جيل الحروب الناعمة وسياسة الإرغام
إعداد الدكتورة بدرة قعلول : رئيس المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
يغزو العالم اليوم هوس كبير للتسلح والإختراعات الكبرى والتكنولوجيا العالية العسكرية والسلاح المتطور والدقيق، لكن الواقع اليوم يفرض أحكامه ويتجه إلى مستوى آخر من الحروب التي نعتبرها نقلة نوعية في الحياة الإنسانية وخاصة في التحولات الجيوسياسية العالمية.
ومرة أخرى وبمرور السنين تفرض العلوم الإنسانية والإجتماعية العسكرية قوتها كسلاح مدمر وقوي من أجل السيطرة والإحتلال بأقل الخسائر المادية والبشرية لم تعد الحرب المسلحة والعسكرية أسلوبا أمثل وأولا لمعالجة الصراعات السياسية، فحتى القوى الأكثر تسلحا تراجعت عن خيارات الحروب المسلحة بل لم تعد تتدخل في الحروب المسلحة مباشرة، إلا عندما تستنفذ أسلوبها الجديد: الحرب الناعمة، ومن ضمنها الأسلوب الأكثر حداثة وهو “القدرة على الإرغام”.. صدر هذا الأسلوب الجديد في دراسة عن مؤسسة “راند الأمريكية” وهي منظمة صناعة قرارات البيت الأبيض والبنتاغون في السياسة الخارجية، للباحثين ديفيد س. غومبرت، وهانس بيننديك.
فما معني هذا الأسلوب : القدرة على الإرغام؟
القدرة على الإرغام بالنسبة للمخططات الأمريكية هي مواجهة العدو من دون حرب، فبعد دراسة معمقة لتصاعد التكاليف والمخاطر والشكوك العامة حول نتائج شن الحرب والخوض المباشر فيها تظهر أهمية القوة الأمريكية على الإرغام آو الإخضاع، ومنها تستعمل الأدوات اللازمة.
وأهم أدوات “القدرة على الإرغام” الثلاث التي تُعَدّ الأعلى مردوداً ضمنياً، والمتاحة للولايات المتحدة هي: العقوبات المالية، ودعم المعارضة السياسية اللاعنفية، والعمليات الهجومية الإلكترونية.
وجاء كذلك في الدراسة، مطالبة الحكومة الأمريكية بتحليل خيارات استخدام “قوة الإرغام” بنفس طريقة استعدادها لشن حروب عسكرية، وتقييم المتطلبات، والقدرات، وتنفيذ سيناريوهات محاكاة، والتخطيط مع الحلفاء لذلك بهدف تحقيق الإرادة الأمريكية.
لكن كيف يمكن تطبيق هذا الأسلوب سياسيا؟
إذا نظرنا إلى البراغماتية السياسية يمكن أن توصف بأنها النقيض لسياسة أو مفهوم القدرة على الإخضاع، فهي نظرية في الفلسفة السياسية تحاول تفسير العلاقات السياسية وصياغتها وتقديم اقتراحات لها، وتفترض أن السلطة هي الغاية الأساسية للفعل السياسي، سواء أكان على النطاق المحلي أو الدولي.
محليا تؤكد هذه النظرية أن السياسيين يجتهدون، أو عليهم أن يجتهدوا، لزيادة سلطاتهم، أما على الساحة الدولية، فيُنظر إلى الدول القومية باعتبارها الوكلاء الأساسين الذين عليهم زيادة سلطاتهم. فالبراغماتية السياسية في جوهرها في المبدإ السياسي تقول من يملك القوة يملك الحق.
وتفترض الواقعية السياسية أن المصالح تحميها ممارسة السلطة، وأن العالم يتسم بقواعد السلطة المتنافسة. أما السياسات الدولية فتؤكد معظمها أن الدول هي الوكيل المتصل بالسلطة وأنه من الضروري استخدام أي وسيلة للحفاظ على المصلحة الوطنية.
على أثر صعود دونالد ترامب إلى عرش البيت الأبيض أصدرت مؤسسة راند البحثية الشهيرة، دراسة تحت عنوان “القدرة على الإرغام: مواجهة الأعداء بدون حرب” وفيها أحصت الأسباب الحقيقة التي أبقت الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي القائم. كذلك أشارت الدراسة إلى ضرورة التعامل مع معطى تراجع قابلية الولايات المتحدة لاستعمال القوة العسكرية الهجومية ومن ثم تنامي قدرتها على “الإرغام” .
والملاحظ أن الطرح الذي يردده الرئيس الأمريكي ترامب وفريقه في البيت الأبيض سواء أكانوا عسكريين أو أمنيين أو حتى سياسيين هو شعارات قد صدرت عن الدراسة لمنظمة راند ” القدرة على الإرغام: مواجهة الأعداء بدون حرب” ومنها خاصة الإحصائيات الكاشفة التالية:
- تحظى الولايات المتحدة الأمريكية بالمرتبة الأولى بنسبة 30 في المائة من أسهم الإستثمار الأجنبي المباشر في كل أنحاء العالم بفارق كبير عن سواها.
- الدولار هو أساس التبادلات في أسواق المصارف والعملات.
- أربعة من بين المصارف السبعة الأكبر في العالم (بحسب القيمة السوقية) هي مصارف أمريكية.
- الشركات السبع الإعلامية الأعلى تصنيفا من العالم و95% من عائدات وسائل الإعلام العالمية تخص أمريكا.
- تبيع الولايات المتحدة ثلاثة أرباع الأسلحة في العالم، كما تقدم مساعدات عسكرية تبلغ 18 مليار دولار، وهي بذلك تتفوق على الجميع بفارق كبير.
- الأبحاث والإختراعات التي تدفع بشبكات المعلومات في العالم نحو التقدم هي أمريكية في معظمها.
- تترأس الولايات المتحدة، أو تشارك في ترؤس أكثر المؤسسات العالمية أهمية، بما فيها تلك التي تسيطر على الإقتصاد العالمي.
- تملك قوات البحرية الأمريكية تفوقا مماثلا لما كانت تتمتع به البحرية الملكية البريطانية خلال القرن 19 حيث يمكن لهذه القوات فرض السيطرة البحرية أو الحظر البحري في أي مكان، مما يجعلها “شرطي التجارة العالمية” تقريبا.
- القدرات الإستخباراتية الأمريكية تجعل مثيلاتها في أي دولة أخرى تبدو محدودة بما لا يقارن وتخلق وعيا وتؤثر في صناعة القرار السياسي لدى الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
ويرى الباحثون في هذه الدراسة أن العمل على تطوير العلاقات الأمريكية بالتحالف مع الأوربيين وبلدان آسيوية سيمكنها من تطبيق نظرية “الإرغام” بشكل كبير وناجع ومباشر، وبالنسبة للخبراء والباحثين هو أمر سهل وقابل للتحقيق لكن ليس في كل مرة خاصة أن هذه البلدان يمكن أن تستفيق على غاية الأمركيين في التحالف التي لا تعتمد على المصلحة المشتركة بقدر ما تعتمد على الهيمنة والسيطرة وبقاء الولايات المتحدة الأمركية في الصدارة والمتحكمة في العالم.
ما بين القوة الصلبة المعتمدة على المواجهة العسكرية والقوة الناعمة، توجد قوة “الإرغام” وهو الصنف الثالث من القوة ويتمثل في استخدام الوسائل غير العسكرية للضغط على الدول المعادية أو المنافسة للقوة الأمريكية لجعلها ترضى بفعل أشياء لم تكن لترضى بها في ظروف طبيعية وحسب ظرفيتها وخصوصية مجتمعها.
إن ما جعل الباحثين الأمريكيين يقترحون الحل الثالث “قوة الإرغام” هو ما أثبتته النتائج السلبية للتجربة العسكرية والقوة الناعمة فكان الفشل ذريعا للولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أهدافها حيث إن الخيارين الأول والثاني قد كلفها أعباء كبيرة مادية ومعنوية، وبالتالي فإن الخيار الثالث:المناورة الدولية و”قوة الإرغام” سيكون الأنجح في تحقيق الأهداف الأمريكية، فالقدرة على تطويع أعمال غير عسكرية تتضمن خيارات متدرجة، مع خلق مساحة من المناورة على المسرح الدولي ستزيد في المستقبل. وتتحقق القدرة على “الإرغام”، الممزوج بحنكة سياسية، من خلال العقوبات الإقتصادية والإجراءات السياسية العامة وعمليات إلكترونية واستخبارية ومساعدات عسكرية وتضييق على التجارة وحظر على أشخاص أو على بضائع. و قد أشارت الدراسة إلى أن كل البلدان في العالم يمكن إخضاعها إلى “قوة الإرغام” إلا بلد واحد هو الصين لأنها حسب الأمركيين تشكّل أقوى تحدٍّ لخيارات الولايات المتحدة العسكرية في منطقةٍ حيوية.
كذلك أشارت الدراسة إلى معطى تعتبره قويا لصالح الصين هو التماسك الداخلي للصين والتماسك السياسي القوي كما أنها تلعب دورا أساسيا في التجارة والمالية العالمية. بالإضافة إلى ذلك، هي تملك خيارات إرغامٍ خاصة بها، مثل قدراتها في المجال الإلكترونيّ وحيازتها لديونٍ أمريكية. ووضعت الدراسة في الإعتبار احتمال رد الدول على أمريكا بالمثل، والتصعيد، لا سيما أن تلك البلدان أصحاب «قوة حربية فى المجال الإلكترونى» كما هو الحال بالنسبة لروسيا والصين.
فالولايات المتحدة الأمريكية تطورت وسائل الدفاع لديها باستخدام قوى غير عسكرية لمعاقبة وإضعاف من يعترض مصالحها وآمنها وسلامتها ضمن خيارها الأمني ومشروعها “الأمن الصلب” وذلك بالحفاظ على سلامة وقوة جيشها، وفي نفس الوقت السيطرة على العالم باستخدام القوة الناعمة و”قوة الارغام” مما يمكّن الإدارة الأمريكية من الإنتصار وتحقيق أهدافها دون أن تطلق رصاصة واحدة أو يقتل جندي لديها.
وتكشف الدراسة أن الولايات المتحدة أصبحت تواجه الدول التي تعارض سياساتها ومصالحها من خلال حروب المعلومات والجيل الرابع والحروب الإقتصادية، التي تمثل أكثر ضرراً وأقل كلفة من الحروب العسكرية.
وأسبحت السياسة الدولية الجديدة للأمريكان واضحة للعيان ولم تعد تخفى عن المسؤولين وصناع القرار الدولي باعتبار أن أكثر الخيارات المتاحة لأمريكا لإرغام الدول لتحقيق ما تريده، هي العقوبات المالية والإقتصادية بدرجات متفاوتة وحادة، وكذلك الخيار الأكثر دمارا للبلدان هو زعزعة الأمن الداخلي و ذلك بدعم المعارضة السياسية اللاعنفية لأنظمة الحكم المعادية لها، والعمليات الهجومية الإلكترونية.
ومن الملفت للنظر وما يطبق اليوم في الدول العربية بصفة عامة هو الدعم الأمريكي للمعارضة التي تحمل شعارات الديمقراطية وهذا الدعم يحمل قدرة كبيرة على الإشعار بالتهديد، وتمثل لها سطوة قوية، من خلال وسائل التواصل الإجتماعي والإعلام العالمي، والحركات المحلية، وأنصارها الخارجيين، وقد أبدت الدراسة الصادرة في سنة 2016 عن “منظمة راند” تخوفا من فشل التجربة “قوة الإرغام” في بعض البلدان،إذ ورد فيها ما يلي: « فى الوقت عينه تشير التطورات الأخيرة إلى أن خطر حدوث قمع أو فوضى قد يكون احتماله كبيراً، مما يستدعى استخداماً رشيداً لتلك الأداة للإرغام»، وتشدد الدراسة على أن «العمليات الهجومية الإلكترونية» إذا تم توجيهها بمهارة نحو هدف ما، فبمقدورها زعزعة أداء وثقة الدول والأسواق، وبالتالي تحمل قيمة إرغامية لتنفيذ ما تريده الولايات المتحدة.. وعلى ما يبدو فإن هذه السياسة “قوة الإرغام” ناجحة في البلدان العربية وكذلك في بعض الدول الغربية والأوروبية.
وأضحت الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن قدرات دفاعية متطورة لكن غير عسكرية، وقد أشارت الدراسة إلى أن الأمركيين قد خاضوا حروبا كبرى كانت حاسمة وناجحة بأقل الأضرار لكن الشعب الأمريكي والجيش الأمريكي لم يعد يرضى بأية خسائر وهو القوة العظمى في العالم. وأضافت الدراسة أن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية لـ«الأعداء المحتملين» بدأت تضرب فعالية القدرة الهجومية الأمريكية، بالرغم من التفوق العسكري الأمريكي وهذا بالطبع غير مقبول عند الأمركيين وأصبح يشكل عندهم تحفظا كبيرا من أجل الحفاظ على موقعهم كقوة عالمية تحكم العالم، لذا جاء التفكير في الظروف التي تبرر خيار القوة غير العسكرية، ووسائل الحنكة السياسية لأمريكا لـ«الإرغام»، وإجبار الدول غير الصديقة على الإمتثال لـ«الرغبات الأمريكية»، موضحةً أن الأعداء المحتملين لأمريكا هم الصين، وروسيا، وإيران.
