرهابية الأداة التي من خلالها تسد القوى الاستعمارية ( أمريكا وأوروبا)  رمقها وتروي تعطشها للطاقة في ظل أزمات ديبلوماسية واقتصادية بينها وروسيا الاتحادية على خلفية الأزمة الأوكرانية الروسية.

أزمة تلقي بظلالها على الداخل الليبي سيما وبخاصة في ما يتعلق بالنفط والغاز الليبيين ولكن لسائل أن يسأل:

 ما العلاقة بين ما يحصل في أوكرانيا وما يدور في ليبيا   ؟

يبدو أنه وفي ظل الخسائر المتكررة التي لحقت حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا وتزامنا مع عودة الدب الروسي والتنين الصيني، الغريمين التقليديين للغرب، أصبح الحديث عن اشتداد الأزمات الديبلوماسية أمرا وجيها وأصبح الحديث عن استعراض للقوة العسكرية أمرا وجيها أكثر، وبات الحديث عن إمكانية نشوب حرب تدور طواحنها على أوسع نطاق أمرا حتميا، فما شهدناه في سورية من شبه احتراب بين القوى العظمي وإن كان فيه من الحذر ما يكفي لعدم المواجهة العسكرية المباشرة، أخذ صفة المباشرتية في أوكرانيا سيما بعد التصريحات الغربية بضرورة دعم أوكرانيا بالسلاح والعتاد والصواريخ المتطورة لمواجهة التدخل العسكري الروسي، وكشف بأكثر إسهاب ووضوح محاولات تعويض الغاز والنفط الروسي والقمح وكل الطاقات ذات القيمة التي تمثل عصب الاقتصاد العالمي بما تتوفر عليه أوكرانيا من طاقات هائلة وضخمة تؤمن لباريس بلد الأنوار ضيائها وألمانيا ريادتها في الصناعات الكبرى وروما وسويسرا وبلجيكيا وغيرها من الدول الأوروبية دفئها وتحافظ على أحادية الهيمنة الأمريكية على العالم التي تزعزعت أركانها في سوريا على وجه الخصوص بعد صمود بشار الأسد واستماتة روسيا الاتحادية في غلق كل منافذ غاز حوض المتوسط تقريبا.

فالأزمة الأوكرانية واصطفاف الغرب وأمريكا إلى جانب أوكرانيا لا يدخل في إطار المحافظة على السلم والأمن الدوليين ولا ينضوي تحت مظلة ميثاق الأمم المتحدة، بقدر ما هو محاولة تعويض لخسارات سابقة تهدف للاستحواذ على منابع الطاقة الأوكرانية وعسكرتها من خلال  إلى تركيز قواعد لحلف الناتو على الحدود الأوكرانية الروسية محاولات استفزازية تقابلها قوة عسكرية ونووية روسية جعلت من الغرب متلكئ ومقتضب ومتردد ومرتاب من أي محاولة للتدخل العسكري في الأزمة، مكتفيا بالإدانات والبيانات.

لكن يبدو أن كل صفات الحالة التي عليها الغرب وأمريكا اليوم، والتي كانت نتيجة للخسارات المتكررة التي لحقتهم، ليست إلا صفات ظرفية في ظل وجود متنفس طاقي يعقد الغرب أملا كبيرا عليه لاستمراره أنطولوجيا وتجنب الحرب مع روسيا وحلفائها، فما قد خسروه في سوريا ومن بعدها في أوكرانيا سيعوضه النفط والغاز الليبي بكل الوسائل الممكنة وإن كانت حربا بكل الأسلحة الممكنة سيما وأن روسيا وسعت من رقعة تدخلها وتمركزها في كل الدول ذات الموارد الطاقية الحيوية (نفط وغاز)، الأمر الذي قد يحول ليبيا وشمال المتوسط إلى مسرح للحرب بين الغرب وروسيا التي وإن لم تتمكن من غلق منافذ الطاقة على أوروبا سوف تسقط ورقة ضغطها متهاوية كأوراق الخريف.

فالتصريحات شديدة اللهجة بين كل الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي قد تكون الهدوء الذي يسبق العاصفة سيما في ظل الانقسام السياسي الليبي وعدم انكشاف الوجه الحقيقي لفتحي باش اغا الذي يراوح ديبلوماسيا بين الغرب وروسيا اللذان صعدا في لهجة الاتهامات حول عرقلة جهود التسوية السياسية في ليبيا والإشارة إلى قوات الفاغنر التي تتركز بخاصة في الشرق الليبي الذي يسيطر عليه حفتر رجل موسكو التي تسعى من جهة إلى تركيز اتفاقات وعقود طاقية مع الشركات الحكومية في ليبيا تعويضا على العقود التي خسرتها نتيجة لأحداث 2011 وخنق أوروبا وحليفها الأمريكي وإنهاء هيمنتهما على العالم من جهة أخرى.

إن السيطرة الروسية على أغلب منافذ الغاز والنفط في شرق المتوسط وتمكنها من السيطرة على مسالك الطاقة الأوكرانية وعدم قبولها بالدولار كعملة مقابل النفط والغاز واشتراطها الروبل كبديل للنفط والغاز الروسيين وتقويضها لقيمة الدولة وهيمنته على المبادلات الطاقية والتجارية الكبرى وتواجدها وتواجد قواتها العسكرية الخاصة والتقليدية في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط ورفض المملكة العربية السعودية الترفيع في قيمة الإنتاج النفطي يجعل من ليبيا الأمل الطاقي الأخير للغرب وأمريكا اللذان لن يتهاونا لبرهنة في الدفاع عنه وإن كان ذلك من خلال حرب عسكرية مباشرة مع روسيا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق