آسياأخبار العالم

في كازان عاصمة تتارستان: عندما يتحدث الدين، الثقافة، والتاريخ بلغة واحدة

كازان-روسيا- وفاء بن موسى

منذ اللحظة الأولى لوصولك إلى كازان، بل منذ الاطلالة الأولى على ملامح المدينة من نافذة الطائرة، تشعر أنك أمام لوحة فنية نابضة بالحياة؛ حيث يتجانس اللونين الأخضر والاصفر بفعل تأثيرات الطقس على الأشجار واوراقها. البسمة لا تفارق وجوه الناس، ودفء الضيافة يسبق الكلمات. المدينة تفتح ذراعيها لزوارها كما لو كانت تعرفهم منذ زمن بعيد. هنا، في عاصمة جمهورية تتارستان الروسية، يمتزج التاريخ بالحداثة، وتصنع التعددية الثقافية فسيفساء فريدة لا تشبه سوى نفسها.

أولى المفاجآت السارة، اعتدال الطقس ودرجة حرارة بين 14 و5 بعد خشية ورهبة من البرد القارص الذي عرفت به روسيا..

“قازان”  كلمة تترية تعني “المرجل” أو “القدر”، وهناك عدة روايات حول أصل التسمية، أشهرها أن اسم المدينة ارتبط بموقعها الجغرافي المنخفض الذي يشبه المرجل، أو أسطورة تذكر أن شيخا بلغاريا نصح ببناء المدينة حيث يغلي الماء دون نار، أما الأسطورة الرومانسية  فهي تحكي عن أميرة تترية أسقطت مرجلًا ذهبيًا في النهر، فسمي النهر كازانكا، وسميت المدينة باسمه ومن الأرجح أن الاسم مشتق من كلمة “قازان” التركية التي تعني “المرجل”. 

تقع كازان، أو قازان كما يسميها أهلها، على الضفة اليسرى من نهر الفولغا الشهير. يسكنها أكثر من مليون وربع المليون نسمة، وهي اليوم إحدى أجمل مدن الاتحاد الروسي وأكثرها حيوية. المدينة التي اعتنقت الإسلام مبكرًا عن طريق التجار المسلمين، حافظت على تراثها الروحي رغم العواصف التاريخية، لتصبح نموذجًا للتعايش بين الإسلام والمسيحية الأرثوذكسية، وبين الشرق والغرب.

يقدر عدد سكان المدينة بحوالي 1.2 مليون نسمة، وتعد ثالث أكثر مدينة في التعداد السكاني بروسيا، كما تعتبر العاصمة الثالثة للبلاد بعد موسكو وسانت بطرسبرغ.

وتقع كازان على ضفاف نهري الفولجا وكازانكا، وتشتهر بآبار البترول الغنية في أراضيها.

أشهر معلم أثري في المدينة هو كرملين كازان الذي تم اعتباره موقعاً للتراث العالمي عام 2000، وشيد بواسطة القيصر الدموي إيفان الرهيب في القرن السادس عشر ليكون أهم قلاع تتارستان.

كازان ليست فقط عاصمة تتارستان السياسية، بل هي أيضًا مركز اقتصادي وعلمي وثقافي ضخم. في أراضي الجمهورية تمتد حقول النفط والغاز، فيما تشتهر العاصمة بأنها “العاصمة الثالثة لروسيا” و*“عاصمة الرياضة” ، إذ احتضنت بطولات عالمية ككأس العالم لكرة القدم سنة 2018، ودورة الألعاب الجامعية سنة 2013.

يطلق على كازان كذلك “مدينة الطلاب”. ففيها أكثر من 150 ألف طالب من مختلف أنحاء روسيا والعالم، يدرسون في مؤسساتها العليا، أبرزها جامعة كازان الفيدرالية التي تأسست سنة 1804، وتُعد من أعرق الجامعات الروسية.

مرّ على مقاعدها أسماء لامعة مثل فلاديمير لينين وليف تولستوي وديمتري مندليف، مما جعلها صرحًا علميًا ورمزًا من رموز النهضة الفكرية الروسية.

خلال زيارة الجامعة، وقفنا أمام تمثال لينين الذي ينتصب بفخر قبالة مدخلها الرئيسي، وتذكرنا قصته الشهيرة حين كان طالبًا هنا: فقد تم قبوله بعد أن تعهّد بعدم المشاركة في أي نشاط سياسي، لكنه لم يصمد سوى أيام قليلة قبل أن يقود احتجاجات طلابية، تسببت في طرده من الجامعة. بعد عقود، تحوّلت المؤسسة نفسها إلى جامعة كازان التي تحمل اسمه، تخليدًا لثورته الفكرية ورمزيته التاريخية.

