آسياأخبار العالمبحوث ودراسات

العلاقات الأفغانية الباكستانية: قلب “اللعبة الكبرى” بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية

إعداد فاتن جباري: قسم العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية 20-03-2024

أفغانستان، دولة  تقع عند مفترق طرق آسيا الوسطى وجنوب آسيا وغربها والشرق الأوسط، وهي بلد حبيس غير ساحلي تحيط معظم أنحائه جبال وتلال وعرة.

وتشترك أفغانستان في حدود مع طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان في الشمال، ومقاطعة كسنجيانغ الصينية في الشمال الشرقي، وجمهورية إيران الإسلامية في الغرب.

أما باكستان فهي الدولة الساحلية الواقعة على طول بحر العرب وخليج عمان وتحدها الهند من الشرق وأفغانستان  إلى الغرب ثم إيران في الجنوب  والصين في أقصى الشمال. وإذ تتعانق أفغانستان وباكستان على حدود مشتركة طولها 2400 كيلومتر.

حيث تعد أفغانستان الجار الأكثر أهمية لباكستان نظرًا للتداخل العميق بين البلدين دينيا وثقافيا وعرقيًا ومذهبيًا وجغرافيًا وتاريخيًا ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً.

 فقد هيمن مبدأ “العمق الإستراتيجي” على العقلية الباكستانية إزاء أفغانستان في تسعينيات القرن الماضي حين كان الطموح لدى العسكريين الباكستانيين المدفوع بمشاركة المجاهدين الأفغان انتصارهم العسكري يكمن بتأمين أفغانستان الصديقة والموالية لهم لتكون في مواجهة العدوة “الهند” الى حين نيل الإستقلال التام.

إلا أن هذه الروابط التاريخية والعلاقات الاقتصادية الإقليمية ما فتئت تتشابك وتتعقد، فحل محلها الغموض والمخاطر الأمنية وإرهاب الحدود وانتشار الجماعات المسلحة المتعادية أوصلت البلدين الى فتنة كبرى وأزمة أمنية، دبلوماسية خانقة على إثر التدخل الأمريكي البريطاني وقضية رسم الحد الجغرافي المعروف “بلغم ديورند” لغم أشعل نار الفتنة بينهما.

تتالت الأزمات وتراجع الدور الباكستاني في أفغانستان بحلول النفوذ الهندي محله نتيجة وصول التحالف الشمالي إلى السلطة الأفغانية وهو المقرب أكثر من الهند وإيران، وعودة حركة طالبان الى رأس السلطة في باكستان حاملة عقيدة الجهاد ضد الأفغان بترسانة عسكرية هائلة غنمتها طالبان من القوات الحكومية الأفغانية استولت عليها بعد مغادرة كامل القوات الأمريكية لأفغانستان عام 2021 فيما يكمن التهديد الحقيقي في تفرت السلاح بين الجماعات المسلحة.

بعد عودة طالبان الى الحكم في باكستان، ازدادت حدة العمليات الإرهابية والتفجيرات على الحدود  الأفغانية وصلت حتى استهداف المدنيين فيما تتهم  “طالبان” ذاتها بشدة هذه الهجمات، واعتبرت هذا التصرف الأرعن انتهاكا واعتداء على سيادة أفغانستان تبادر أفغانستان بتوجيه التهم ذاتها الى باكستان.

لقد مرت العلاقات الأفغانية الباكستانية بخلفية تاريخية مهمة جدًا لوصول نقاط الاشتباك إلى حالتها الحالية فأفغانستان على مدى التاريخ كانت ترى نفسها ضامنة للوجود الإسلامي في جنوب ووسط آسيا لكونها ساعدت في نشره منذ عهد المغول، وبقيام دولة باكستان عام 1947 لم يعترف الأفغان بالدولة الوليدة في بادئ الأمر، لأنهم رأوا فيها منافسًا لهم على دورهم الإسلامي الصاعد في المنطقة.

“الباشتون”، يشكلون أكبر مجموعة عرقية من سكان أفغانستان وكانوا يعرفون بالأفغان قبل أن يعتمد اسم أفغانستان للدلالة على دولة أفغانستان الحالية في نهاية القرن التاسع عشر.

 تقيم بشكل أساسي في المنطقة الواقعة بين سلسلة جبال هندوكوش في شمال ش رق أفغانستان والقسم الشمالي لنهر إندوس في باكستان ويتميزون بالشجاعة والروح القتالية العالية ورفض تدخل الأخرين في شؤون حياتهم أو التحكم بهم.

هذه الرقعة الجغرافية الوسط ضلت محور صراع بين افغانستان وباكستان باعتبارها مناطق غير محسومة السيادة الباكستانية عليها من قبل الأفغان، فلم تسلّم أية حكومة أفغانية حتى الآن بملكية هذه المناطق وتبعيتها لباكستان، خصوصًا وأن الاتفاقية البريطانية مع أفغانستان بشأن الحدود الحالية التي ورثت باكستان بموجبها مناطق البشتون انتهى العمل بها قانونيًا عام 1993، ومنذ ذلك التاريخ وباكستان تفتقر إلى شرعية قانونية للسيطرة على هذه المناطق، وإن كانت تجادل أنها بحكم الواقع غدت أراضيها وأنها ورثتها من البريطانيين بحكم الترسيم البريطاني للحد العازل وهو ما يعرف بالمنطقة الحدودية  للترسيم البريطاني “لغمديورند”.

وكانت حكومة كارزاي التي تُوصف بأنها حكومة تطغى عليها الأقليات غير راغبة بطرح هذه المسألة خوفًا من أن تنعكس سلبًا على بعض مكونات الشعب الأفغاني على المدى الإستراتيجي والبعيد، فضَمّ هذه المناطق لأفغانستان الذي كان قد أخلّ بالعامل الديمغرافي لصالح الأغلبية البشتونية وضد الأقليات، ويذكر أن أبناء هذه المنطقة لم يتمتعوا بحقوق المواطنة حتى عام 2018 حيث يحي اللاجئون الأفغان أكثر من أربعين عاما على وجودهم في باكستان ولكن على المدى القريب والتكتيكي ربما تطمح  أفغانستان باستخدامها كورقة ضغط لتنتزع بعض التنازلات من باكستان.

 لقد أدى وصول طالبان الى الحكم الى محاولة ضم الباشتون من جديد الى باكستان مما أعاد الوتيرة التاريخية الى سياقها الحديث ربما الأعنف.

أن جوهر المشكلة في العلاقات بين الدولتين يكمن في أن جميع الحكومات الأفغانية بغض النظر عن انتماءاتها السياسية والفكرية ترفض الطلب الباكستاني بخصوص الاعتراف بخط ديورند كحدود دولية رسمية بين البلدين.

وآخر تصريح في هذا الصدد جاء على لسان وزير الحدود والقبائل في حكومة طالبان، حيث قال “لا توجد حدود رسمية لأفغانستان مع باكستان”.

وفي المقابل تعتبر باكستان قضية الحدود بين أفغانستان وباكستان منتهية وقد أكد ذلك رئيس الوزراء الباكستاني في مقابلة له مع الشبكة الإعلامية الأفغانية حيث قال إن “خط ديورند هو الحدود الرسمية الدولية بين باكستان وأفغانستان، قضية الحدود مع أفغانستان بالنسبة لنا وجميع دول العالم منتهية”.

وقد سبق ذلك ضم إسلام آباد للمناطق القبلية الحدودية المتآخمة مع أفغانستان إلى “إقليم خيبر بختونخوا” 2018، لينتهى تمتع هذه المناطق بنوع من الحرية وعدم الخضوع للقوانين وسلطة الشرطة والقضاء الباكستانية.

ويرى المراقبون أن إستراتيجية باكستان وسياساتها تجاه أفغانستان تتكون من مبدأين أساسيين وهما:

1 – رفض ادعاءات أفغانستان بخصوص الحدود، والإصرار على حصول اعتراف رسمي من كابل بأن خط ديورند هو الحدود الدولية بين الطرفين.

2- منع الهند من النفوذ والتغلغل في أفغانستان لأنها تشكل خطرا على أمن باكستان القومي.

وقد حاولت الهند خلال 20 سنة من الحرب الأميركية في أفغانستان أن تتوسع في بسط نفوذها في أفغانستان، ففتحت 4 قنصليات في مدن مختلفة من البلاد منها قندهار وجلال آباد القريبتين من الحدود الباكستانية.

وتتهم باكستان تلك القنصليات بالقيام بأعمال تجسس ضدها، خصوصا مع وجود أكثر من 4 آلاف عامل هندي في أفغانستان.

وبلغ حجم المساعدات والمشاريع الهندية في أفغانستان 2.1 مليار دولار أميركي، وجاءت الهند في المرتبة الخامسة بين الدول المانحة لأفغانستان.

لم يكن من المتوقع أن تقدم أفغانستان صورة ” الجوهرة الثمينة ” الواقعة في قلب أسيا الوسطى، وذلك بسبب حربها التي لا هوادة فيها ضد الولايات المتحدة على مدار 20 عامًا، ونمط حياتها المنعزل عن العالم قبل ذلك، إلا أن ما تزخر به من ثروات طبيعية جمة كالغاز والمياه والمعادن هو ما جعلها مركزا وقطبا يسترعي اهتمام الجميع وخاصة جيرانها.

وحيث تمتلك ثاني أكبر احتياطي عالمي من النحاس واحتياطيات ضخمة من البريليوم وخمسة مناجم ذهب كبرى، ناهيك عن مخزونها الوافر من الرخام والأحجار الكريمة والمعادن الأرضية النادرة.

حيث أعلن تقرير للحكومة الأفغانية أن الاكتشافات المعدنية بالعاصمة كابل بما في ذلك الوقود الأحفوري تصل قيمتها إلى 3 تريليونات دولار.


مما يجعل الكثير من الدول تتنافس على الثروات الأفغانية، حيث تتزاحم  الصين روسيا باكستان الهند  لبدء أعمال تجارية بأفغانستان تزامنا مع تولي طالبان السلطة مجددًا.

ناهيك عن موقعها الجغرافيا حيث ان أفغانستان المحاذية لباكستان عرفت منذ الأزل بالبوابة  البرية والبحرية للقارات الخمس بواجهتها المطلة على  ايران، الأناظول، الهند، روسيا، الخليج  وبحر العرب، والصين.


إن أفغانستان دولة حبيسة لا منفذ بحريًا لها، وتعتمد على باكستان من أجل نقل بضائعها من بحر العرب عبر الأراضي الباكستانية إلى أراضيها، وعلى الرغم من الاتفاقيات البينية والدولية التي نظمت وتنظم مثل هذه الوضعية إلا أن نقل البضائع الأفغانية من البحر عبر باكستان عادة ما يواجه بيروقراطية ومصاعب تصل إلى حد الأزمة بين البلدين فباكستان تتهم أفغانستان وتجارها وحكومتها باستيراد البضائع إلى أراضيهم ثم إعادتها إلى مناطق حرة في بيشاور فتُباع داخل باكستان وليس في أفغانستان وهو ما يسبب خسائر ضخمة للاقتصاد الباكستاني كونها بضائع أفغانية معفاة جمركيًا، وقد قدرت تقارير اقتصادية أن ثلث اقتصاد باكستان المخفي والخارج عن سلطة الدولة إنما يأتي عبر تجارة الترانزيت.


تشكّل أفغانستان بوابة الهند إلى آسيا الوسطى وكانت باكستان تأمل من خلال حكومة صديقة موالية لها أن تلعب دور البواب على البضائع المتجهة إلى أفغانستان وآسيا الوسطى وبالعكس، ولكن تدهور الحالة المستمر في أفغانستان حرمها هذه الميزة، وهو ما فسّر دعم باكستان لحركة طالبان الأفغانية على الرغم أن هذا الدعم بدأته حكومة “بينازير بوتو” المختلفة تمامًا معها في الأيديولوجيات، ولكن الطموح الاقتصادي الباكستاني في الوصول إلى آسيا الوسطى والتحكم بكل ما يخرج من آسيا الوسطى ويلج إليها غلب على الأيديولوجيا.

تحاول أفغانستان أن تصدّر منتجاتها الزراعية وغيرها إلى الهند عبر الأراضي الباكستانية وتحديدًا معبر “واغا” قرب لاهور، والحصول بالمقابل على بضائع هندية، غير أن باكستان تعترض على الشق الثاني كونه سيمنح تسهيلات للبضائع الهندية دون تقديم الأخيرة تنازلات اقتصادية وسياسية وغيرها لباكستان.

ويتطور القلق والخوف الباكستانيان من تنامي العلاقات الأفغانية-الهندية من الجانب الاقتصادي إلى الخوف من أن يتطور لحلف بين البلدين ليطوق باكستان، لاسيما مع وجود خمس قنصليات هندية في أفغانستان ومعظمها على الحدود مع باكستان وهو ما ترى فيه الأخيرة تجسسًا عليها وتدريبًا لعناصر بلوشية وبشتونية متمردة على الحكومة المركزية لباكستان من أجل إقلاق الأمن الباكستاني، وزرع خلايا تجسسية بمراكز التدريب التي أُنشئت أخيرًا في ولاية نورستان وغيرها؛ وهو ما قد يفضي إلى حلف هندي-أفغاني لمحاصرة باكستان

.لذا حرصت إسلام أباد تاريخيًا على تأمين الجبهة الغربية المواجهة لأفغانستان وذلك من أجل التفرغ لعدوها وخصمها الهندي، وإلا فسيكون من المستحيل عليها المرابطة في منطقتين حدوديتين طويلتين في مواجهة عدوين أو خصمين يربطهما حلف قوي.

أنها “لعبة كبرى” تدور بوسائل وأساليب مختلفة، تستخدم فيها في ان واحد الضغوطات والاغراءات الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية احيانا، ويتبادل فيها المشاركون الرئيسيان خصوصا، الزيارات الدبلوماسية، المناورات والمخططات، وهذا يعني ان المجابهة الحامية بين الولايات المتحدة وروسيا في “الخاصرة الآسيوية” على الحدود بين أفغانستان وباكستان – طالبان  البوابة الإستراتيجية لطريق التوابل والحرير والطريق الهندي البريطاني / الغربي حيث أن ما يجري هو في الواقع صراع على مجالات النفوذ في المساحة الجنوبية السوفياتية السابقة، وهو صراع سوف يتفاقم ويشتد وطيسه حتما كما هو حال البحر الاحمر بحيث يأخذ تدريجا طابعا اكثر حدة وحماوة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق