أربعة عقود ونصف من التطبيع المصري مع الكيان الصهيوني: من الاتفاقات الأولى إلى التحديات الراهنة
سارة الجمل قسم البحوث والعلاقات الدولية والشؤون الإستراتيجية 29/07/2024
المقدمة
يُعتبر التطبيع المصري مع الكيان الصهيوني من أظلم القرارات التي تم اتخاذها في تاريخ الشرق الأوسط، لاسيما أن مصر كانت من أوائل الدول العربية التي أقدمت على هذه الخطوة مع الاحتلال قبل أربعة عقود ونصف. يُنظر إلى هذا التطبيع باعتباره خيانة وتخلي واضح على القضية الفلسطينية، حيث ساهم في تعزيز مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط، وكان له تأثير مدمر على حقوق الفلسطينيين. رغم أن الغرب يعتبر هذا اتفاق خطوة استراتيجية، فقد واجه معارضة شديدة وانتقادات لاذعة من الشعب المصري والعالم العربي، الذي استمر في دعم المقاومة الفلسطينية.
قد وضع هذا الاستياء والرفض الحكومة المصرية تحت ضغط هائل من الرأي العام المحلي والدولي الداعم للمقاومة وحرية الشعب الفلسطيني خصوصا بعد عملية طوفان الأقصى.
حرب أكتوبر 1973 : النزاع الذي شكل المسار السياسي في الشرق الأوسط لمدة 50 عامًا
قبل واحد وخمسين عاماً، شنت مصر وسوريا هجوماً مشتركاً ضد القوات الإسرائيلية مما جعل حرب أكتوبر 1973، المعروفة أيضًا باسم حرب رمضان أو حرب يوم الغفران، تبرز كأول مرة تتحد فيها الجيوش العربية في هجوم مشترك ضد الاحتلال الصهيوني دون سابق إنذار. وقد منحت هذه الخطوة تفوقًا استراتيجيًا وعسكريًا غير مسبوق في دعم وتحرير الشعب الفلسطيني.
من بين أبرز الإنجازات التي حققتها القوات المصرية في هده حرب كان العبور الاستراتيجي لقناة السويس، والذي يُعرف بعملية العبور. هذا الهجوم، الذي وقع في الساعات الأولى من يوم السادس من أكتوبر، شكل لحظة فارقة في الحرب. بعد العبور، تمكنت القوات المصرية من إنشاء رأس جسر على الضفة الشرقية لقناة السويس، وهو ما ساعد في تأمين موطئ قدم لهم في الأراضي المحتلة.
في الوقت نفسه، حققت القوات السورية تقدمًا ملحوظًا، حيث تمكنت من السيطرة على عدة مواقع استراتيجية في مرتفعات الجولان، واستعادت بعض المناطق التي كانت تحت السيطرة الإسرائيلية. هذا التقدم شكل ضغوطًا كبيرا على الاحتلال، الذي واجه معارك عنيفة في المناطق التي تقدمت فيها القوات السورية. رغم المكاسب الأولية الكبيرة التي حققتها سوريا، فإن الهجمات المضادة كانت ناجحة و ساهمت في استعادة بعض الأراضي لصالح إسرائيل . كما لعبت منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) دورًا محوريًا في صراع 1973 من خلال فرض حظر نفطي على الدول التي تدعم إسرائيل، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية . هذا القرار الاستراتيجي كان له تأثيرا كبيرا على الاقتصاد العالمي.
تعرضت اسرائيل لخسائر فادحة في المعدات و القوات العسكرية خلال الأيام الأولى من القتال، مما أدى إلى نقص كبير في قدراتها الدفاعية. ردًا على هذا الوضع، أطلقت الولايات المتحدة عملية “نيكل غراس” لتوفير إمدادات عسكرية طارئة إلى إسرائيل هذا تمويل ساهم بشكل كبير في تجديد استراتيجية إسرائيل وتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية .
تأثرت عمليات العربية بشكل كبير بالتدخل السريع والدعم الكبير الذي قدمته الولايات المتحدة لإسرائيل. ورغم تحقيق الجيوش العربية لمكاسب في المرحلة الأولية من الحرب، إلا أن التدخل الأمريكي سرعان مما أدى إلى تباطؤ تقدمها .
هذا التحول العسكري أدى في النهاية إلى استعادة إسرائيل المناطق التي خسرتها في المرحلة الأولى من الحرب، مما عزز مكانتها وصعّب على الجيوش العربية تحقيق الانتصار النهائي.
استمرت حرب أكتوبر 1973 لمدة حوالي 20 يومًا، وانتهت باتفاق لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتنازعة. وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقات شكلت نهاية للنزاع العسكري المباشر، إلا أن تداعيات الحرب كانت لها تأثيرات بعيدة المدى على المنطقة، والتي كانت في النهاية تصب في صالح القوى الاستعمارية من خلال اتفاقية السلام والتطبيع المصري الذي سيزيد من معاناة الفلسطينيين ووحشية الكيان الصهيوني خلال العقود القادمة.
أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل: كامب ديفيد وتداعياتها
في 17 سبتمبر 1978، وفي إطار الوساطة الأمريكية، وقع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن اتفاقية كامب ديفيد. أدت هذه الخطوة إلى تسوية نزاع طويل الأمد بين مصر وإسرائيل وأسفرت عن انسحاب إسرائيل من سيناء، كانت هذه الاتفاقية خطوة غير مسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث مثلت أول حالة لدولة عربية توافق على اتفاقية سلام منفردة مع إسرائيل، متجاوزةً الجهود السابقة لتحقيق حل شامل يتضمن جميع الأطراف العربية والفلسطينية.
بالنظر إلى أهمية مصر في العالم العربي، وجه هذا التطبيع ضربة قوية المواقف التفاوضية للدول العربية الأخرى،و شعروا بخيبة أمل كبيرة وعدم رضا تجاه اتفاقية كامب ديفيد، فقد تم استبعادهم تمامًا من المفاوضات وخاصة الفلسطينيين.
إن الخطر الرئيسي في هذا الاتفاق، هو تهميش الفكرة السائدة بأن إسرائيل لا يمكنها تحقيق السلام مع جيرانها العرب إلا من خلال التعامل أولاً مع القضية الفلسطينية. اعتبر الفلسطينيون هذا الموقف خيانة لقضيتهم واعتداء على حقوقهم الوطنية، حيث لم تتضمن الاتفاقية أي التزام واضح بحقهم في تقرير المصير أو إنشاء دولة مستقلة .
كما تتضمن كامب ديفيد مفاوضات مباشرة بين مصر و احتلال لتحقيق الانسحاب الكامل من سيناء التي احتلتها إسرائيل خلال حرب 1967. ينص الاتفاق أيضًا على إقامة علاقات دبلوماسية بين مصر وإسرائيل. وتحقيق “السلام الدائم “في الشرق الأوسط.
دخل تطبيع العلاقات بين إسرائيل ومصر حيز التنفيذ في 1980. وتم تبادل السفراء وألغى مجلس الأمة المصري قوانين المقاطعة في الشهر نفسه، وبدأت بعض التجارة تتطور، تم تدشين رحلات جوية منتظمة بين طرفين. وبدأت مصر مباشرة في تزويد إسرائيل بالنفط الخام .
إثر توقيع اتفاقية كامب ديفيد، أصبحت الدولة المصرية واحدة من أكبر المستفيدين من المساعدات الخارجية الأمريكية. التزمت أمريكا بتقديم دعم اقتصادي وعسكري كبير ، والذي بلغ مليارات الدولارات سنوياً. كانت هذه المساعدات ضرورية لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد المصري ودعم مشاريع التنمية المختلفة. تضمنت المساعدات إعفاء مصر من الديون الخارجية ودعم الإصلاحات الاقتصادية، مما خفف من بعض الأعباء المالية التي واجهتها بعد حرب 1973 وما تلاها من تحديات اقتصادية.
سعت الولايات المتحدة أيضا إلى تشجيع مصر وإسرائيل على تعزيز التعاون بينهما بما يتجاوز العلاقات الدبلوماسية الرسمية. وقد تحقق ذلك من خلال اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (QIZ) عام 2004. تتيح هذه الاتفاقية للسلع المصرية المنتجة بمكونات إسرائيلية لا تقل نسبتها عن 10.5% دخول السوق الأمريكية معفاة من الرسوم الجمركية.
في سنة 2023، بلغ حجم الصادرات الإسرائيلية إلى مصر حوالي 126.8 مليون دولار، في حين بلغت قيمة صادرات مصر إلى إسرائيل حوالي 143.79 مليون دولار. شهدت العلاقات التجارية بين البلدين نمواً، لا سيما في قطاع الطاقة، مع زيادة ملحوظة في صادرات الغاز الطبيعي الإسرائيلي إلى مصر. وبحلول عام 2024، تضاعفت الصادرات المصرية إلى إسرائيل مقارنة بالعام السابق.. يسلط هذا التزايد الضوء على التوسع الكبير في العلاقات الاقتصادية بين الطرفين.
أثار الظلم و وحشية الاحتلال الإسرائيلي لا تمحى من ذاكرة الشعب المصري:
إن التضامن الشعبي المصري مع القضية الفلسطينية هو انعكاس لالتزامه عميق ومستمر متجاوزا كل السياسات الحكومية والعلاقات الدبلوماسية. هذا التضامن متجذر بعمق في الهوية الوطنية والثقافية للمصريين، مما يبرز التناقض الكبير بين المواقف الشعبية والسياسات الرسمية فيما يتعلق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. فتظل القضية الفلسطينية جزءًا لا يتجزأ من الوجدان المصري.لقد عبّر هذا الشعب باستمرار عن دعمه الثابت للنضال والمقاومة الفلسطينية، سواء من خلال المظاهرات العامة و التعبيرات الثقافية و المساعدات الإنساني.
إن الدعم الدائم لفلسطين بين المصريين والشعوب العربية الأخرى هو بمثابة تذكير قوي بأنه على الرغم من المحاولات الدبلوماسية لتطبيع، فإن القضايا الأساسية للعدالة وحقوق الإنسان تظل محورية في الهوية والوعي العربي. لا يزال النضال الفلسطيني من أجل الحرية وتقرير المصير يتردد صداه بعمق في قلوب وعقول الناس في جميع أنحاء المنطقة، مما يضمن بقاء القضية نابضة على الرغم من سياسات التطبيع التي تمارسها بعض الدول العربية على مر السنوات.
التحديات الاقتصادية والدبلوماسية لمصر في ظل الإبادة الفلسطينية والتصعيد في البحر الأحمر:
إن موضوع اللاجئين ليس التهديد الوحيد الذي يواجه القاهرة حالياً. تُعتبر المأساة و القصف المتواصل لرفح بمثابة الشرارة التي حاول الرئيس عبد الفتاح السيسي تجنبها لعقد من الزمن، نظراً لتفاقم التحديات السياسية والخارجية نتيجة التطورات الإقليمية بعد عملية طوفان الأقصى.
من التطورات الهامة التي فاقمت مشاكل الدولة المصرية هو التصعيد الأخير في البحر الأحمر، حيث بدأ الحوثيون في اليمن باستهداف سفن الشحن المرتبطة بإسرائيل كجزء من تضامنهم المعلن مع القضية الفلسطينية. أدت هذه الهجمات إلى تعطيل حركة الملاحة البحرية عبر قناة السويس، وهي شريان حيوي للتجارة العالمية ومصدر رئيسي لإيرادات الدولة مصرية.
كشف الرئيس السيسي أن عائدات القناة انخفضت بنسبة 40 إلى 50% منذ ديسمبر 2024، مقارنةً بالإيرادات القياسية البالغة 9.4 مليار دولار في السنة السابقة. يؤثر هذا الانخفاض بشكل كبير على الاقتصاد المصري الذي يعتمد بشكل كبير على القناة كمصدر رئيسي للعملة الأجنبية والاستقرار الاقتصادي والسياسي. بالإضافة إلى ذلك، فإن استمرار التوترات المتصاعدة في البحر الأحمر يشكل ضغطاً إضافياً على العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإسرائيل، مما يهدد التعاون الثنائي الهش ويزيد من تعقيد المشهد السياسي في المنطقة. ويتزامن ذلك مع استمرار معاناة الفلسطينيين نتيجة وحشية النظام الصهيوني مما يفاقم الأزمة الإنسانية ويعقد الجهود الدبلوماسية للتوصل لسلام بين الطرفين.
خلاصة :
كان هذا التطبيع خيانة للفلسطينيين وقضيتهم التحررية، حيث أدى إلى تهميشها وإضعاف الموقف العربي الموحد ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومع استمرار الدعم الأمريكي لمصر نتيجة لهذه الاتفاقية، ازدادت وحشية الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين يوماً بعد يوم، وسط صمت بعض الدول العربية الأخرى التي اتجهت نحو تطبيع علاقاتها مع الاحتلال.ورغم الأرباح الاقتصادية والسياسية التي جلبها السلام بين مصر وإسرائيل، إلا أنه قد لا يستمر.
ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة جماعية وتشريد وتهجير تسبب في استياء وغضب في أنحاء العالم. الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، والهجمات العسكرية المتكررة على المدنيين، والسياسات القمعية تساهم في تفاقم الأزمة الإنسانية. هذه الأوضاع المأساوية تؤجج مشاعر الغضب والاستنكار الدولي، مما يزيد الضغط على مصر لإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل، خاصة في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة والدعوات المتزايدة لدعم الحقوق الفلسطينية.