أخبار العالمأمريكاأوروباالشرق الأوسط

غزة تحت وصاية بلير: حين تتحول الكارثة إلى مشروع استثمار سياسي

مرة أخرى، يعود توني بلير من بوابة “الإصلاح” و”السلام”، ليطلّ على غزة بثوب الوصيّ لا الوسيط، وبخطة مكتوبة بلغة إنجليزية أنيقة، لكنها تفوح برائحة استعمار قديم أعيد تلميعه.

الوثيقة المسرّبة التي كشفت عنها صحيفة يسرائيل هيوم ليست سوى دليل تشغيل جديد لمرحلة ما بعد الحرب، تُراد فيها غزة بلا سيادة، بلا سلاح، وبلا صوت.

واحد وعشرون صفحة تختصر مشروعًا متكاملاً لإعادة تأهيل الاحتلال بمنطق “الإدارة الدولية”، وتفريغ القضية الفلسطينية من معناها السياسي.

الخطة التي تحمل اسم “الهيئة الانتقالية الدولية لغزة” (GITA) — الاسم وحده كافٍ لتذكيرنا بذاك النوع من الكيانات التي تُدار كأنها شركة خاصة، لا وطن ولا قضية.

رئيس مجلس إدارتها: توني بلير، صاحب التاريخ الطويل في تسويق الحروب، من العراق إلى فلسطين.

يتبعه مجلس من رجال أعمال ودبلوماسيين، ومن ضمنهم مصريون وإسرائيليون وأوروبيون وأميركيون… أما الفلسطيني؟

فـ”رمزي بلا صلاحيات”، كما تقول الوثيقة، مجرد شاهد زور يُستدعى لتزيين المشهد وتبرير الاحتلال الجديد بلغة الحداثة والإغاثة.

السلطة المقترحة ليست انتقالية… بل انقلابية، تنتقل فيها غزة من الاحتلال العسكري إلى الاحتلال الإداري الدولي.

المقر المقترح في العريش أو الدوحة، ما يعني أن السيادة الفلسطينية تُدار بالبريد الإلكتروني، وأن غزة تتحول إلى “مركز مشروع” تابع لجهة استشارية من الخارج.

أما الجانب الاقتصادي، فالقصة أكثر وقاحة.

الخطة لا تتحدث عن إعادة إعمار، بل عن “صندوق استثماري ربحي”، تُدار أموال الخليج والقروض الدولية فيه كما تُدار البورصات.

بمعنى أوضح: سيُبنى ما يُبنى فقط إذا عاد بالربح على المستثمرين، أما الناس الذين فقدوا بيوتهم وأطفالهم، فليسوا سوى “بيئة استثمار محفوفة بالمخاطر”.

الدم الفلسطيني في هذه الخطة، مجرد مادة خام في صناعة السلام المربح.

وفي المشهد الأمني، تقترح الوثيقة “قوة متعددة الجنسيات بقيادة أميركية”، لضبط الأمن ومنع أي “فصيل فلسطيني مسلح”.

ببساطة، يريدون غزة بلا مقاومة، بلا قرار، وبلا ذاكرة.

وإذا فُرض أن هناك إدارة فلسطينية، فستكون “إصلاحية” كما يسمّونها، أي مُعدّة مسبقًا لتُطيع الأوامر وتنفذ القرارات الصادرة من الخارج.

حتى “الإصلاح” في قاموسهم يعني الخضوع المهذّب او الخضوع بربطة عنق.

حين تقترح الوثيقة قوة متعددة الجنسيات بقيادة أميركية، فهي لا تتحدث عن “حماية المدنيين” بل عن تجريد غزة من إرادتها الأمنية والسياسية بالكامل.

وجود قوة كهذه يعني أن كلّ من يرفع صوته أو يحاول إعادة تنظيم المشهد الفلسطيني سيُصنَّف كـ”مخلّ بالأمن”، لا كمقاوم.

الغاية الأعمق من هذا كله هي تفكيك المقاومة كفكرة وكمؤسسة، وتحويل غزة إلى نموذج “فلسطيني منزوع السياسة”، يمكن لاحقًا توسيعه ليشمل الضفة.

لهذا يمكننا القول إن هذه الخطة تمهّد أيضًا لما هو أخطر: الهجرة الطوعية أو القسرية — فحين تُخنق الحياة بالرقابة، وتُدار المدينة كمنطقة أمنية استثمارية، يصبح الرحيل الخيار الوحيد المتاح للفلسطيني العادي.

المضحك المبكي أن الخطة تنص على أن “الهيئة الانتقالية ستتمتع بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية”، أي سلطة مطلقة بلا مساءلة.

وهو حالنا في فلسطين المؤقت الدائم، وكأننا أمام نظام وصاية حديث بثوب أممي، يستنسخ التجربة العراقية بعد الغزو — ولكن هذه المرة في غزة، تحت لافتة “إعادة الإعمار”.

السلطة الفلسطينية بدورها، كما يبدو من بين السطور، ستكون مجرد متفرّج على حفلة تقاسم النفوذ، وربما متلقٍ لمكرمات رمزية.

يُسمح لها بالتصفيق في المؤتمرات، لا أكثر.

ولأنها فقدت الكثير من شرعيتها أمام شعبها، فإن الغرب يسعى لتسويق “بديل إصلاحي” جاهز يتمتع بختم الرضا الدولي، لا الوطني.

السلطة في هذا السيناريو ليست شريكاً في الحل، بل ديكور في مسرح إدارة الاحتلال.

وفي العمق، الخطة ليست عن “إدارة غزة”، بل عن إدارة الفلسطينيين.

إدارة غضبهم، وذاكرتهم، وحقهم في المقاومة، وتاريخهم مع الأرض.

يريدون تحويل غزة من رمزٍ للصمود إلى نموذجٍ “قابل للحكم” على الطريقة النيوليبرالية: قليل من الكهرباء، كثير من الأمن، وجرعة يومية من الشعارات الإنسانية.

الخلاصة

خطة بلير ليست مشروعًا لإعمار غزة، بل لإعمار الاحتلال نفسه بثوب إنساني أنيق.

هي وثيقة لتأميم القرار الفلسطيني وتدويل الوصاية عليه، وجعل “الانتقالية”حالة دائمة، و”الإصلاح” مرادفًا للإذعان.

لكن ما لا يفهمه مهندسو هذه الخطط هو أن غزة، بكل خرابها، لا تُدار من الخارج، ولا تُساق بالأوامر.

لقد جرّبوا الحصار والقصف والتجويع، ومع ذلك ظلّت واقفة.

وسيبقى أي مشروع لا يبدأ بسيادة فلسطينية حقيقية — محكومًا عليه بالفشل، مهما تلون بالأمم المتحدة أو تزيّن بربطة عنق توني بلير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق