اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة: معالم الطريق نحو التهدئة واستعادة الاستقرار “صورة من نسخة الوثيقة”
إعداد صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 16-01-2025
شهد قطاع غزة عدوانًا إسرائيليًا عنيفًا استمر 467 يومَا منذ 7 أكتوبر 2023أسفر عن دمار واسع النطاق وسقوط آلاف الضحايا، ما جعل الأوضاع الإنسانية في القطاع أكثر سوءًا من أي وقت مضى. هذا العدوان، الذي وصفته العديد من الجهات الحقوقية بالإبادة جماعية، أثار موجة من الإدانات الدولية والضغط المتزايد لوقف التصعيد، ما دفع الأطراف الدولية إلى التدخل من أجل التوصل إلى اتفاقية لوقف إطلاق النار.
تأتي الاتفاقية التي تم الإعلان عنها وسط ظروف إنسانية قاسية يواجهها سكان القطاع، إذ لا تقتصر على إنهاء العمليات العسكرية بل تحمل وعودًا بإجراءات تخفف من المعاناة اليومية وتساعد في إعادة إعمار ما دمرته الحرب. ومع ذلك، تبقى الأسئلة قائمة حول قدرة هذه الخطوة على تخفيف الآلام المتراكمة في غزة وضمان عدم تكرار المآسي التي أثقلت كاهل المدنيين لعقود طويلة.
مراحل الاتفاقية لإعادة الاستقرار والإعمار في غزة: من وقف التصعيد إلى الحلول طويلة الأمد
المرحلة الأولى: ضبط الأوضاع الميدانية وتبادل الأسرى
تشمل هذه المرحلة، التي تمتد لـ 42 ساعة، إنهاء التصعيد الميداني عبر انسحاب القوات العسكرية من المناطق المكتظة بالسكان وتوقف العمليات العسكرية بشكل كامل. وقد حددت الاتفاقية فتح معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم جزئيًا لتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية العاجلة، بما في ذلك 600 شاحنة يوميًا ومواد طبية ضرورية.
كما تنص على إطلاق سراح 33 محتجزًا من الإسرائيليين، مقابل أعداد من الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية وفقا لخاصية السن والأقدم اعتقالا، أحياء أو جثامين (الأطفال والنساء ثمّ كبار السن من المرضى والجرحى المدنيين…). هذه الخطوة تعد مؤشرًا لبناء الثقة بين الطرفين والتمهيد للخطوات القادمة خطوة مقابل خطوة باعتماد معيار الجدولة والالتزام ببنود هذه المرحلة، والتي على رأسها وأهمها إيقاف العمليات العسكرية بالنسبة للجانبين. مع التركيز فيما بعد على أنه لن يتم مجددا احتجاز الفلسطينيين المفرج عنهم لأي سبب من الأسباب التي احتجزوا من أجلها في البداية ولن يوقعوا بتاتا على أي وثيقة شرطية للإفراج عنهم.
المرحلة الثانية: تعزيز الاستقرار واستعادة الخدمات الأساسية
تمتد هذه المرحلة على مدى 42 يومًا وسيكون ذلك أقصاه في اليوم 16 عشر، حيث تتسارع الجهود الإنسانية والإغاثية لدعم سكان القطاع بتكاتف الأمم المتحدة مع المنظمات الإنسانية الأخرى. وذلك بتشكيل لجنة مشتركة للإشراف على إعادة الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء، بالإضافة إلى تسريع عمليات إزالة الأنقاض من المناطق المتضررة. في ذات السياق، تعمل الأطراف على وقف العقوبات الاقتصادية المفروضة على غزة مقابل الالتزام بضمان الأمن على الحدود.
المرحلة الثالثة: الانطلاق نحو الإعمار وتفعيل الحلول طويلة الأمد
في المرحلة الأخيرة، والتي تمتد من ثلاث سنوات إلى خمسة سنوات، تلتزم الدول الموقعة بالعمل على إعادة إعمار غزة بمشاركة دولية تشمل مصر وقطر، وذلك بعد تبادل جثامين ورفات الموتى بين الطرفين المتعرّف عليهم. يتمثل الهدف الرئيسي في تحسين الظروف المعيشية وضمان عدم تكرار الصراع. يُعاد فتح النقاش حول القضايا السياسية العالقة، بما في ذلك ملف الحصار وتبادل الأسرى الشامل.
رهانات الالتزام وأهمية دور أطراف الوساطة في ضمان التنفيذ
تُعتبر هذه الاتفاقية بمثابة خطوة هامة نحو إنهاء التصعيد المستمر في غزة، حيث أسست قاعدة لحل شامل ومتعدد الأبعاد للأزمة المستمرة. لكن على الرغم من التقدم الواضح الذي تحققه الاتفاقية في الحد من العمليات العسكرية وتقديم المساعدات الإنسانية، يبقى نجاحها مرهونًا بعدة عوامل رئيسية قد تؤثر على تنفيذ بنودها.
أولاً، تعتمد قدرة الأطراف المتصارعة على الالتزام التام ببنود الاتفاقية على رغبتها في تحقيق الاستقرار. بيد أن النزاع طويل الأمد قد أفرز توترات وصراعات متجددة، مما يجعل من الصعب تحقيق استمرارية للهدوء. على الرغم من هذه المخاوف، توفر الاتفاقية فرصة لبناء الثقة بين الأطراف المتنازعة من خلال تبادل الأسرى وفتح المعابر الإنسانية، وهو ما قد يسهم في تعزيز الالتزام المستقبلي.
ثانيًا، تبرز أهمية الجهات الراعية للاتفاق، مثل مصر والولايات المتحدة، في ضمان تنفيذ بنود الاتفاقية. الدور المصري يأتي في سياق دوره التقليدي كوسيط في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، حيث يمتلك نفوذًا على الأطراف المعنية. أما الولايات المتحدة، فيمكن أن تساهم من خلال الضغط السياسي والاقتصادي لضمان التزام الأطراف ببنود الاتفاق.
من جانب آخر، يشير الاتفاق إلى تحول في ديناميكيات الصراع، حيث أصبح الجانب الإنساني هو العامل الأساسي في معادلة الحلول المقترحة، مما يعكس تغيرًا في الأولويات. بينما كانت الأبعاد السياسية والعسكرية هي المحور الرئيسي في السنوات الماضية، أصبحت الحاجة إلى التخفيف من المعاناة الإنسانية ورفع الحصار على غزة في مقدمة المطالب. ومع ذلك، تظل الأسئلة قائمة حول مدى استدامة هذا التحول في ظل التاريخ الطويل من الانهيارات التي شهدتها التهدئات السابقة.
يمكن القول إن الاتفاقية تمثل فرصة جديدة للسلام والاستقرار في المنطقة، لكن ثباتها ونجاحها على المدى الطويل سيتطلب تضافر جهود المجتمع الدولي وضمان التنفيذ الفعلي لبنودها، بالإضافة إلى ضرورة معالجة الأسباب السياسية الكامنة وراء الصراع لضمان ألا تكون هذه التهدئة مجرد حل مؤقت.
تمثل اتفاقية وقف إطلاق النار بصيص أمل لسكان غزة الذين عانوا من سنوات من الصراع والحصار، لكنها تتطلب إرادة سياسية حقيقية وترتيبات واضحة لضمان التنفيذ الكامل. الأيام القادمة ستكشف ما إذا كانت هذه الخطوة بداية لاستقرار طويل الأمد أم مجرد هدنة مؤقتة تسبق جولة أخرى من التصعيد.