أخبار العالمبحوث ودراسات

أمريكا فوق الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية 

اعداد عادل الحبلاني : باحث بقسم البحوث والدراسات السياسية والعلاقات الدولية

مراجعة الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية

لم تكف الولايات المتحدة الأمريكية يوما عن خرق القوانين والمواثيق الدولية، ولن تكف أبدا على عرقلة الجهود الرامية إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين، هذه العقيدة المتغطرسة التي تحرك الحكومات الأمريكية المتعاقبة ما انفكت منذ توقيع ميثاق الأمم المتحدة تبحث عن سبل تطويع هذه المنظمة للصالح الأمريكي، فميثاق الأمم المتحدة الذي قام على أنقاض حربين عالميتين والساعي إلى ترسيخ حقوق الإنسان والعدالة والكرامة الإنسانية والهادف إلى تبيان الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي التي تراهن على الحرية كقيمة جوهرية للفرد وللدول دائما ما وجدت نفسها أمام السلوك الأمريكي المتعالي الذي تمظهر وبشكل خاص إبان مفاوضات تأسيس محكمة الجنايات الدولية، إما من خلال فرض قانون أساسي يخول لها السيطرة والتحكم في قرارات المحكمة، وإما من خلال عرقلة كل الجهود التي لا تصب في خانة مطامحها وتوجهاتها.

كيف سعت أمريكا إلى عرقلة كل الجهود والمساعي الدولية الرامية إلى تحقيق السلم والأمن الدوليين ؟

كيف كرست ثقافة الإفلات من العقاب من خلال انسحابها من عضوية محكمة الجنايات الدولية وتباعا من أغلب المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة ؟

ميثاق الأمم المتحدة (بين التطويع والانتهاك الأمريكي)

يبدو أن ميثاق الأمم المتحدة في كنهه تعبيرا عن تتويج الإنسانية وانتصار لصالح القيم الإنسانية المشتركة من مساواة وعدالة بين الأفراد وسلاما دائما بين الدول يقطع مع الحروب ويضع حدا للنزاعات المسلحة بما يحفظ التعايش وفق القيم الإنسانية المشتركة.

ويبدو أن الدباجة والفصول بموادها المتعددة التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة ترجمة عملية لتطور الوعي الدولي إن صح التعبير وقناعة رسختها تجارب الحروب وويلاتها التي عصفت بدول وقوضت سلم وأمن شعوبها، فتوقيع 193 (أغلب دول العالم ) دولة على هذا الميثاق يبدو هو أيضا مخاض ميلاد فعلي لعلاقات دولية مقننة تحكمها المساواة بين الشعوب والدول وفضاء قانوني يسمح بتحقيق التعاون الدولي على حل المسائل الدولية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية وعلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على عدم التمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.

لكن المتأمل في الشأن الدولي والمتابع للسياسات الأمريكية والعلاقات الدولية، سرعان ما سيفهم السعي الأمريكي الدؤوب إلى تقويض السلم والأمن الدوليين، وقد تأكد ذلك خاصة بعد الحرب الباردة، حيث استفردت أمريكا بالهيمنة والقوة على العالم وأخذت فيضرب المواثيق الدولية عرض الحائط،وعلى رأسهم ميثاق الأمم المتحدة وكل المنظمات التي تمخضت عنها، ففي سنة 1989 قامت حكومة جورش بوش الأب بخرق واضح للقانون الدولي بأن قامت بالتدخل العسكري في بنما بذريعة أن حكومة نورييغا هي حكومة غير ديمقراطية، وهي حكومة تجارة مخدرات وتبييض أموال وديكتاتوريتها خرقت اتفاقيات توريخوس-كارتر، وهددت حيادية قناة بنما التي نصت عليها بنود الإتفاق و أن الولايات المتحدة تمتلك حق التدخل العسكري لحماية القناة حسب بنود الاتفاقيات، وبنفس الذريعة وتحت نفس المسميات عللت أمريكا تدخلها في يوغسلافيا بتعلة الواجب الإنساني وعدم قدرة الأمم المتحدة على خمد الصراع بين الكروات والصرب مع المسلمين وكبح جماح الصراع من خلال قوات حفظ السلام وحدها بل لابد من تدخل حلف شمال الأطلسي بما هو القوة التي بإمكانها تثبيت قوات حفظ السلام ميدانيا وفظ كل أشكال النزاع المسلح، فدكت صواريخ الناتو وطائراتها يوغسلافيا دكا مخلفة ألاف القتلى من مدنيين وعسكر.

انتهاك ميثاق الأمم المتحدة له خلفيات سياسية واستراتيجية أمريكية تدخل في إطار جموح أمريكا للتوسع والهيمنة على العالم، وله خلفية ثقافية وعقائدية تعود إلى منطق التسامي والتعالي وتنضوي تحت شعار أمريكا أولا، فمن بنما إلى يوغسلافيا مرورا بكل من أفغانستان والعراق وصولا إلى أغلب الدول التي تعرضت للعدوان الأمريكي, يمكن معاينة إما التهميش والإقصاء الممنهج الذي مورس على الأمم المتحدة بصفة انتقائية وذرائعية  وإما تلكئ المنظمة نفسها وتحويلها إلى أداة لتبرير العنف الذي تمارسه أمريكا، وهو ما يتناقض نصا وروحا مع ميثاق الأمم المتحدة الذي نص على إلزامية المساواة في السيادة والمساواة أمام القانون الدولي، لكن هيهات فالمساواة في السيادة لا تعني بالضرورة المساواة في السياسة والقوة, فالتحالف الدولي الذي بنته أمريكا ضد ما أسمته (الإرهاب) مباشرة بعد أحداث 11 من سبتمبر يدخل في إطار الاستخدام و التوظيف لقرار المنظمة الدولية (لمحاربة الإرهاب) لشرعنة الاعتداء على أفغانستان على الرغم من توقيعها على ميثاق الأمم المتحدة وانضوائها تحت القانون الدولي, أما في العراق وعلى الرغم من رفض المجتمع الدولي التدخل العسكري الأمريكي بعد التأكد من عدم وجود البراهين والأدلة الكافية التي تدين نظام صدام حسين, وعدم سماحه لأمريكا باستصدار قرار يتيح لها إضفاء الشرعية الدوليةلشن الحرب ضد العراق فإنها لم تتخلف كعادتها على الانفراد بتحالف دولي لشن الحرب في ضرب من  التحدي والانتهاك السافر لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.

