سيناريوهات الحل في أوكرانيا
إعداد أحمد دهشان: قسم البحوث والدراسات الإستراتجية والعلاقات الدولية 14-01-2025
اتخذت الولايات المتحدة موقفًا متشددًا تجاه روسيا، بعد دخول قواتها الأراضي الأوكرانية عام 2022، وكان أحد أهم دوافع هذا القرار، الإدراك الأمريكي بأن نجاح روسيا في أوكرانيا بتكلفة يمكن احتمالها كان سيتبعه إعلان دولة “الوحدة” بين “السلافيات الشرقيات الثلاث”، وهي (الاتحاد الروسي، وبيلاروس، وأوكرانيا)، وهو ما سيمكن روسيا من فرض صيغة اتحادية على كازاخستان، أكبر دول آسيا الوسطى وأكثرها ثراء، التي يمثل الروس 20% من سكانها، ومن خلفها ستنضم بقية دول آسيا الوسطى الأربع، وربما دول جنوب القوقاز الثلاث، أو سيعيد الرئيس بوتين تكرار نفس مشهد أوكرانيا في مولدوفا، وكازاخستان، ولاتفيا، التي تضم أقلية روسية مؤثرة. وفي كلتا الحالتين سيتمكن من تحقيق حلمه باستعادة الاتحاد السوفيتي، أو الإمبراطورية الروسية، في شكل حداثي جديد بعد مرور 30 سنة بالضبط على سقوط الأول عام “1991”، و300 سنة على قيام الثانية عام 1721، ليدخل التاريخ في قائمة أعظم حكام روسيا.
الهدف الرئيس لأمريكا من دعم أوكرانيا لم يكن تحرير أراضيها بالقوة العسكرية، أو هزيمة روسيا، وهو أمر يبدو محالًا، وينطوي على أخطار عدة، من بينها إمكانية نشوب نزاع نووي؛ بل جعل تجربة أوكرانيا غير قابلة للتكرار؛ نظرًا إلى تكلفته غير المحتملة للقيادة والجيش والشعب الروسي، ولكي يكون الخروج الأول والأخير لروسيا من حدودها منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
ويبدو أن هذا الهدف قد تحقق بالفعل، ولا إمكانية أو قدرة لدى روسيا -قيادةً وجيشًا وشعبًا- على خوض أي حروب جديدة بعد معاناتهم من جراء هذا الصراع؛ وعليه، لو حصل الديمقراطيون على فترة رئاسية جديدة، لاتجهوا إلى وقف الحرب عبر اتفاق؛ لذا يبدو ادعاء بعض الديمقراطيين أن ترمب يريد إنهاء الحرب، وتصوير هذه الخطوة على أنها ستصب في مصلحة روسيا، من باب المناكفة السياسية الداخلية.
ربما الخلاف بين الطرفين على التوقيت والشروط لا على الفكرة نفسها، حيث لم يعد لدى أوكرانيا قدرة على تحقيق أي منجز عسكري منذ نجاح هجومها المضاد في صيف 2023، وفشل كل المحاولات التي تلته حتى الآن. في المقابل، لا يوجد لدى روسيا قدرة على تحقيق تقدم إضافي أكثر مما حققت، وعليه يبدو أن مسار الحرب قد بات مسدودًا من الناحية العسكرية لكلا الطرفين.
أهم السيناريوهات المتوقعة:
السيناريوهات المتوقعة لإنهاء الحرب من خلال ما عُرِضَ من نقاش في موسكو، وما يُتداول في الولايات المتحدة، يمكن حصرها في أربعة سيناريوهات رئيسة:
السيناريو الأول: الاعتراف الأوكراني والدولي بتبعية شبه جزيرة القرم لروسيا:
وربما تطلب واشنطن إعادة الاستفتاء الشعبي تحت رقابة دولية، في إجراء شكلي على غرار طلب روزفلت في مؤتمر يالطا من الزعيم السوفيتي ستالين تنظيم استفتاء شعبي لضم بلدان البلطيق إلى الاتحاد السوفيتي رغم ضمها بالفعل، لكن روزفلت أراد ورقة يواجه بها الرأي العام السياسي الأمريكي والغربي، وقد استجاب ستالين لطلبه.
