نحو إعادة تشكيل المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية
إعداد الدكتور يوسف مكي: قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 18-11-2024
شهد القرن الماضي، ولادة نظامين دوليين:
الأول تأسس مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، ومثلته عصبة الأمم، والأخر أخذ مكانه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان من المفترض أن يعكس ذلك التأسيس حقائق القوة السائدة في حينه، لكن التمعن في حقائق القوة التي سادت آنذاك، يشير إلى أن تلك الحقائق لم تؤخذ بعين الاعتبار.
ورغم قناعتنا أن تلك الحقائق لم تعبر عنها نتائج القسمة التي سادت في الحرب العالمية الأولى، لكننا سنكتفي في هذا الحديث بالتركيز على النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، لأن تفاصيل الخلل الذي جرى في تأسيسه أكثر سطوعا مما كان عليه في الحرب الكونية الأولى.
لا يجادل أي كان في أن فرنسا خسرت في الحرب العالمية الثانية، وتم احتلالها من قبل الألمان، الذين شكلوا حكومة تابعة لهم، عرفت بحكومة فيشي. وقد دفع ذلك بالجنرال ديغول إلى شن مقاومة للاحتلال، تأسست في المستعمرات الفرنسية، ومن ضمنها سوريا ولبنان وتونس والجزائر.
أما بريطانيا، فإنها قاتلت بجسارة، بقيادة قائدها الشهير ونستون تشرشل، وأثناءها تعرضت مدنها وبلداتها وقراها، بما فيها العاصمة لندن، لقصف جوي يومي متواصل. وقد خرجت من تلك الحرب مثقلة بالديون، لصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
أسس الانتصار الأمريكي في تلك الحرب، لإزاحة الاستعمار التقليدي عن مستعمراته، والتماهي الأممي مع البيان الشهير لحقوق الإنسان، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي، ويدروا ويلسون قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، الذي أسس لمنطق الإزاحة، من خلال إشارة بيانه إلى أن الاستعمار عمل مقيت وغير أخلاقي.
كان البديل التي اخترعه، الرئيس ويلسون عن الاستعمار، ثلاث مفردات سياسية جديدة، دخلت التاريخ بعد نهاية الحرب الأولى، هي الحماية والوصاية والانتداب، وجميعها تشير إلى مرحلية الهيمنتين الفرنسية والبريطانية، على البلدان الخاضعة لهما، ريثما يكون اليانكي الأمريكي، مستعدا بالتمام، لقيادة العالم.
الخطأ التاريخي الذي وقع فيه هتلر، وأودى به، وألحق الهزيمة في جيشه هو تمدد غزوه، ليشمل الاتحاد السوفياتي، الذي هو أكبر في مساحته أضعاف المرات من حجم ألمانيا الهتلرية.
وكانت النتيجة تحول اتجاه الحرب، منذ منتصف عام 1943، لصالح الحلفاء، حيث تمكن زعيم الاتحاد السوفييتي، جوزيف ستالين، من اجبار القوات الألمانية على التراجع.
ولم يكتف ستالين بتحرير الأراضي السوفييتية، بل تقدم للأمام، كاسحا بجشيه الأراضي التي تعترض طريقه، وجيشه يتجه بقوة وشجاعة لألحاق الهزيمة بالألمان، مؤسسا ما عرف لاحقا بالكتلة الاشتراكية، التي ضمت جل أراضي أوروبا الشرقية. ولم تتوقف جيوشه إلا في برلين، حيث التقي جيشه بالجيش الأمريكي، ولتشكل المدينة، فاصلا جغرافيا حادا، بين الكتلتين الرأسمالية والاشتراكية.
تعيدنا هذه القراءة، إلى العنوان الذي تصدر هذا الحديث، والذي يدعو إلى إعادة تشكيل المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية.
كيف يكون مقبولا أن تحظى دول تم احتلالها من قبل الألمان، كفرنسا، بحق النقض في مجلس الأمن؟
أو بريطانيا التي لم يكن لها أن تواجه الغزو الألماني لولا دعم الحلفاء لها، وتنال مثل هذا الحق، بينما يحجب عن ألمانيا التي تتنافس اقتصاديا مع فرنسا وبريطانيا؟
السؤال المحير، الذي لم يقدم له المؤرخون والمحللون الاستراتيجيون إجابة، هو لماذا قبل جوزيف ستالين، سكرتير الحزب الشيوعي السوفييتي آنذاك، والذي قاد عمليا النصر ضد الألمان، بأن يكون له مقعد واحد في العضوية الدائمة لمجلس الامن، بينما استأثرت الولايات المتحدة وحلفائها ببقية المقاعد الأربعة: أمريكا وفرنسا وبريطانيا والصين شان كاي شك، مع أن تلك الدول لم تشكل قوة يعتد بها في الفترة التي صدر فيها ميثاق هيئة الأمم المتحدة، واستكمل بها تدشين المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية.
هناك قارتان رئيسيتان، من القارات الكبرى، هما أفريقيا وأمريكا اللاتينية، استثنيا رغم أهميتهما البشرية والاقتصادية، ومواريثهما التاريخية، من العضوية الدائمة لمجلس الأمن الدولي، بما يشي أن الموقف العنصري، وقف حائلا دون تشكيل مؤسسات دولية متوازنة. وقد شمل هذا الموقف، أمة عظيمة بثقلها التاريخي والبشري والاقتصادي، هي الأمة العربية.
نحن على اعتاب انتقال في موازين القوى الدولية، بعد انتهاء الثنائية القطبية، التي سادت إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، حتى سقوط حائط برلين، ومنذ نهاية العقد الأول من هذا القرن، بدأت تباشير عودة التعددية القطبية، باكتساح الصين للأسواق العالمية، وعودة الدب القطبي بقوة إلى الساحة الدولية.
إن أمما عديدة، قد تمكنت من النهوض كالهند والبرازيل، وهي بالمقارنة مع بريطانيا وفرنسا، باتت أقوى وأكثر تطورا، وبشكل خاص في مجال الثورة الالكترونية، التي تفوقت فيها الهند بجدارة، وتتنافس مع الصين، من حيث كثافة مخزونها البشري، وليس من المنطقي أن تكون هذه البلدان خارج إطار صناعة القرارات الأممية، ولا تكون ضمن الدول التي تحظى بعضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي.
حان الوقت الذي يتوجب فيه إعادة تشكيل المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، بعيدا عن المواقف العنصرية وغطرسة القوة وجبروتها، وأن يجري ذلك على ضوء موازين القوة الحقيقية للدول، وما لم يتحقق ذلك، لن يكون العالم رحبا ومتسامحا، وسيستمر انتهاك ميزان الحق والعدل.