أي حسابات تقف وراء تجنّب واشنطن تصعيد الخلاف مع إيران في الملف النووي
إعداد صبرين العجرودي: قسم البحوث والدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
تونس 08-03-2024
ناهزت كمية اليورانيوم المخصّب لدى إيران مستويات غير مسبوقة من قبل، حيث وصلت إلى أكثر من 5500 كيلوجرام وفقا لما أشار إليه التقرير الأخير الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا توجد أي توقّعات بشأن اتخاذ أي تدابير أو إجراءات تصعيدية ضدّ إيران.
ويٌرجع المحلّلون هذا الحذر غير المسبوق الى الصراعات والنزاعات الدولية الكبيرة الداخلية والإقليمية والدولية التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي، والتي تمثّل بالنسبة لها مجموعة تحدّيات حقيقية لا يمكن بأي شكل من الأشكال تفجير أي جبهات أخرى من نوع آخر الى جانبها.
بالتالي فإنّ الإستراتيجية الحالية المعتمدة لا تعدو إلاّ “ضبط مستوى التصعيد المتبادل” و”الحفاظ على سقف محدد من الخطوات والخطوات المضادة”، ذلك لأن أي إستفزاز يمكن له أن يلعب دورا في تفاقم الأزمة ضدّها لصالح الطرف المتنازع معه، وهو ما يعني دخول واشنطن في حرب خاسرة تضرّ بمصالحها.
تجاوزات فادحة في الاتفاقيات الدولية
أشارت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تقرير لها يوم 27 فيفري الى أنّها قامت باكتشاف يورانيوم مخصّب في منشأة فوردو النووية بإيران بدرجة نقاء ناهزت 83.7 بالمائة تسمح لها بصناعة الأسلحة النووية، حيث أنّ النسبة اللازمة لإنتاج قنبلة نووية تتمثّل 90 بالمائة.
وجاء في التقرير أيضا أنّ المخزون ارتفع في 12 فبراير 2023 من 3.760،8 كيلوغرام الى 3.673،7 في شهر أكتوبر، وهو ما يعني تجاوز الاتفاق النووي لسنة 2015 بـ 18 مرة.
في الأثناء طالبت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من إيران توضيح مصدر هذه الجزئيات، بينما أشارت طهران الى انّ ذلك ليس إلاّ “تراكم غير مقصود” ناجم عن صعوبات تقنية في أجهزة الطرد المركزي المستعملة في عملية التخصيب، حيث ذكر التقرير:
“أبلغت إيران بأن التقلبات غير المقصودة في مستويات التخصيب ربما حدثت خلال الفترة الانتقالية وقت بدء عملية التخصيب لدرجة نقاء 60 بالمائة في نوفمبر 2022 أو في أثناء استبدال أسطوانة التغذية”.
وقد أكدت طهران في نصف فبراير “أنّها لم تجر أي محاولة تخصيب فوق 60 بالمائة”، في حين وضّح الناطق باسم منظّمة الطاقة الذرية الإيرانية بهروز كمالوندي أنّ وجود بعض ذرات اليورانيوم التي تفوق نسبة تخصيبها 60 بالمائة لا يعني أنّ كامل العملية تجاوزت هذه النسبة.
وقد أشار تقرير الوكالة الذرية الى أنّ نسبة 60 بالمائة من تخصيب اليورانيوم شمت رسميا موقع “نطنز” و”فوردو”، وفي ذلك انتهاك للاتفاق الدولي مع إيران.
ورغم أنّ هذه النسب عبّرت عن مخالفات إيران الواضحة وفقا لرؤية الوكالة الذرية إلاّ أنّها استمرت في زيادة مخزونها من اليورانيوم المخصّب منذ المحادثات حول إعادة احياء الاتفاق النووي لعام 2015 التي توقّفت في عام 2022.
وقد واصلت إيران منذ ذلك الوقت تخصيب اليورانيوم بالنسب المخالفة للاتفاقيات، لكنّها لم تتوقف عن نفي الاتهامات.
المصدر: مركز العالم العربي
حساب سياسية لا يمكن المخاطرة بها
ما يمكن الجزم به هو تشبّث إيران بالترفيع في مستويات تخصيب اليورانيوم دون تقديم أي إعتبار للإتفاقيات الدولية التي تراعا الولايات المتحدة الامريكية، وكانت آخر الأرقام تشير الى أنّها ناهزت 27 مرة الكميات المسموح لها بها ضمن الاتفاقيات التي توّصلت إليها مع مجموعة “1+5” في 14 يوليو 2015.