حال تكرر الاستفتاء، وبإشراف دولي، يُتوقع تصويت سكان القرم بنسبة من 60 إلى 70% على قبول الانضمام إلى روسيا؛ وعليه تصبح عملية الضم شرعية، ومقابل ذلك تنسحب روسيا من جميع الأراضي التي “سيطرت” عليها منذ 24 فبراير 2022، على أن تتعهد باحترام حدود أوكرانيا، والإقرار بعدم وجود مطالبات لها في أراضيها.
في المقابل تعترف أوكرانيا بنتائج الاستفتاء، ويُعدَّل الدستور الأوكراني لتحويل البلاد إلى النظام الفيدرالي، ومنح القوميات حقوقها الثقافية والاقتصادية، والاعتراف باللغة الروسية لغةً رسمية إلى جانب الأوكرانية، والحفاظ على أملاك كنيسة أوكرانيا وتبعيتها لبطريركية موسكو وعموم بلاد الروس الأرثوذكسية، ورفع العقوبات من على روسيا تدريجيًّا، مع تعهد أمريكي، ومن بقية أعضاء حلف الناتو، بالدفاع عن أوكرانيا إذا تعرضت لغزو روسي، وهو ما يشبه تمتعها بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف دون الانضمام إليه.
يبدو هذا الحل مثاليًّا لأمريكا، وأقل ضررًا لأوكرانيا، ويمكن أن يسوقه الرئيس بوتين في الداخل كنصر كبير من خلال الادعاء بأنه حصل على اعتراف أوكراني ودولي بالقرم، ورفع جميع العقوبات التي فُرضت على البلاد منذ عام 2014، وانتزع حقوق الناطقين بالروسية في أوكرانيا، وأنهى عزلة شبه جزيرة القرم من خلال فتح طريق بري بينها وبين روسيا، ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، ووفق صيغة الحكم الفيدرالي، سيكون لحلفاء روسيا من الناطقين بالروسية القول الفصل فيمن يحكم أوكرانيا، والقوة الاقتصادية الأكبر لأن مناطقهم هي الأغنى؛ ومن ثم ستصبح أوكرانيا مع الوقت أقرب إلى موسكو من الغرب على نحو طبيعي.
السيناريو الثاني: تجميد الصراع وفق الواقع الحالي على الأرض، ووضع قوات حفظ سلام للفصل بين الطرفين:
وهو المقترح الذي عرضه ترمب يبدو القبول الروسي بهذا المقترح ضعيفًا؛ نظرًا إلى وجود ميراث من عدم الثقة للروس في الاتفاقيات مع الغرب والالتزام بها، وتحديدًا فيما يخص أوكرانيا، حيث نصت اتفاقية مينسك في فبراير 2015، وما تمخض عنها من بروتوكول، على تجميد الصراع، مع وضع إطار للحل، وكانت النتيجة عدم تطبيق أي من بنوده، واستغلال هذا الوقت لتسليح أوكرانيا.
تخشى روسيا تكرار هذه التجربة مرة أخرى، وترى أن الظروف مواتية للضغط للتوصل إلى اتفاقية سلام مُلزمة، خاصةً مع عدم ضمانها من سيخلف ترمب فيها بعد. ربما توافق روسيا فقط إذا وجدت أنه لا مجال للتوصل إلى اتفاق سلام لحاجتها أيضًا إلى الهدوء والراحة، ولكن شريطة رفع الجزء الأكبر والأكثر تأثيرًا من العقوبات عليها، خاصةً في القطاع المصرفي والتقني.
السيناريو الثالث: قبول ضم روسيا لمناطق النزاع الأصلية:
قبول ضم روسيا لمناطق النزاع الأصلية منذ عام 2014 في دونباس بجانب القرم، وتخليها عن خيرسون وزاباروجيا مقابل ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، بعد إقرارها بهذا الضم، وتعهد روسيا بعدم وجود أي مطالب إضافية لها الآن أو مستقبلًا في أوكرانيا.
السيناريو الرابع: قبول ضم روسيا للمناطق الأوكرانية الأربع بجانب القرم:
وفي المقابل ينضم ما تبقى من أوكرانيا إلى حلف الناتو، وتتعهد روسيا بفك الارتباط مع الصين، وتشكل عامل ضغط عليها مع الولايات المتحدة، لتنضم إلى الاتفاقيات الخاصة بخفض التسلح النووي، والتجارب النووية، وغيرها من الاتفاقيات العسكرية التي تم توقيعها بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا، وورثتها روسيا والتزمت بها، بجانب عدم تقديم أي دعم للصين إذا دخلت في مواجهة مع الغرب.