الانتهاك والتعدي على المنظمات الحقوقية والتنصل منها والخروج على مواثيقها وقوانينها عمليات يحترفها الكونغرس الأمريكي بتعلات وحجج ليس من الوجاهة بما كان, فأن تنظم أمريكا إلى منظمة ذات طابع دولي  ثم تخرج منها أمر يدعو إلى طرح العديد من التساؤلات والإحراجات التي من شأنها أن تكشف التعالي والغطرسة الأمريكية.

لماذا رفضت أمريكا قوانين محكمة الجنايات الدولية؟

كما عادتها وعادات سياساتها الخارجية والاستراتيجية لا تتردد أمريكا في خروجها عن المواثيق والاتفاقيات الدولية الساعية إلى تحقيق العدل والسلم الدوليين, فبعد توقيعها على معاهدة روما في سنة 2000 إبان ولاية بيل كلينتون إلا أنها سرعان ما سحبت توقيها مباشرة بعد تولي الرئيس جورج بوش الابن ولايته, معلنة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا نية لديها في أن تكون طرفا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية المصادق عليه في سنة 1998, بمعنى أن الولايات المتحدة غير ملزمة قانونيا بقوانين هذه المحكمة لا من بعيد ولا من قريب.

 ولئن كانت الحجج تدور حول مساس النظام الأساسي للمحكمة وتعارضه مع الأمن القومي الأمريكي والمصالح الوطنية والسيادية و يضرب مقولة الاستقلال الوطني الأمريكي , إلا أن هذه الادعاءات ليست إلا واجهة وغطاء تحاول أمريكا أن تغلف به ما اقترفته في أفغانستان والعراق دون ذكر ما فعلته في الفيتنام واليابان وذلك يعود لالتزام محكمة الجنايات الدولية بعدم البت أو التحقيق في الجرائم التي سبقت وجودها في عام  1998, فعدم خروجها من محكمة الجنايات الدولية يجعلها تحت طائلة قوانين المحكمة ويسمح بإدانتها جنائيا لما اقترفته من جرائم حرب, ولعل معارضتها لقانون المحكمة الذي يجرم عدوان الدول على غيرها أو اجتياحها وعدم قبولها بأن يفتح المدعي العام للمحكمة تحقيقات تلقائية في الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بتعلة أن الهدف من إنشاء المحكمة لم يكن استحداث نائب عام جوال للحقوق الإنسانية يتمتع بصلاحية إلقاء التهم الجنائية كيفما شاء, يكشف الحرص الأمريكي على التدخل في شؤون الدول وإقامة الحروب عليها واجتياحها دون متابعتها قانونيا ولا ملاحقة جنودها أمام المحاكم وإدانتها من قبل المنظمات الإنسانية والحقوقية, فهذا الرفض هو رفض  متعدد النوايا فهو في مجمله خشية من أن تشكل المحكمة خطرا أمام الاستراتيجيات الأمريكية وسعيها الدؤوب للتفرد بالهيمنة وهو في جزئياته رفض ترمي من ورائه أمريكا استثناء جنودها الذين اقترفوا جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية  في الكثير من الدول التي تعيش توترات ونزاعات وتعرضت لحروب وعدوان أمريكي, وهو أمر يتعارض في كنهه مع الدستور الأمريكي الذي يوفر حماية لمواطنيها ويحد من قدرتها على التدخل العسكري. ولعل هذه الغطرسة والعلوية الذهنية لأمريكا وتجاهلها للمواثيق والقوانين الدولية ترجمها ترامب خاصة عندما أصدر عفوا على جنود أمريكيين يتم التحقيق معهم بعد توجيه الاتهامات بارتكابهم جرائم حرب في كل من أفغانستان والعراق على الرغم من ثبوت الأدلة التي قدمتها المحكمة الدولية, هذه الذهنية والعقلية المعارضة لفكرة إنشاء محكمة الجنايات الدولية وقد ترجم ذلك عمليا في قانون حماية المواطنين الأمريكيين العاملين بالخدمة العسكرية والذي تم التوقيع عليه في الثاني من أوت 2002 والذي ينص في جوهره على تحريم التعاون والعمل بين الهيئات الأمريكية والمحكمة الجنائية الدولية, بهدف تحصين مواطنيها وجنودها ي الداخل والخارج الأمر الذي دفع واشنطن إلى إبرام اتفاقيات موسعة مع ما يقرب من 70  دولة بهدف عدم تسليم مواطنيها للمحكمة الجنائية الدولية وتحصينهم من كل العقوبات التي قد توجهها محكمة الجنايات الدولية ضدهم.

 

الخلاصة

إن ما تفعله أمريكا وما اقترفته من جرائم حرب في حق الشعوب وشنته من حروب على مرئ ومسمع المجتمع الدولي يجعل التساؤل عن مدى خروج الإنسانية من شرعية الغاب من عدمه حيث البقاء للأقوى تساؤلا وجيها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق