جيوبوليتيك: الذكاء الاصطناعي السياسي
تقرير من أعداد قسم البحوث و الدراسات الإستراتجية
إعداد: رباب حدادة
المراجعة : الدكتوة بدرة قعلول
يتطور العمل السياسي من زمن الى آخر و من ظرفية الى آخري، وفي كل حقبة زمنية تخلق وسائل للسيطرة و بسط النفوذ السياسي و اليوم أصبح الذكاء الاصطناعي عامل مصيري لتحديد القوة و السيطرة الاقتصادية و السياسية.
لذلك خلق هذا الرابط بين الجغرافيا السياسية و الذكاء الاصطناعي فكغيرها من التقنيات تم التطويع السياسي لهذه التكنولوجيا الجديدة من اجل التوسع الجغرافي لكن بشكل جديد و مختلف يذهب البعض إلى تصنيفها ضمن وسائل القوة الناعمة ” soft power” و لكن و في آخر مستجدات القوة في هذا الزمن قد تجاوزنا القوة اللينة إلى قوة خفية hidden power” .
مفهوم الجغرافيا السياسية و ارتباطها بالذكاء الاصطناعي
تعرف الجغرافيا السياسية حسب ايف لاكوست كونها “دراسة لمختلف أشكال صراع السلطة على الأرض، والقدرة تقاس بالموارد التي يحتويها الإقليم وبالقدرة على التخطيط خارج الإقليم”
لكن قيمة الأقاليم اليوم في المقاربة الجديدة للجيوبوليتيك لن تقاس على أساس الموارد الطبيعية أو الموقع الجغرافي و إنما بمعيار الذكاء الاصطناعي و نجد في هذه المقاربة تصنيفين للدول الأولى مالكة للذكاء الاصطناعي و الثانية خاضعة له.
بالرغم من عدم وجود تعريف دولي موحد للذكاء الاصطناعي و لكن يمكن اعتماد احد أقدم المفاهيم وهو الذي قدمه بلمان ” النشاطات الآلية التي نربطها بالتفكير الإنساني ،مثل صنع القرار،حل الأزمات والتعلم”
راهنت البشرية على استنساخ أدمغتها ذكية أو بما يسمى الذكاء الاصطناعي، و قطعت شوطا هاما في ذلك لدرجة أن 47 بالمائة من الوظائف في الولايات المتحدة الأمريكية عوضت بالذكاء الاصطناعي و لكن الرهان الأعظم يظل رهان السلطة و يقول آليون ماسك احد أهم رجال الأعمال في مجال الذكاء الاصطناعي “صراع الدول لزعامة الذكاء الاصطناعي سيكون على الأغلب سبب الحرب العالمية الثالثة “
ملامح هذا التسابق لتطوير هذه التكنولوجيا باتت بارزة المعالم و رافقتها على غير المألوف محاولات لصد العولمة و إبطاء حركتها في هذا المجال فالدول الليبرالية و في صدارتهم الولايات المتحدة الأمريكية الداعية للعولمة نجدها اليوم تحاول منع انتشار تقنياتها ونقلها لاحتكار تقدمها و تطورها و هي كغيرها من القوى تعمل على خلق ارض تصدر لها قوالب جاهزة و تجعلها أرضا خاضعة لهذه القوة الخفية .
أصبحت الدول الرائدة تعمل على سرية مشاريعها و الدفاع عن الملكية الصناعية و خاصة استقطاب الشركات الناشئة و الواعدة و تشجيعها مع مزج عمليات الشراكة بين الخاص و العام و إدراج الذكاء الاصطناعي في وسائل السيادة كالأسلحة و الاستخبارات و الإعلام.
فمن هي أهم الأقطاب العالمية في الذكاء الاصطناعي؟
ما هي أشكال التوظيف السياسي لهذه التقنية؟
ما هي ملامح التقسيم الجغراسياسي الجديد في ظل الرقمنة الذكية لكل القطاعات الحيوية من أمن و اقتصاد و سياسة ؟
التنافس الأمريكي الصيني
ظهرت مع الذكاء الاصطناعي قطبية ثنائية جديدة بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية حيث تسيطر شركات الدولتين على هذا القطاع.
هذا التسابق نحو الزعامة بدا بتبادل الضغط بين الدولتين أولها التشديد على حماية المعلومات كي لا تتسرب تقنياتهم خارج حدودها كما تم رفع الاداءات الجمركية على البضاعة الصينية في إدارة ترامب شملت صناعات الذكاء الاصطناعي و نفس الإجراء تم اتخاذه من الجانب الصيني بفرض اداءات بنسبة 25 بالمائة على 540 منتج أمريكي .
أما في 2017 فتحت أمريكا تحقيقا في حق الصين للقيام بما سمته المنافسة الغير نزيهة في مجال التكنولوجيات بتهمة سرقة الملكية الصناعية في مجال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي.
كانت ملامح قوة الذكاء الاصطناعي تبرز شيئا فشيئا و زاد هذا الرهان بعد 2016 عندما تمت هزيمة بطل العالم “لي سيدول” في لعبة “GO” أمام الذكاء الاصطناعي AlphaGo”” لشركة DeepMind التابعة لغوغل . هذه التجربة على بساطتها تعني الكثير و هذا ما خلق حركة استثمار اكبر بعدها مباشرة فالصين أطلقت مخطط في 2017 يمتد إلى حدود 2030 استثمرت فيه 15 مليار دولار بهدف ان تصبح القطب الأول في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030 .
استراتيجيا الصين ركزت على مشاريع رقمية كبرى فمخططها الاقتصادي و السياسي العالمي “طريق الحرير” نجد له نموذج تكنولوجي يعرف ب “طريق الحرير الرقمي digital silk road ” وعلى أساسه تم بناء المركز الدولي لطريق الحرير الرقمي في تايلندا في فيفيري 2018 كبداية لإقامة شبكة من البنى التحتية الرقمية في العالم بالاستناد إلى الشبكة الاقتصادية الكلاسيكية للصين.
المخطط الاستراتيجي للدولة الصين سار بالتوازي مع عمالقة الذكاء الصناعي الصينيين مثل Alibaba” ” التي استثمرت في نفس السنة و بنفس ميزانية الدولة في استراتيجيا جديدة لتطوير عملها في هذا المجال.
أما الولايات المتحدة الأمريكية التي مازالت تتصدر مجال الذكاء الاصطناعي فضاعفت جهودها أمام المنافسة الصينية. تظل منطقة “السيليكون فاليه” حاضنة البحث و التطوير في مجال الذكاء الاصطناعي، حتى الصين تستثمر في المنطقة بنسبة 15 بالمائة، جنوب شرق أسيا 35 بالمائة، الهند 11 بالمائة، المكسيك 20 بالمائة. جاذبية “السيليكون فاليه” في تطوير الذكاء الاصطناعي تعطي الأولية الأمريكية دائما و أبقت على تبعية صينية في بعض تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل “Graphical Processor Units ” و هي تقنية أساسية لتطوير خاصية التعلم العميق في الذكاء الاصطناعي Deep Learning “”. كما مكنها كذلك من امتلاك 78 ألف باحث في هذا المجال وهو ما يقارب ضعف عدد علماء الصين المقدر ب 39 ألف باحث.
أشكال التوظيف السياسي للذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية مقتصرة على مجال محدد و إنما تمتد و تدمج في الكل الميادين حتى ميادين السيادة من امن و سياسة و من مظاهر ذلك تطوير أسلحة ذكية و إدخال الذكاء الاصطناعي في الانتخابات منها انتخابات ترامب في 2016 حيث تم اللجوء إلى شركة ” Genic AI” باستخدام برنامجها Mogai” ” الذي حلل المعلومات المنتشرة على حسابات الأمريكيين و أعلن ترامب فوزه بالاستناد على نتائج هذا الاستقصاء قبل 15 يوما من الانتخابات.
و هو ما تم كذلك في اتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فمراكز الاستقصاء أصبحت غير قادرة على مجاراة استبيانات الذكاء الاصطناعي التي ترتكز على تحليل كم هائل من المعلومات المجمعة من خلال اختراق شبكات الانترنت و التي وصلت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 87 بالمائة .
هذا الاختراق وصل إلى استهداف حسابات شخصيات عالمية مؤثرة و صانعة للقرار الدولي ما مكن كذلك من التنبؤ بحلول أزمة كوفيد 19 التي لم تكن قائمة على استباق استراتيجي وإنما تحليل خوارزميات متطورة لتدفق المعلومات حتى السرية في العالم. اختراق الانترنت لا يكون بجمع المعلومات فقط بل كذلك بنشرها.
نشر المعلومات و حجبها حسب أجندات العمل السياسي أصبح أمرا معمولا به حتى في الدول الكبرى وذلك من خلال تقنيتين.
– الأولى روبوتات الواب ” bot”
و هي أشبه بالشخصيات الرقمية يمكنها إقامة حوارات و عمليات تجارية وغيرها و هي قادرة على إدارة حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي و بالتالي هذه العناصر يمكنها التأثير وتوجيه الحشود في دولة ما و بالتالي نجاح مرشح سياسي و فشل أخر في الانتخابات ممكن بمجرد توظيف الذكاء الصناعي .
– الثانية هي Deepfake” “
و تمكن هذه التكنولوجيا من صناعة مقاطع فيديو و صور حقيقية لشخصيات عالمية بشكل متطابق في الملامح و الصوت و الأسلوب ما يجعل تمييز التصريحات الرسمية و الحقيقية عن المفبركة أمرا مستحيلا لغير المختصين في هذا المجال و هو ما يمكن من تشكيل القادة أو تدميرهم سياسيا .
اليوم أصبحت السيطرة على الساحات الوطنية لأي دولة ممكن خاصة الدول الضعيفة التي لا يمكن أن تطور تقنيات في حماية المعلومات و إنشاء سياسات ذكاء اصطناعي مضادة و ذلك بتوجيه الرأي العام و التحكم في المعلومات.
الصين مثلا لا تسمح باستعمال تطبيقات أمريكية توظف الذكاء الاصطناعي مثل “فايسبوك” و” تويتر” و إنما تستعمل برمجياتها الخاصة مثل “وي تشات” و ذلك لمنع أي استعلام و إمكانية تدخل أجنبي في شعبها فالمسالة أصبحت تتجاوز تطبيقات للتواصل الاجتماعي و إنما أصبحت مسالة سيادة الدولة على إقليمها في وقت أضاع فيه الذكاء الاصطناعي الحدود الجغرافية للدول.
الاستعمار الرقمي: إفريقيا الهدف الأول
السلطة تتطلب طرفين دائما مالك السلطة و الخاضع لها في النهاية تطويع الذكاء الاصطناعي لغايات سياسية و إستراتيجية يتطلب ميدانا تطبق عليه تلك الاستراتيجيات و اليوم تقف إفريقيا كحلبة صراع بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الذكاء الاصطناعي هذا الاحتلال الرقمي حسب البعض يشمل الجانب السياسي و كذلك الاقتصادي و أطلق عليه البعض “قارة الامبريالية السيبرانية”.
إفريقيا خالية من أي بنية تحتية للذكاء الاصطناعي والرقمنة المتطورة لذلك تعتبر مجال ملائم لتجربة التطبيقات الذكية و إرساء تبعية رقمية لهذه الدول التي تمثل في نفس الوقت أرضا ثرية بالموارد الطبيعية و المنجمية .
اقتصاديا توغلت الصين في الأراضي الإفريقية بإرساء اللبنات الأولى لبنية تحتية رقمية:
– Transsion Holdings هي أول شركة للهواتف الذكية في إفريقيا ،ZTE ” ” احد اكبر شركات الاتصالات الصينية و تكفلت ببناء البنى التحتية للاتصالات في كامل أثيوبيا.
– شركة “Cloud Walk ” قامت باتفاقيات شراكة مع الزيمبابوي لتطوير برامج التعرف على الأوجه.
بالرغم من عدم التوازن في هذه الشراكات غير أن ضخامة تمويلات و استثمار الصين في إفريقيا تمكنها من نقل برامجها و تقنياتها و كذلك ثقافتها و.بين أساليب قوة ناعمة وأساليب قوة خفية تمكنت الصين من بسط نفوذها في كامل القارة .
في إطار التنافس الأمريكي الصيني في إفريقيا قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل على وقف التمدد الصيني فشركة “غوغل” مثلا أنشأت أول مركز للتطوير الذكاء الاصطناعي في أكرا. وازدياد فروع GAFAM” ” و هي الشركات الخمس الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية و التي مكنها استثمارها في إفريقيا من استقطاب كل الباحثين و العلماء الأفارقة في مجال الذكاء الاصطناعي .
في تقرير لسيدريك فيلاني كتبه في 2018 بتكليف من الوزير الأول الفرنسي يتحدث عن تأثير الذكاء الاصطناعي للشركات الرقمية في إفريقيا يقول ” ن هذه المنصات الرئيسية تستحوذ على كل القيمة المضافة: قيمة الأدمغة التي تجندها وقيمة التطبيقات والخدمات ، وفقاً للبيانات التي تستوعبها. فالكلمة وحشية جدا ولكنها من الناحية التقنية من النوع الاستعماري: فاستغلال موردا محليا عن طريق إنشاء نظام يجذب القيمة المضافة نحو اقتصادك، و ذلك ما يسمى استعمار رقمي .”
سياسيا التحكم في الشعوب بتوظيف المعلومات ليس بالأمر الجديد و لكن اختلفت الوسائل فما كان يبث من خلال الراديو هات و القنوات الإخبارية أصبح يبث من خلال الروبوتات والمنصات الرقمية و المعلومات التي كانت تجمع من الاستخبارات أصبحت تجمع بفضل الذكاء الاصطناعي و توظف حسب ذلك خاصة أمام دول ضعيفة اقتصاديا عاجزة عن إرساء اقل مستوى من حماية المعلومات أو حتى تشكل وعي جماعي بدور التوظيف التكنولوجي للمعلومة أصبح التحكم بالساحات الوطنية للشعوب تحكما رقميا عن بعد.
أما الاتحاد الأوروبي المسيطر التقليدي في إفريقيا لا يستطيع أن يكون جزءا من هذا الصراع فهو بذاته يعيش أزمة تأخر في مجال الذكاء الاصطناعي و إن لم يطور استراتيجياته بشكل كافي خلال فترة قصيرة سيكون عاجزا عن اتخاذ مكانة بين القوى المسيطرة في الذكاء الاصطناعي فباستثناء بريطانيا و روسيا اللذان يعملان على ذلك تظل باقي الدول الأوروبية خارج سباق التطوير في التكنولوجيات الحديثة.
استعمال الذكاء الاصطناعي سيكون سيفا ذا حدين و على الدول أن تعي ذلك و تضع إطار قانوني ملائم يقنن و يضبط تطوير هذه التكنولوجيات. اليوم الجميع واقع تحت سحر تكنولوجيا تصنع المستحيل و لكن بقدرة هذه التكنولوجيا على التطوير الذاتي قد تدخل البشرية في مرحلة تعجز فيها عن السيطرة و قد شهدنا نماذج عديدة خرجت فيها الروبوتات الذكية خاصة روبوتات الواب عن سيطرة المبرمج و شكلت نظامها الخاص و حتى إيديولوجياتها فشركة أمازون اكتشفت أن احد روبوتاتها الذكية الذي وضع في نظام التوظيف طور أفكار عنصرية ضد المرأة و على أساسه أقصى النساء من قوائم التوظيف . و هذه سوى أمثلة بسيطة و لكنها نموذج لما يمكن أن تصل إليه الأمور خاصة بهذا التوظيف السياسي و الجيوسياسي للذكاء الاصطناعي .