ألمانيا تدفع نحو تسريع “ثورتها العسكرية” لمجاراة التحولات الأمنية في أوروبا وحروب المستقبل

قسم الأخبار الدولية 02/06/2025
تحركت ألمانيا بوتيرة غير مسبوقة لإعادة بناء قوتها العسكرية التقليدية، في خطوة تعبّر عن تحول جذري في استراتيجيتها الدفاعية بعد عقود من الانكفاء، مدفوعة بتصاعد التهديدات الأمنية في القارة الأوروبية وتراجع الاعتماد الكامل على المظلة الأميركية.
من هواجس ما بعد الحرب إلى سباق التسلح الحديث
ارتبطت ألمانيا في الذاكرة الجيوسياسية الأوروبية كقوة توسعية مثيرة للقلق. فمنذ قيام الإمبراطورية الجرمانية وحتى الرايخ الثالث، ظلت تمثل مصدر تهديد دائم لجيرانها. غير أن الحرب العالمية الثانية وهزيمتها الساحقة حوّلتها إلى “قزم عسكري”، يتجنب أي انخراط هجومي، متمسكة بعقيدة دفاعية بحتة، وتابعة استراتيجياً لحلف شمال الأطلسي.
لكن الظروف تغيّرت. فالولايات المتحدة باتت أقل اهتماماً بالتزاماتها العسكرية في أوروبا، وروسيا استعادت طموحاتها التوسعية مجدداً، من أوكرانيا إلى حزام دول البلطيق. هذا التهديد المباشر دفع ألمانيا إلى التخلي عن ترددها الطويل والبدء في تنفيذ ما يُعرف بـ”الثورة في الشؤون العسكرية”، وهي إعادة بناء شاملة لقدراتها الدفاعية من حيث العتاد والتنظيم والعقيدة.
ميرتس يدفع باتجاه بناء “أقوى جيش تقليدي” في أوروبا
المستشار الألماني الجديد، فريدريش ميرتس، أعلن أن بلاده لن تكتفي بالاعتماد على “الناتو” أو المظلة النووية الأميركية، بل ستسعى إلى إنشاء جيش تقليدي يُعتدّ به، قد يكون الأقوى في أوروبا من حيث القوات والجاهزية.
ووافقت حكومته على رفع الإنفاق العسكري ليصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وقررت نشر لواء آلي دائم في ليتوانيا، على حدود بيلاروسيا، في خطوة ذات دلالة رمزية واستراتيجية كبيرة، نظراً لقربها من النفوذ العسكري الروسي. وتبلغ كلفة نشر هذا اللواء نحو 2.4 مليار دولار، دون احتساب نفقات التدريب والدعم اللوجستي.
تحديات إعادة البناء: نقص في الأفراد، فجوة في التكنولوجيا، وقصور في الصناعات
رغم الطموحات، تواجه برلين عدة معضلات تعرقل صعودها العسكري. عدد الجنود المتطوعين في تراجع، مع انسحاب ربع المجندين بعد 6 أشهر من الخدمة التجريبية. كما تعاني ألمانيا من فجوات كبيرة في التكنولوجيا الحديثة مثل المسيّرات، الحرب السيبرانية، الأقمار الصناعية، والذكاء الاصطناعي، مقارنة بالولايات المتحدة أو حتى بخصومها المحتملين.
ورغم أن صناعتها الدفاعية تُصنف ثالثة أوروبياً، خلف بريطانيا وفرنسا، فإن جيشها يصنف في المرتبة 14 عالمياً من حيث الكفاءة، والأضعف بين جيوش القوى الأوروبية الكبرى.
نحو عقيدة ردعية جديدة
وضعت الحكومة الألمانية هدفاً يتمثل في امتلاك “قوة تقليدية رادعة” قادرة على منع أي عدوان مستقبلي عبر الجهوزية والانتشار السريع، من دون اللجوء للسلاح النووي، رغم أن بعض الخبراء يرون أن ألمانيا تملك كافة المقومات التقنية للانضمام للنادي النووي.
ويحذر الخبراء من أن هذا التحول الاستراتيجي يجب أن يترافق مع وضوح في تحديد العدو، وتحديث في العقيدة العسكرية، وإعادة رسم للمهام الدفاعية، وهي كلها ملفات حساسة في بلد ما زالت ذاكرة تاريخه العسكري الحديث تؤرق سياسته الخارجية.
هل يتحول العملاق الاقتصادي إلى قوة عسكرية؟
بدا أن ألمانيا – التي توحدت سلمياً في 1990 رغم تحفظات غربية – لم تُشعل حرباً جديدة في أوروبا كما خشي البعض، بل إن منبع التهديد بات الآن من الشرق الروسي. ومع هذه التحولات، تجد برلين نفسها مضطرة للتخلي عن ماضيها المسالم وولوج طريق التسلح، في محاولة لتحقيق التوازن بين قوتها الاقتصادية الضخمة، ومكانتها العسكرية التي لا تزال متواضعة، لكن في طور التحول السريع.