وفي أحد أروقة الجامعة، التقينا بطالبة تونسية من مدينة نفطة، كانت تتابع دراستها في كلية الطب. في عينيها لمعت شرارة الحنين إلى تونس، لكنها تحدّثت بإعجاب كبير عن ظروف الدراسة في كازان، وجودة التعليم، وفرص البحث العلمي، وشرحت لنا إمكانيات التسجيل التي تجذب مئات الطلبة الأجانب كل عام.

في قلب المدينة، داخل أسوار كرملين كازان الأبيض المدرج ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، يقف مسجد قول شريف شامخًا كجوهرة معمارية تنبض بالروحانية والجمال.
تعود قصته إلى القرن السادس عشر، حين دمّره جنود القيصر إيفان الرهيب عام 1552 أثناء غزوهم للمدينة. لكن كازان لم تنسَ مسجدها، فأعادت بناءه عام 2005 في الذكرى الألفية لتأسيسها، ليصبح أحد أكبر المساجد في أوروبا.

خلال زيارتنا للمسجد، التقينا إمام المسجد السيد الفار، رجل وقور بملامح هادئة ونبرة صوت مفعمة بالإيمان. حدثنا عن رمزية المسجد في حياة التتار، وعن التعايش الديني في المدينة، مؤكدًا أن “كازان مثال حيّ على أن الإسلام يمكن أن يعيش في سلام تام مع الديانات الأخرى”. ثم اصطحبنا إلى المصلى العلوي المطل على نهر الفولغا، حيث تتسلل أنوار الشمس بين الزخارف العربية لتغمر القاعة بجلالٍ روحاني عميق.

على بعد خطوات من المسجد، ترتفع كنيسة البشارة العريقة، في مشهد فريد يجمع بين المئذنة والصليب داخل نفس الأسوار.

في زيارتنا إلى الكنيسة، استقبلنا كاهن الكنيسة الأرثوذكسية بابتسامة ودودة، وتحدث عن علاقات الود والاحترام المتبادل بين المسلمين والمسيحيين في كازان، مشيرًا إلى أن الكنيسة والمسجد يتعاونان في أنشطة إنسانية مشتركة، خصوصًا في المناسبات الدينية الكبرى. وأعطى بسطة عن تاريخ الكنيسة ومراحل تطويرها وتوسعها المعماري.

هذه الصورة المدهشة من التعايش بين الأديان تختصر روح كازان المدينة التي تعرف كيف تحافظ على اختلافاتها وتحوّل هذه الاختلافات إلى مصدر ثراء روحي وثقافي.

وفي المساء، دعينا إلى أحد أفخم مطاعم كازان، حيث امتزجت الأضواء الخافتة بعطر المائدة التترية الغنية بالنكهات الشرقية. كان العشاء مناسبة للتعرّف إلى المطبخ التتري الذي يجمع بين التأثيرين الإسلامي والروسي.

تخللت السهرة أغانٍ تتارية إسلامية تتغنى بالله وتضم كلمات عربية كـ”يا الله” و”السلام عليك” و”لا الاه الا الله”..، فامتزجت الموسيقى بالعاطفة الروحية في لحظة نادرة من الصفاء والسكينة.

الحياة الثقافية في كازان لا تهدأ. المسارح، المعارض، المهرجانات، والموسيقى التترية التي تمزج الألحان الشرقية بالنغمات السلافية، كلها تشكّل هوية المدينة الحديثة. كما تكتسي المدينة حلّة خضراء بفضل حدائقها وساحاتها الرحبة مثل حديقة الألفية ومنتزه غوركي وحديقة الحيوانات التاريخية.

كازان اليوم مدينة متطورة بكل المقاييس، لكنها لم تفقد روحها.شوارعها النظيفة، معمارها المهيب، أسواقها التي تفوح منها رائحة التوابل الشرقية، ومقاهيها المطلة على الفولغا تجعلها وجهة مثالية للسياح. إنها مدينة تعرف كيف تجمع بين التراث والحداثة، بين الهلال والصليب، بين الأصالة والانفتاح  لتبقى بحق لؤلؤة الفولغا وعاصمة التعايش الروسي التتري.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق