استراتيجيات التأثير المعلوماتي: من حرب طروادة إلى الثورة الرقمية
اعداد رباب حدّادة : قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية
المراجعة: الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية
منذ العصور القديمة كانت المعلومة وتوظيفاتها عامل اساسي في رسم الخطط العسكرية والمناورات ورسم السياسيات سواء الداخلية أم الخارجية. اليوم زادت اهميتها واصبحت حياتية،واصبحت الاستراتيجيات ترسم خصيصا لتوظيف المعلومات.
“استراتيجية التأثير المعلوماتي”هي مجموعة التقنيات المعتمدة في توظيف المعلومة من اجل التأثير في فئة من الاشخاص واقناعهم بتوجه ما، وكثيرا ما يقع الخلط بين هذا المصطلح ومصطلح “الدبلوماسية العامة” التي هي مجموعة الوسائل الرسمية وغير الرسمية التي تتبعها دولة ما لنشر سياستها الخارجية وتصل حتى الى تبريرها.
استراتيجية التأثير المعلوماتي مستوحاة من “نظرية الحرب”بالأساس،في كتابه “ميثاق الحرب” يعتبر كارل فان كلاوزفتز ان هناك “عاملين متلازمين” لكي تخضع الدولة المحاربة عدوها:”أهمية الوسائل التي تمتلكها وقوة عزيمتها.”
عبر التاريخ كان امتلاك الاسلحة والمعدات اولوية الجيوش غير ان العمل على ضرب معنويات العدو وزعزعة عزيمته، عامل لا يقل أهمية. هنا يأتي دور استراتيجياتالتأثير المعلوماتي العسكرية،عبر نشر معلومات واخفاء اخرى بما يؤثر على قرارات الخصم ويدفعه الى ارتكاب اخطاء.
اليوم اصبحت القوى الكبرى لا تلجأ الى الحرب المباشرة بل الى حرب نفوذ غير مباشرة وفق ما يعرف بالقوة الناعمة، وفي هذا النوع من الحروب يعتبر التأثير المعلوماتي اخطر الاسلحة .
1/ التأثير المعلوماتي وتكتيكات الحروب التقليدية
التأثير المعلوماتي يهدف الى احداث تغيير في تفكير العدو، او المنافس بما يتماشى ومصلحة الطرف الذي يبث المعلومة بمختلف أنواعها، واللعب على العامل النفسي الفردي والجمعي، والتأثيرفي الحرب ليس مختلفا ويرتكز على اسلوبين الاول “الخدعة/ la ruse” والثاني “الخيبة/ “la déception
- الخدعة:هي مجموعة التقنيات والاساليب التي تؤدي الى الايقاع العدو في الخطأ وهي احد اهم عناصر فن الحرب الى جانب القوة، وفي اطار الخدعة تتمركز الاستراتيجيات الحديثة للتأثير المعلوماتي.
- الخيبة:هدفها اساسا اللعب على العامل النفسي للعدو وضرب عزيمته، وهي تتأسس بدورها على ثلاث تقنيات :”التخفي La dissimulation “، “المحاكاة/ simulationla”،”التسمم l’intoxication/”
- :هي تقنية الحرب الاقدم، وتتمثل في اخفاء العدو لوسائله وخططه من اجل المباغتة. وتعد خطة حصان طروادة أقدم عملية خيبة بالاعتماد على التخفي، حيث قام اليونان بسحب قواتهم التي تحاصر المدينة تاركين حصانا خشبيا يخفي جزءا من قواتهم وبذلك تم خلق فكرة خاطئة لدى العدو بانسحاب الجيوش وولد لديه وهما بالنصر.
- المحاكاة:على عكس التخفي يقوم هذا الاسلوب علىاظهار الخطة للعدو من اجل تشتيت انتباهه وايهامه بوضعية خاطئة ووهمية.من اشهر عمليات المحاكاة نجد ما يعرف بعملية Fortitude/ 1944 تمثلت في ايهام السلطات الالمانية بان قوات الحلفاء سيرسوان على سواحل “با دو كاليه” و ليس “نورميديا” وذلك من خلال ارسال جيش من السفن المزيفة قرب نقاط الارساء.
- التسمم : هي حالة تضخيم في المحاكاة من أجل خلق حالة من اللبس في ذهن العدو بحيث يصيبه الارباك ويصبح عاجزا على اتخاذ القرار الصائب.يبلغ العدو “حالة التسمم” من خلال بث كم هائل من المعلومات المغلوطة في وقت قصير، ما يؤدي مباشرة الى زعزعة تنظيمه وتشتيت قواته.وبذلك تصبح دور أجهزة الاستعلام والمخابرات مصيري للطرفين في الحرب. من أمثلة عمليات التسمم نذكر حرب الجزائر حين تم ايهام قائد “جبهة التحريرالوطني” العميد “عميروش ايت حمودة” ان صفوفه مخترقة بعدد كبيرمن الجواسيس ما دفعه للقيام بعمليات تصفية داخل صفوفه زعزعت هيكلة قواته واضعفت الولاية.كذلك من الامثلة الكلاسيكية والتي يتم اللجوء اليها كثيرا هي استعمال راية العدو في المعركة بحيث يعجز عن تمييز قواته من القوات المعادية وهذا الاسلوب يخالف قوانين الحرب ويعتبره قانون جنيف المنظم للنزاعات المسلحة جريمة حرب.
2/ الحروب النفسية:البروباغندا والضغط على العدو
استراتيجيات التأثير المعلوماتي ان وجدت تطبيقاتها الاولى في اساليب الحرب الا انها اليوم تعد اهم وسائل تنفيذ السياسات الخارجية للدول من خلال توظيف المعلومات بما يؤثر بشكل مباشر على معنويات المنافس في اطار ما يعرف ب”الحرب النفسية/ La guerre psychologique”
حسب “فرونسوا جيريه” : “القصد من استخدام الوسائل النفسية البحتة هو الحصول على تضخيم الإرادة التي يرغب المرء في الحصول عليها. ويشكل هذا النظام، فرديا وجماعيا، ساحة معركة ويصبح علم النفس سلاحا له مجموعة من الوسائل التي تدعمها جهات الاتصال كدعم تقني للرسائل التي يعتزم المرء توجيهها إلى الخصم. وتنتج هذه الوسائل، بسبب خصائصها، تأثيرات بث خاصة لها تأثير على كليهما،عن الرسالة واستقبالها.”
اختلفت تسميات الحرب النفسية في استراتيجيات الدول،فالانجلوسكسون يستعملون مصطلح “الحرب السياسية/politicalwarfare” وتستهدف هذه الاستراتيجية أعلى فئة في سلم الترتيب السياسي أي هدفها الحرب على القادة السياسيين للدول الخصوم.
أمّا الامريكيون فيستعملون مصطلح “العمليات السيكولوجية” ويشار اليها بعبارة ” psy-ops”. حسب تعريف ورد في كتاب عن حلف الناتو في سبتمبر 1997“العمليات السيكولوجية تعرف بكونها نشاطات سيكولوجية مخططة في زمن السلم أو ازمة أو الحرب، تستهدف الحشود العامة للخصوم أو الاصدقاء أو المحايديين من اجل التأثير في مواقفهم وسلوكهم بشكل يساهم في تنفيذ الاهداف السياسية والعسكرية”
في حين يفضل الالمان مصطلح “العمليات المعلوماتية “او “البروباغوندا” وحسب الباحث فرونك غولدشتاين” العمليات المعلوماتية هي “التأثير على سلوك فئة مستهدفة،محددة، باللجوء الى وسائل اتصال الحشود،بما يخدم اهدافنا.”
العمليات المعلوماتية أو البروباغوندا،هي اعادة انتاج واخراج لتقنيات التسمم لكن الطرف المستهدف فيها لا يكون فئة ضيقة، ولكن تستهدف الحشود من اجل تحقيق غايات سياسية لا عسكرية.كماتسير بالتوازي عادة مع “عملياتالتضليل la désinformation ” من اجل خلق واقع مغاير في ذهن الخصم المستهدف ومغالطته.فالولايات المتحدة الامريكية كنموذج تستعمل التأثير المعلوماتي من اجل القيام بحملات “شيطنة” للعدو سواء كان ذلك في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي أو اليوم في حربها على الصين الشعبية، وهي استراتيجيتها الكلاسيكية في التأثير على الرأي العام الدولي.