وبالرّغم من ذلك، كان الملفت للانتباه أنّه رغم اقتراب إيران من النسبة التي تسمح لها من صناعة قنبلة نووية وهي 90 بالمائة، إلاّ أنّ الكمية المخصًّبة تراجعت فجأة بما يقارب 6.8 كيلوغرام بحسب وكالة الذرية، رغم أنّه كان من الممكن لها بكل سهولة الوصول الى النسبة التي تجعلها في وضعية الأكثر قوّة من خلال كمية اليورانيوم المخصّب، لكنّ ذلك لا يعني سوى أنّ إيران قامت بهذه الخطوة تفاديا لأي تصعيد قد ينجم عنه مع الدول الغربية.
كما يمكن الجزم قطعا بأنّ نسبة تخصيب اليورانيوم تعدّ ورقة ضغط كبيرة على الولايات المتحدة الأمريكية لا يمكن لإيران المجازفة بها في الوقت الحالي، كما يمكن القول أنّ إيران تحتفظ بهذا الملف في الوقت الحالي الى ما بعد الحرب على غزّة والانتخابات الامريكية للقيام بجملة من الصفقات المتماشية مع المصالح الإيرانية، بالتالي فإنّ تفجير الملف النووي حاليا لا يعتبر خطوة ذات فاعلية كبيرة بالنسبة لأهداف إيران المستقبلية.
وبالتالي فإن الفكرة الأكثر انسجاما مع أهداف إيران تتمثل في حرصها على تخفيض كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، في المقابل المواصلة في عمليات التخصيب بنسب غير ثابته، ومن الجهة الأخرى على الولايات المتحدة الأمريكية الالتزام بعدم التصعيد في الملف النووي ضدّ إيران على الأقل في المرحلة الحالية، ذلك لأنّه يمكن للدول الأوروبية أن تقوم بتوجيه انتقادات ضد إيران بسبب استمرارها في انتهاك التزاماتها في الاتفاق النووي رداً على الانسحاب الأمريكي منه.
من جهتها، وكما ذكرنا سابقا تخوض الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي حربا شاملة ليست في صالحها على خلفية العدوان الصهيوني على قطاع غزّة، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي، ممّا أثّر على مصالحها وعلى مختلف الاعتبارات الأخرى، بالتالي فإنّ توسيع نطاق الصراع وفتح جبهة حرب جديدة تؤثر على القواعد الأمريكية الموجودة في العراق وسوريا أو المصالح الأخرى بعد جملة الهجمات الكبيرة التي نفذّتها إيران لا يعد في صالحها.
وبالتالي فإنّ أمريكا لا تبدو في الوقت الحالي مؤهلة للفوز ضمن أي جبهة تصعيد جديدة ومباشرة مع إيران، ذلك لأنّ أي خطوة أخرى نحو توسيع الحرب يمكن أن تؤدي إلى الإفساد على كامل حساباتها السابقة، ولن يكون من الصعب بأن تدفع إيران ميليشياتها إلى المواجهات العسكرية مع إسرائيل، والوصول الى القواعد الأمريكية في العراق وسوريا وتهديد حركة التجارة في البحر الأحمر.
والهدف الأهم بالنسبة لواشنطن حاليا هو ردع إيران عن مواصلة استراتيجياتها في تهديد مصالحها وقواعدها العسكرية، ذلك الى جانب ثنيها عن الاستمرار في استخدام الضغط لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو ما يمكن اعتباره أكثر أهمية من الانخراط في حرب متبادلة مع إيران حول الملف النووي، الذي لا يبدو ملفا حارقا في الوقت الحالي مقارنة بالملفات الحالية، ولكنه يبقى ملف ذا أولوية بالنسبة للجانب الإيراني والجانب الأمريكي.
من الجهة المقابلة، تتفادى الولايات المتحدة الأمريكية مزيد الضغط على إيران بسبب ما تتعرّض له الأخيرة من ضربات موجّهة ضدّ وكلاؤها في الشرق الأوسط، وهو ما يمكن له من وجهة النظر الأمريكية أن يزيد من “تعزيز لقبضة تيار المحافظين الأصوليين” وبالتالي يمكن أن يجعل هؤلاء يتبنون سياسة أكثر شدّة في التعامل مع الملفات الإقليمية أو الملف النووي بنحو لا يتوافق مع المصالح الأمريكية.
تبدو مختلف النقاط التي تمّ التوافق عليها سواء بشكلها المباشر أو غير المباشر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية غير ثابته ومتغيّرة بإستمرار بسبب ما قد تفرضه طبيعة التغيرات المستقبلية التي يمكن أن تطرأ على الملفات المفتوحة.
فتواصل الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ومختلف القضايا التي ترتبط بها جدير بقلب المشهد كليا، خاصة مع الضربة المفاجئة التي تعرضت لها القاعدة الأمريكية في شمال شرق الأردن في يناير الماضي، ممّا جعل واشنطن تتبع سياسية أكثر صعوبة في التعامل مع تهديدات طهران ووكلائها.
وهو ما ينطبق على الملف النووي الذي يمكن أن يطفو على السطح من جديد بمجرّد أي حدث أخرى غير متوقّع.