وكالات الإستخبارات والتجسس أمام فيروس كورونا
إعداد: الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
أصبح العالم اليوم يتحدث عن إرهاب من نوع جديد، إرهاب فيروس “ميكروسكوبي” لا تنفع معه وكالات الإستخبارات ولا التجسس ولا الإستباق لكشف خلية تعتزم القيام بعملية إرهابية، أو تفجير بحزام ناسف.. اليوم، ضباط الإستخبارات والأمن القومي في عجز تام والكرة الأرضية في شلل كبير.. ضباط الإستخبارات بدون تقارير استعلامية جالسين على طاولة صناع القرار والسياسيين، بدون خطة عمل و لا تقارير.. عاجزين أمام الوباء الذي حكم على الكل أن يختبئ ويبقى بمنزله يلفه الخوف.
فأين الأساطيل العسكرية للقوى العظمى؟
أين القوى النووية و أين هي أكبر وكالات الجوسسة والإستخبارات؟
في الماضي، ربما كان يحتوي التقرير على تفاصيل حول هجوم إرهابي مخطط له أو حول اختراقات لدول على الأخرى أو اكتشاف سرقات ملفات سياسية وأمنية وعسكرية.. كلها أعمال تقليدية من شأنها أن تؤدي إلى تطوير ممارسات جهاز الأمن القومي وتقوّيه وتعطى للدولة المناعة الأمنية الكاملة،وفي أغلب الأوقات تعيش الشعوب بدون الشعور بذلك، ولكن بفيروس”كورونا” تغيرت المفاهيم وتبدلت النظرة المستقبلية وخاصة لعمل وكالات الإستخبارات والجوسسة، ومن المؤكد أن تصبح التقارير تشمل”الحرب الفيروسية” و”إرهابا فيروسيا” أكثر فتكا و أشد شراسة من كل الأسلحة.. قد تكون التقارير حول أين تخفي الدولة المصنّعة للفيروس والمعلومات حول هذا الفيروس و دوائه ولقاحه؟
منذ أكثر من 20 سنة يهيمن الإرهاب والتطرف على الأمن القومي العالمي وكانت كل الدول والحكومات و السياسيين يتحدثون ويبحثون في مفهوم الأمن القومي وتطوير آليات واستراتجيات محاربة الإرهاب متعدد الجنسيات والعابر للقارات، وتطوير مفهوم”الأمن القومي”.. لكن لا أحد أولي اهتماما “بالأمن الصحي” .
أثار العديد من العلماء وخبراء الحروب المستحدثة إشكالية الأمن الصحي، وخاصة استعمال سلاح الفيروسات، وأول من نبه إلى ذلك هي روسيا التي اعتبرت أن الأمريكان هم أول من جربوا هذا السلاح الفتاك في العراق وسوريا، والتي اعتبرته من أخطر الأسلحة التي يجب الإنتباه لها.
وفعلا ها هو العالم اليوم يقف على كارثة إنسانية.. “توقفت الكرة الأرضية عن الدوران” ليطرح سؤالا جديدا حول مفهوم “الأمن القومي” وعمّا إذا كان ينبغي أن يكون الأمن الصحي العالمي جزءً أكثر مركزية في الأمن القومي ومحاربة الإرهاب.
على طاولة أصحاب القرار العالمي والسياسيين، تمّ تصنيف وباء كورونا بالجائحة وأنه خطر أمن قومي بدرجة 1، مما يعني أنه من الأولويات الكبرى والقصوى، ولكن يعجز العلم والمختبرات عن إيجاد علاج له، وتعجز أجهزة الدول والترسانات الأمنية والعسكرية الإستعلاماتية عن إيجاد الحل.. فالموارد المتوفرة لدى الدول القوية والعظمى تعالج التهديدات الثلاثة:الإرهاب والحرب والهجمات الإلكترونية وليست مهيأة لحرب الجيل السادس من الحروب :حرب الفيروسات.
فماذا عن الإستراتجيات الجديدة لوكالات الإستخبارات التي يضاف إليها عمل جديد هو المعلومات حول مخابر الفيروسات وكيفية تصنيعها وأين ستستعمل وكيف تعالج أو كيفية التصدي لها؟
بالنسبة لهذه الوكالات قد يستغرق الأمر وقتا طويلا للتكيف والتغيير وإدماج ماهو جديد داخل جهاز أمن الدولة، ليصبح أمرا مستجدا عند واضعي السياسات وصناع القرار وهو معرفة الحقيقة الأساسية بشأن الحالة الصحية في بلد آخر ومعرفة مدى تطور مختبراتها الصحية.. قد يعني ذلك أن يتم تجنيد الموارد البشرية والعملاء في المكان المناسب ليمكنهم الإبلاغ عما يحدث حقًا، لأنه علاوة على الفيروس، هناك كيفية التعاطي الإعلامي في الحرب الإعلامية على الفيروس.
ويمكن أن نتحدث اليوم عن وكالات الإستخبارات والجوسسة التقنية ما بعد فيروس كورونا، فقد تستخدم الأقمار الإصطناعية للجوسسة على المواقع الطبية والمختبرات الطبية أو حتى مواقع الدفن لأخذ العينات وقد يتم اختراع أجهزة جديدة لرصد مواقع التهديدات الصحية والبيولوجية و الفيروسات المصنّعة.
