الأرض تختنق..عولمة موحشة ومتوحشة*
بيروت-لبنان-30-11-2022
إيمي سيزار، شاعر المارتينيك الشهير، قارن النازية بالاستعمار. والنازية، ابنة أوروبية بالتمام والكمال، فكراً وتطبيقاً. يقول سيزار: “جريمة هتلر أنه طبق الأساليب الاستعمارية على الانسان الأبيض. وهكذا اتُّهم فرانكو، لأنه طبق أساليب الاستعمار على شعبه.
هتلر، واحد من مئات القادة، الذين أبادوا شعوبا.. من يصدق أن الغرب الراهن، “المهفهف، الجميل، الأنيق، السيد، النموذج، مبدع شرعة حقوق الانسان، ومعمم موجبات الديمقراطية و.. و…”، من يصدق أن الاستعمار الغربي، مارس “النازية البدائية” فعلاً وقولاً، عبر جعل الكولونيالية، عقيدة البيض التي تقوم بواجب إنساني فظيع: “تهذيب البربرية” حيث تطال بنادقهم وأساطليهم؟!.. استعملوا كل ما هو رهيب ومخيف ومبيد، عاملوا العرب في الجزائر، بالبنادق والحرائق على مدى مئة عام ونيف، وكذلك ارتكبوا ما يشين ضد السود في إفريقيا، كل افريقيا، وظلت آثارهم المريعة إلى زمن تحولت فيه جنوب إفريقيا إلى دولة عنصرية.
في حوار أجرته كاتبة فرنسية، في خمسينيات القرن الماضي، مع خبير اقتصادي هندي، رسم صورة الواقع، ولم يلجأ إلى القيم والأفكار التي تدعي بريطانيا أنها أم الحريات، فيما هي إلهة الاستبداد والاستعباد والنهب. قال لها كيف تريدين ألا يعترض الهندي على الارتكاب البريطاني؟. “كيف ذلك و90 % من سكان بلاد خصبة جداً لا يأكلون إلى حد الشبع.. يومياتهم جوع متراكم، أليس هذا إدانة للنظام المفروض على الهند؟.. الهند تنتج 64% من الانتاج العالمي للأرز والفلاح الهندي يموت جوعاً… أليست هذه وضعية تثير ثورة؟”.
أما شهادة البير كامو، في ما يرتكبه الفرنسيون في الجزائر، فهي إدانة ضمير حي، لضمائر متخثرة. لا بد هنا، من حذف الشناعات التي ارتكبت بحق الجزائريين، إنها مفزعة ومرعبة وتثير في القارىء نزعة الانتقام. ماذا يُقال عن محاولة فرنسة الجزائر، واعتبارها أرضاً فرنسية؟ هذا يعني إحلال نخب وجاليات فرنسية تستوطن الأرض وتنعم بثرواتها، وإحالة شعب بكامله إلى مستوى الخدم، وإلى “حقل رماية” بالرصاص والسيوف. مليون شهيد جزائري؟ صح، وربما أكثر.. هذه محصلة لمحاولة قمع الثوار الجزائريين في الأربعينيات والخمسينيات، أما عدد الذين أبيدوا، فهو أكثر من 10 ملايين جزائري.. فرنسة الجزائر كانت تقتضي إبادة شعب.
أليس كذلك فعل الغرب في فلسطين؟.. إن جرائم الغرب مريعة جداً. لا تغرنا أناقتهم، لغتهم، فنونهم، أفكارهم، هذه عابرة للقارات، إذا توفرت الحرية والإنسانية، أما في ظل الطغيان والابادة، فلا أدب ولا فكر. هل عرف العالم، كتَابا غير مغضوب عليهم في ظل ستالين والقادة السوفيات؟ أبداً.. لعل الشاعر آفتوشنكو كان فلتة شعرية محبوبة من الجميع.
نعود إلى الغرب الحضاري المتمدن الذي عرف كيف يقود ثورة المعرفة، والذي قدم للعالم الغربي فقط، نموذج المواطنة والحرية والاستقلال. إن روسو وفولتير وفلاسفة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، صادرهم الغرب لنفسه، وارتكب أفعالاً ضد الحرية والانسان.
المثال الفادح، لاغتراب الغرب عن الحرية والعدالة وحقوق الشعوب، هو الدعم الثابت، سياسة وسلاحاً وتدميراً واقتلاعاً “لإسرائيل” التي حبلت بها الرأسمالية الجشعة في الغرب. “إسرائيل” مشروع غربي استعماري. تخلصوا من اليهود الذين كانوا يضطهدونهم، وقذفوهم بحراً، ودعموهم كي يكونوا قاعدة غربية استعمارية استيطانية في الشرق. وهكذا كان، وهكذا ظلت “الرسالة الصهيونية” الشريرة، محمية ومصانة ومتقدمة على كل الحركات في العالم. إن الحرب الروسية الأوكرانية، برغم شناعتها، لا توازي أبداً، عشر سنوات من الفوادح الاسرائيلية الغربية. الغرب مجرم، ولكنه يلبس ياقات منشاة، ويقول كلاماً مبطناً دائماً بالعقوبات.
فلسطين تُقتل، ثم تُقتل، ثم تُقتل، منذ مئة عام. الحاضنة العروبية قتلت، مع أنها كانت عنكبوتية. دمرت المنطقة بحروب مريعة، من دون سبب.. عدوان ثلاثي على مصر جمال عبد الناصر.. ممنوع أن لا تكون غربياً وتابعاً وقابلاً للإملاء ومنفذا للرغبات.. ثم عدوان 1967، وتهشيم دول، وطرد سكان وإبادة شعب. البلاد العربية نزفت كثيراً، ثم تعلمت سبل النجاة.. كي تنجو من الغضب الأمريكي الغربي، عليك أن “تطيع”، أي أن تستسلم.. ولبنان يعاقب، وسيعاقب، طالما أن هناك قوة صامدة تردع “إسرائيل”.. المقاومة في لبنان، ليست المسؤولة عن العقوبات الأمريكية والغربية. إن كل من لا يطبع، سيدفع الثمن، ومن يعش يرَ
باختصار، لم يكن الغرب رسول فكر ونهضة وحرية وقيم، كان رسول مال وعنف وإخضاع.. الحضارة الغربية نعمة نسبية للشعوب في تلك القارة، ولكنها كانت جيوشاً همجية، وعصابات مالية تنهب وتحتل وتصادر الحجر والشجر والبشر.. الاستعمار لم يكن لاكتشاف بلاد وقارات، بل كان جموحاً تجارياً ودفعاً باتجاه التملك والمصادرة.
كان ذلك منذ زمن يعود إلى مئة عام ونيف، ومن أراد الاطلاع على جرائم الغرب، ما عليه إلا اقتناء كتاب أصدره مارك فيرو بالفرنسية: “الكتاب الأسود للاستعمار”، شارك فيه واحد وعشرون كاتباً، وهو يسهب في سرد “مآثر” الاستعمار، من القرن السادس عشر حتى القرن الواحد والعشرين.
هل هي قصة مناخ يهترئ، أم هي مسيرة حتمية لإطلاق ومضاعفة مسيرة السيطرة على الاقتصاد العالمي وعلى الأسواق برمتها؟.. من يظن أن الحروب قامت من أجل نصرة مبادئ، ومذاهب، وأديان، وقوميات الخ… يخترع وهما يمنعه من النظر والرؤية والاعتبار.. الغرب، برمته، كائناً شرِهاً لا يشبع.. الغرب يؤمن بإله واحد أحد: الرأسمال. هذا الدين مغرٍ واجتياحي، وفي تعميم الرأسمالية عالميا، سوق تربح فيه القلة القابضة، وسوف تخسر الكثرة المنتجة. لعل ماركس هنا كان على حق.. قبله، المسيح حذر من عبادة ربين: الله والمال.. المال يهزم الأديان، لا بل يحتلها ويحول أتباعها إلى تجار دين، والراهن واضح والسيرة علنية، وعليه، فإن الأديان عندما خسرت روحانيتها، احتلت المادية مركز الصدارة. للمال وحي شديد الاقناع والاثارة والشهوات.. الرأسمالية غلبت الجميع، إنها الجحيم المشتهى من قبل الميسورين وبؤساء الحال.
من يلوث هذا العالم؟ من يدمر طبيعة مناخه؟ من يهدد الكرة الأرضية بالاختلال؟.. الخطب والمداخلات التي روجت للمأساة، حاولت أن تداوي الجراح البشرية بمراهم المال، والمال الذي سيصرف، على سخائه، سيعود إلى مصادره، فكل مشروع لتخفيف تلويث المناخ، يفترض أن تقوم به دول بمساعدة وإمرة الغرب، والولايات المتحدة أولاً.
سيدفع الفقراء ثمن التلوث والتلويث. ووباء التلوث قادم ومنتشر في العالم كله. الدول الفقيرة، لا تلوث بل تتلوث، والحضارة الصناعية والنفطية والـ… الراهنة، جشعة إلى حدود نكران الانسانية، وتهديد الحياة في الكرة الأرضية.
نحن ضحايا القوة العظمى الأمريكية والقوة الاغرائية الغربية والإسرائيلية، يضاف إليها القوة العظمى الرأسمالية.. من يظن أن الحروب ستتوقف، غبي ومسطول.. الحروب كنز لا يفنى. شهوة الرأسمال، زواجه مع العنف والحروب. وعليه ، فالعالم ماض من رعب مؤقت إلى رعب مستدام.
الوعد القادم علينا، نحن الشعوب المسحوقة، المزيد من الكوارث..
انتظروا، كي تعرفوا في ما بعد، من أين ستشرق الشمس.. طبيعي أن تكون من الشرق، ولكن الرأسمال يستطيع إنجاب الشمس من الغرب..
من يدري؟
*الكاتب والصحفي العربي اللبناني نصري الصايغ