هندسة الوعي أخطر اشكال الاستعمار

إعداد عمر حلمي الغول: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية 26-11-2025
بعد الحرب العالمية الثانية 1945، ومع تلاشي واضمحلال الاستعمار القديم، القائم على احتلال أراضي شعب آخر بالقوة المسلحة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، اتجهت دول الغرب الامبريالي لانتهاج شكل جديد من الاستعمار يعتمد السيطرة على وعي وثقافة الشعوب المستَعمرة، وهذا ما رصده الفيلسوف الجزائري “مالك بن نبي” بالقول إن “الاستعمار هو استعمار وعي الشعب الآخر”، ويضيف “وهي تعبر عن رؤية أعمق للاستعمار تتجاوز السيطرة العسكرية والاقتصادية المباشرة الى السيطرة الفكرية والثقافية.”
ويتابع ابن نبي أن الهدف الأساسي للاستعمار، هو تغيير عقلية الشعب المستعَمر وطريقة تفكيره، وذلك لجعله تابعا ومستسلما. من خلال فرض الثقافة واللغة والقيم الخاصة بالمستعمِر، يتم تقويض الهوية الأصلية للشعب المستعَمر، مما يسهل استمرارية الاستعمار وتبريره.
وكنت كتبت في مقال سابق بعنوان “امبريالية اللغة الإنكليزية”، أكدت على أهمية ومركزية لغة المستعَمر باعتبارها “بوابة مطلق ثقافة في ترسيخ مكانة استعمار أي دولة على دولة أو مجموعة دول أخرى، لأن السيطرة على الوعي الجمعي في أوساط شعب من الشعوب عبر اللغة وادواتها المعرفية والثقافية يعكس عمق هيمنة الدولة الاستعمارية على مستعَمريها، ويؤكد قدرتها على فرض أجندتها وأهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية في البلد المحدد” وبأقل التكاليف حيث تقوم ادواتها في أوساط الشعب المستعَمر بتعميم وترويج أهداف سادتها.
ورغم تسيد منهجية الاستعمار الجديد على دول العالم الثالث الضعيفة، والتي تعاني من مخلفات الاستعمار القديم، الا أن الغرب الامبريالي أعاد إنتاج نموذجه القديم بشكل أكثر وحشية وتغولا ليس من خلال الاحتلال العسكري المباشر فقط، انما عبر اختلاق رواية مزورة للمرتزقة الجدد تكرس أحقيتهم في وطن الشعب الاصلاني، وهو ما حصل مع الشعب العربي الفلسطيني، عندما جلبوا يهود الخزر “القبيلة الثالثة عشر” الصهاينة ووطنوهم في الأرض والوطن الفلسطيني، وعلى حساب الشعب الاصلاني صاحب الأرض والتاريخ والموروث الحضاري، وأقاموا لهم دولة إسرائيل في عام النكبة الأولى 1948، وذلك لحل مسألتين مركزيتين للغرب، أولا التخلص من المسألة اليهودية، التي شكلت أزمة حادة في تلك المجتمعات الغربية؛ ثانيا استعمال هذه المجموعة من المرتزقة اليهود الصهاينة كخندق أمامي لخدمة مصالحهم الحيوية والاستراتيجية في الوطن العربي عموما وفلسطين خصوصا، لنهب ثروات وخيرات العرب، والهيمنة عليهم بهدف الحؤول دون نهوضهم وتطورهم، بالإضافة لعامل ثالث ذات خلفية دينية مرتبطة بالحروب الصليبية التاريخية، لتحقيق أوهامهم المرتبطة بالاساطير والخزعبلات اللاهوتية وصولا لحرب “هار مجدو” ونزول المسيح، أو المشيح اليهودي، ونهاية التاريخ.
وخلال العقود الماضية من الصراع العربي الصهيوني، الذي حاول بعض دول الإقليم الى حصره في إطاره الضيق كصراع فلسطيني إسرائيلي، وهو ليس كذلك، ولن يكون يوما كذلك، وسيبقى الصراع عربيا إسرائيليا غربيا، وهذا ما تقوم الدولة الإسرائيلية على مدار تاريخ وجودها المحدود، ومن دقق في الإبادة الجماعية على مدار العامين الماضيين 2023 – 2025 يدرك جيدا، أن الصراع أعمق وأبعد وأوسع من حصره في نطاقه الضيق الفلسطيني الإسرائيلي، ولعل ما تقوم به الدولة الإسرائيلية اللقيطة والمارقة على لبنان وسوريا واليمن والعراق ومصر والأردن والسعودية يعكس هذه الحقيقة، وما أعلنه وأكده بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، من أن حدود دولة إسرائيل تمتد من النيل الى الفرات، التي تشمل حدودها الدول العربية الجغرافية المذكورة، فضلا عن أن هدف إسرائيل وسادتها في الغرب لا يقتصر عند الحدود الجغرافيةالسياسية المذكورة، بل تمتد لتشمل الوطن العربي من المحيط الى الخليج، ودول إقليمية أخرى منها ايران على سبيل المثال لا الحصر.
هذا الشكل الخليط من الاستعمارين القديم والجديد، استخدمهما الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لتنفيذ مآربه وأهدافه الاستراتيجية، فهو من جهة، فرض الهيمنة على الوطن العربي من خلال الشكل القديم بزرع إسرائيل في فلسطين مركز الوطن العربي، واستخدم العصا الإسرائيلية الغليظة من جانب، الى جانب أسلوبه الجديد من خلال فرض التبعية عبر تعميم وتعميق ثقافته وادواته الناعمة على الوطن العربي عموما، حتى باتت مفاهيم ومفردات الدول الغربية الامبريالية وأداتها الإسرائيلية هي اللغة السائدة في الخطاب العربي الرسمي، ليس هذا فحسب، بل ان المفاهيم الأممية التي شخصت طابع الدولة الإسرائيلية كدولة إبادة جماعية، ودولة فصل عنصري مختفية ومطموسة في الخطاب العربي الإعلامي والرسمي، مع ان لجان التحقيق الأممية التابعة لهيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنائية الدولية أكدته ودعمته بالوثائق والحقائق الداغمة ضد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الفلسطينية، وأمست غير مرئية في الخطاب الإعلامي العربي وبعض الفلسطيني، خشية من غضب الغرب وإسرائيل، مع أن العالم في غالبيته العظمى يؤكد ذلك، وهو ما يكشف عن مهزلة وبؤس حال الواقع العربي.
كل ذلك يعود لهندسة الغرب وإسرائيل للوعي العربي، وفرض الهيمنة الثقافية والمعرفية عليه، بالتكامل مع أداة القهر المتمثلة بدولة اسبارطة الإسرائيلية، واخشى ما أخشاه، ان يتم نتاج ذلك الالتفاف على دعوى جنوب افريقيا القضائية لمحكمة العدل الدولية باعتبار إسرائيل دولة إبادة جماعية، كما اسقط في مطلع التسعينات قرار الأمم المتحدة الذي اعتبر “الصهيونية حركة رجعية عنصرية”، الامر الذي يفرض على النخب الوطنية والقومية والديمقراطية التنبه لهكذا انحراف وتواطئ للالتفاف على المفاهيم الأممية الداعمة للحقوق والمصالح الوطنية الفلسطينية.