فمنذ أربع سنوات عملت وكالة الإبتكار الرقمي في الإستخبارات المركزية الأمريكية على دراسة بيانات على مستوى السكان في بلد بأكمله باستخدام الذكاء الإصطناعي وتقنيات مثل “تحليل المشاعر”،وقد يستعمل هذا في المستقبل كقاعدة بيانات في استخدام مجموعات البيانات الأكثر تعقيدًا والذكاء الإصطناعي لاكتشاف التطورات في السكان وفهمها والتنبؤ بها، وربما معالجة تطور الحروب الجديدة والحرب البيولوجية.
ويمكن أن تكون هذه الدراسات قادرة على اكتشاف الأحداث، مثل قرب انهيار في النظام العالمي واحتمال حدوث ثورة مزلزلة تقلب كل موازين العالم وتفكك دول وكيانات لتصعد بعدها دول أخرى ويتغير النظام العالمي.
ومن الواضح الآن أن هذه القوى العملاقة التي تتصارع: الولايات المتحدة والصين، في سباق محموم ومجنون نحو التفوق، وهو ما يخشى خسارته الكثيرون في واشنطن حيث استثمرت الصين بشكل كبير في بناء القدرات والحصول على البيانات وذلك بتفوقها في كل ما هو إلكتروني ومعلوماتي و ذكاء إصطناعي قد تستعمله في حربها، وفعلا بدأت ملامح الحرب الجديدة تظهر على السطح.
وبالنسبة للخبراء بشأن الأزمات العالمية اليوم، أصبح الطرح الإشكالي لديهم هو ما بعد أزمة فيروس كورونا:
هل يمكن أن تلعب دوراً في تصاعد القوميات بعد فشل الإتحادات والتحالفات بعد أن تبين أنها مفهوم فاشل أمام أول اختبار؟
أو العكس،يؤكد انتشار الفيروس الطبيعة العالمية المترابطة وهذا ما يدعو إلى مزيد من التعاون، بما في ذلك تبادل المعلومات عن أي أوبئة جديدة؟
وهل يكون هناك إغلاق للحدود وتوجه الدول إلى التقوقع داخل نفسها وإعادة تركيز الحاجة إلى جمع المعلومات الإستخبارية بشأن ما قد تفعله البلدان الأخرى وتخفيه أو الإختراقات الجديدة التي قد تكون حققتها؟
وما مدى استخدام البلدان التي لديها قدرة أكبر على المراقبة المحلية لاكتشاف انتشار أي فيروس، وكذلك فهم حركة المواطنين ومراقبتها لمنع المزيد من الإنتشار؟
إلى أي مدى يقوّض الفيروس قدرة الحكومات وجيوشها على العمل؟ ومن قد يستغل ذلك أيضاً؟
ربما في المستقبل قد يكون التركيز أقل على الأسلحة التقليدية ليصبح البحث والتركيز أكثر على اللقاحات، كما هناك المخاوف من إمكانية استخدام الإرهابيين أو الجماعات المتطرفة الأسلحة البيولوجية واستغلال الأحداث الأخيرة للتفكير في محاولة متعمدة لنشر الفيروس .
في الصين تم تستخدام الهاتف الذكي- بالإعتماد على برمجيات معينة – بهدف تتبع حركة المواطنين. وتستخدم روسيا كاميرات المراقبة ونظام التعرف على الوجه للبحث عن أشخاص يكسرون القيود. وأنشأت بلدان أخرى “سياجاً إلكترونياً” لإخبار الدولة عندما ينتقل المواطنون من مناطق الحجر الصحي.. لكن المدافعين عن الحريات المدنية قلقون من إمكانية إدخال أدوات مراقبة للمساعدة في السيطرة على الفيروس، ولكن بعد ذلك تبقى في مكانها أو يعاد استخدامها من قبل بلد ما للسيطرة السياسية.
سيحتاج خبراء الصحة إلى الجلوس إلى جانب الخبراء العسكريين لمعالجة وكتابة التقارير بناءً على ما يأتي وتقديمها إلى صناع القرار.
إذن.. اليوم كل أجهزة الإستخبارات العالمية القوية قد بدأت فعلا تتحرك وتبحث عن الحلول والتكيّف مع الوضع “الكوروني الجديد”..فمثلا جهاز الإستخبارات الخارجية الإسرائيلي “الموساد” نفذ عملية لجلب 100 ألف مجموعة اختبار من الخارج، بالرغم من أنها ربما كانت تفتقر إلى أجزاء حاسمة. ومنها بدأ جهاز الأمن الداخلي “الشين بيت” في استخدام بيانات الهاتف لتعقب الذين ربما يكونون على اتصال بالفيروس لتحذيرهم .
في الولايات المتحدة الأمريكية، قدمت أجهزة الإستخبارات سلسلة من التقارير السرية لصناع القرار في شهر يناير 2020 حول مخاطر فيروس كورونا استناداً إلى ما أمكن جمعه من الصين، ومع ذلك،تم الإبلاغ عن أن هذا الفيروس سيكون له تأثير ضعيف على البيت الأبيض.