السيناريوا الأقرب للواقعية
يبدو السيناريو الأول الأكثر واقعية وإمكانية لقبوله من المؤسسة الحاكمة الأمريكية، وقد يشكل أساسًا لعلاقة روسية أمريكية، تمكن الأخيرة من اجتذاب موسكو إلى صفها في صراعها مع بكين. إذا تعذر الوصول إلى اتفاق على أساس السيناريو الأول يصبح السيناريو الثاني هو الأقرب. أما السيناريو الثالث والرابع، فلا يبدو أن هناك إمكانية لقبول مؤسسات الدولة الأمريكية أيًّا منهما؛ لأنه يقوض إستراتيجية واشنطن في أوروبا وحول العالم، ويفتح الطريق أمام قوى إقليمية ودولية أخرى لاستخدام القوة العسكرية في تغيير الحدود، إلا إذا سبق ذلك تغيير حدود إسرائيل الدولية المعترف بها، وضم أراضٍ أخرى إليها بموافقة أمريكية، لكن هذا الخيار سيفتح المجال لعودة الصراعات على ترسيم الحدود في أوروبا، وربما بقية العالم، ويضر بشدة بمصالح الولايات المتحدة.
نظرية ترمب، وبعض المقربين منه، بإمكانية فك ارتباط موسكو مع بكين، تبدو مستبعدة جدًّا في ظل الترابط القوي بين الطرفين من خلال علاقة يمكن وصفها بأنها “أقل من تحالف وأكبر من تعاون”، لكن إذا حصلت روسيا على مكتسبات كبرى مع إنهاء للعقوبات الغربية، وضمانات بعدم تكرارها مرة أخرى، يمكن أن تراجع روسيا موقفها من الصين.
الخلاصة:
في كل الأحوال، يبدو أن الصراع مع الصين قادم، والوقت يعمل في صالح بكين وضد واشنطن، وكلما عجّلت الأخيرة بالصراع كان أكثر مناسبة لها، وقد لا تحتاج إلى حربها على نحو مباشر، بل يكفي أن توعز إلى النظام الحاكم في تايوان أن يعلن استقلاله؛ لجر الصين إلى مواجهة مع جيش مؤهل ومدرب جيدًا على النمط الغربي، وسحب دول آسيوية، وأخرى مطلة على بحر الصين الجنوبي لتقديم الدعم لتايوان، على غرار ما فعلته أوروبا مع أوكرانيا، وفي هذه الأثناء تتولى الولايات المتحدة تغيير النظم و/أو توجهاتها نحو الصين، في الدول الرئيسة التي يمر منها طريق الحرير، أو مبادرة “حزام واحد طريق واحد”، لتخرج الصين من الصراع مع تايوان منهكة حتى لو ضمتها إلى برها، وقد يكون تغيير ميزان القوى الدولي في غير صالحها، وربما يُقال شين جين بينغ على يد بارونات الأقاليم ذوي النفوذ القوي في الصين، إلى جانب كتلة رجال الأعمال المرتبطين بالغرب.
في كل الأحوال، كلما عُجِّلَت المواجهة مع الصين كان لدى الولايات المتحدة قدرة على تحقيق أهدافها، ويمكن إذا حصلت روسيا على مكتسبات وضمانات أن تلتزم سياسة “الحياد” الإيجابي لصالح الغرب، وذلك من خلال الاكتفاء بالبيانات الدبلوماسية الناقدة، دون تقديم دعم فعلي للصين.
جدير بالذكر أن الصين لم تقدم أي دعم مالي أو عسكري لصالح روسيا في صراعها مع الغرب في أوكرانيا، وتوقفت المؤسسات المالية الصينية عن التعاون مع المصارف الروسية خشية العقوبات الغربية، وهو ما طرح عدة أسئلة في الداخل الروسي عن جدوى التحالف مع بكين في ظل عدم قيامها بأي خطوات دعم جادة لموسكو، مقابل الدعم السخي الذي حصلت عليه كييف من الغرب.