لم تكتف الولايات المتحدة الامريكية بتوظيف التأثير المعلوماتي في الترويج لسياستها الخارجية العامة أو تشويه الخصوم بل تستعمل كذلك التواصل المؤسساتي والعملياتي لجيوشها بحيث توظف المعلومات بشكل يشرع حروب امريكا ويخرجها في صورة منقذ العالم أو كما كانت تدعي بأنها شرطي العالم.
بدا اللجوء الى مثل هذا الاسلوب من التأثير المعلوماتي في 1980 بعد حرب الفيتام، غطت وسائل الاعلام الامريكية حرب الفيتنام بكل تفاصيلها، وتتوقع الحكومة درجة تأثير مشاهد الحرب والقتلى على موقف الداخل الامريكي الذي ندد بالحرب في الفيتنام، وكان مصدر ضغط هام على صناع القرار الامريكي في تلك الفترة خاصة بعد معارك Tet/1968 التي ذهب ضحيتها الالاف من الامريكيين والفيتناميين.
منذ ذلك الوقت وواشنطن تمهد لكل تدخلاتها العسكرية بحملات اعلامية تمهد لتدخلها في الدول ويشرعنها لتكون” حربا عادلة/ The justwar”
تبلورت هذه الاستراتيجية مع بداية تسعينات القرن الماضي ومن اهم العمليات الاتصالية الامريكية في تلك الفترة كانت في حرب الخليج 1991 حين وظفت امريكا مجموعة من الصحفيين في اطار ما عرف بنظام”pools “.
كما تلقى هؤلاء الصحفيين تكوينا خاصا من الجيش الامريكي وكانتمهمتهم الوحيدة القيام بحملات اعلامية وندوات ومؤتمرات وغزو العالم بصور ومعلومات تمجد الولايات المتحدة الامريكية وتهاجم خصومها في المقابل، وظهرت بذلك قنوات شهيرة مثل CNN.
سياسات التأثير المعلوماتي الامريكيتسقط على العالم نظاما من القواعد والقيم توجه بوصلة الرأي العام الدولي.وكانت في فترة التسعينات قد ارتكزت بالأساسعلى حقوق الانسان والمبادئ الديمقراطية وحقوق الشعوب لذلك عرف بالعصر الديمقراطي.
ولكن بعد 2001 تغيرت السياسة وأصبحت تعتمد على مكافحة الارهاب والتطرف وكان ذلك بطاقة تدخلها في كل من افغانستان والعراق مثلا، ويسبقها ترعيب للعالم بصور العمليات الارهابية ومقاتليها،والجرائم المرتكبة في حق الفئات الضعيفة كالشيوخ والاطفال والنساء، ما يزيد من تعاطف وخاصة تقبل لكل تدخل عسكري فهي ترمي الثعبان وتضخّم حجمه بوسائلها الاعلامية وبث الاشاعات، وبعدها تتدخل لمحاربته، هذه هي السياسة الجديدة الأمريكية .
تغير جديد وحاسم في استراتيجيات التأثير المعلوماتي يبدأ منذ2010 من خلال توظيف الفضاء الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت منصة مفتوحة لمخاطبة الحشود وتوجيه مواقفها، وسلوكها بشكل يمنح القوى الكبرى وسيلة جديدة للسيطرة والتحكم والرقابة في سلوك المجتمع الدولي.
العقد الاخير شهد تغيرا أخر،وهو التنافس العالمي على التأثير المعلوماتي الاستراتيجي حيث تقف الدول في منطقة رمادية، بين السلم والحرب ولكن تبقى المعلومات متوفرة ويمكن الحصول عليها لكن الصعب هو كيفية استعمالها وتحليلها واستغلالها.
اذ لم تعد الولايات المتحدة الامريكية الوحيدة التي تركز على استراتيجيات التأثير المعلوماتي كأولوية، ولكن كذلك روسيا، وخاصة الصينالتي دخلتفي سباق وتنافس مع واشنطن حيث تركز بالأساس على البروباغندا،وغزو العالم لإضعاف اشعاع الولايات المتحدة الامريكية كقوة وحيدة تترأس طاولة العالم كما قال جو بايدن.
3/ الفضاء الرقمي: التخفيض في استعمال السلاح والحرب بالمعلومات
يمثل الفضاء الافتراضي اليوم الفضاء المثالي لنشر المعلومة وتوظيفها في اطار عمليات التأثير،وحسب تيم ستيفن “الهجمات السيبرانية المستقبلية ستركز بدرجة أقل على قرصنة مولدات الطاقة لتركز اكثر على قرصنة العقول، من خلال جعل الفضاء الرقمي، مسرحا مناسبا للنقاشات السياسية”
فاذا كان الهدف من كل عمليات التأثير المعلوماتي وحمل الفئة المستهدفة على سلوك معين، ما كانت لتقوم به في الوضع العادي، فان الفضاء الافتراضي يقدم للدول امكانيات عديدة لتحقيق هذه الغاية بما يمكنه من قرصنة لمعلومات، تزييف حقائق،نشر شائعات ومغالطات وخاصة والاهم سرعة انتقال المعلومات وامتداد مجال انتشارها.
خطورة الفضاء الرقمي جعلت الدول تدمج وظائفها المؤسساتية في عمليات الرقمية، اذ نجد تركيزا خاصة للمؤسسات الامنية،العسكرية،الاستخباراتية،الاقتصادية على الفضاء الرقمي، وفي اغلب الاحيان من أجل التصدي للتأثيرالمعلوماتي على الداخل الوطني اكثر من تنظيم عمليات تأثير في حد ذاتها.النموذج الافضل هنا هو الصين التي تغلق على شعبها من خلال صناعة فضاء رقمي وطني باستعمال تطبيقات صينية بالأساس، من اجل الحفاظ على أيديولوجيا وطنية بعيدا على تأثير الدول الاجنبية.
نجد في العالم الافتراضي ظاهرتين على بساطتهما يمثلان خطر على الأمن القومي والوطني:
- الشخصنة المفرطة / L’hyperpersonnalisation :تتمثل هذه الظاهرة في ميل الافراد الى نشر معلوماتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، بشكل مفرط، ما يمكن من رسم تصور كامل على مختلف التوجهات الفكرية والايديولوجية للشعب، التوجهات السياسية لكل فئة،وغيرها من المعلومات التي تجعل الدول الخصوم ترسم استراتيجيات تأثير أكثر وقعا أي “على القياس” وتصبح الفئات الاجتماعية تستهدف بشكل أدق، وهذا ما يجعل الصين حذرة بدرجة قصوى اتجاه مواقع التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الذكية ليس تضييقا للحريات كما يروج له، وانما حماية لأيديولوجية وطنية من الغزو الخارجي.
- تغيير المحتوى/La modification de contenus: ذلك من خلال استعمال برامج تغيير المعلومات التي تتطور بشكل سريع كتغيير النصوص،تغيير الصور،تغيير الصوت…،كل هذه البرامج الرقمية لا تمكن من جمع المعلومات فقط، بل توظيفها في نشر المغالطات والاخبار الزائفة، فيما يشار له ب”FAKE NEWS”.تطور هذا المجال ايضا من خلال ادماج الذكاء الاصطناعي وتم ابتكار تقنية ” DEEPFAKE ” التي تمكن من تغيير محتوى مقاطع فيديو كتغيير خطاب رئيس دولة اثناء حديثه، وكان الرئيس الامريكي ايمانويل ماكرون من اكثر رؤساء الدول التي تم تغيير خطاباتهم بهذه التقنية من قبل أطراف سياسية يعتقد أنها من القوى المعارضة الفرنسية.
في صراع النفوذ بين القوى الكبرى يلجأ كل الأطراف اليوم الى أساليب القوة الناعمة، والتي أهمها في الفترة الحديثة استراتيجيات التأثير المعلوماتي، في تصدي لهذا السلاح الذي على قدمه ما فتئ يتطور، وانخرطت الحكومات في تطوير استراتيجيات دفاعية لمقاومة التأثير المعلوماتي، خاصة السيبرياني، من ذلك تزايد رصد موارد بشرية ولوجستية للمؤسسات المشرفة على التكنولوجيات الحديثة ووسائل الاتصال،سن قوانين تقاوم نشر وسائل الاعلام للشائعات والمغالطات بما يؤثر على الراي العام، دعم مراكز الفكر والدراسات من اجل نشر الوعي بكل ما يتعلق بتوظيف المعلومات ومدى تأثيرها.