وتستطرد الدراسة بأن الولايات المتحدة الأمريكية قد نجحت في تغيير أنظمة وتدخلت في صراعات كبرى محلية ودمرت دولا “عدوة”باعتبار أن أمريكا تمتلك القوة الكافية لتدمير كل “القوى المعادية لها لكن يجب في البداية تنفيذ هجمات كثيفة في عمق أراضى”العدو”بأساليب “قوة الإرغام”، ما يرفع خطر التصعيد، وهو ما ينطبق على الصين، وروسيا، لامتلاكهما أسلحة نووية. كما جاء في الدراسة أنه «بعد أن أمضت الولايات المتحدة من الـ15 إلى 25 عاماً السابقة فى الحروب، فإنها تواجه ضغطاً لتقليص الإعتماد على القوة فى سبيل حماية مصالحها، والنهوض بمسئولياتها، والتصدى للتهديدات، والمحافظة على النظام، كما تواجه ضغطاً باتجاه تخفيف العبء من الحاجة للدفاع للوفاء بحاجات محلية ملحة». ويمكن أن توفر الولايات المتحدة المناخ الذي يناسب مصالحها بالنسبة لإرغام العدو على الخضوع لها بأساليب ناعمة من دون اللجوء إلى القوة العسكرية مثل التهديد باستخدام القوة، أو تنظيم «عزل دولى» أو إلحاق الأذى الإقتصاى، أو دعم المعارضة المحلية، والتأثير على وسائل الإعلام، وتشكيل التصورات،و«لىّ الذراع بالوسائل الدبلوماسية»، والتفاوض. فالقوة الناعمة تعتمد على التأثير، والمؤسسات، والمساعدة الإقتصادية، والترويج للديمقراطية، والتبادل الثقافي، ونشر الأفكار، وهي أمور تشجع المجتمعات الأخرى على أن تصبح أكثر شبهاً بـ«أمريكا» أو تصبح على الأقل محبة لها بدرجة أكبر وتترك مشاعر الكراهية للأمريكان واستهدافهم بشعارات معادية أو قتلهم.
وتشير الدراسة إلى أن كل الدول وخاصة الأعداء والخصوم قابلة للإختراق وبذلك يجب مساندة الخصوم أو المعارضة،والمواجهة العسكرية إن اقتضى الأمر، بالوكالة. فمساندة خصوم العدو هي ثاني آليات “قوة الإرغام”،وقد أشارت الدراسة إلى أن الولايات المتحدة: «تملك وسائل متنوعة، تمكنها من تقوية ومساندة الدول والمجموعات التي تعارض أعداءها. يمكنها لهذا الغرض تقديم المساعدة غير العسكرية أو العسكرية، وإن كان يمكن اعتبار الأخيرة الأكثر استخداماً للقوة الصلبة بالوكالة»… «أن أعظم نفوذ إرغامي قد يأتي من جهة طرح تهديد للسلطة السياسية أو حتى لاستمرارية نظام يتحدى المصالح الأمريكية».. كما قالت الدراسة إن «الحركات المؤيّدة للديمقراطية بدأت بالظهور بصورة مفاجئة، وتواتر، ويعود السبب فى ذلك بشكل جزئي إلى الوسائل الحديثة للتواصل الإجتماعى، والتنظيم السياسي». وتابعت الدراسة : «تُظهر أبحاث جديدة تغطي القرن الماضي أن الحركات اللاعنفية ذات القاعدة العريضة وحسنة التخطيط، تتمتع بفرصة مضاعفة بسوق الأمور نحو نتائج ديمقراطية مستقرة، بالمقارنة مع الحركات العنيفة». و بالنسبة لوسيلة التحريض الداخلي جاء في الدراسة «رغم أن التنظيم على المستوى المحلي، والإحتجاجات، والإضرابات، والإنشقاقات عن النظام الحاكم، وغيرها من أشكال المقاومة مهمة أكثر من الدعم الخارجى، فمن الصحيح أيضاً أن الدعم الخارجي لحركات المعارضة اللاعنفية، من المرجح أن يؤدي إلى نتائج أفضل من تلك التي يؤدي إليها دعم الحركات العنيفة».
واستطردت الدراسة في جزئها الأخير «على أي حال، عند التدخّل فى الديناميكيات الداخلية للدول والمجتمعات الأخرى، إن كان هذا الأمر مبرراً أم لا، يجب أن تدرك الولايات المتحدة حدود قدرتها على التحكم بالنتائج». وقالت الدراسة: «في وقت تعتمد فيه الإنتفاضات اللاعنفية على المساندة الخارجية بشكل أقل من الإنتفاضات العنيفة، هناك الكثير مما يمكن للولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات المقتدرة والمهتمة أن تفعله للمساعدة، وتقديم الدعم المالى للصحافة الحرة، وتحصيل اهتمام وسائل الإعلام العالمية، والتنديد بوحشية النظام، والتأثير على النخب الساخطة، وتسهيل استخدام وسائل التواصل الإجتماعى، والزجر عن استخدام العنف، وهو أمر مثير للإهتمام، وكلها وسائل فائدتها معروفة» وهذا ما تطبقه بحذافيره السياسة الخارجية الأمريكية على البلدان العربية.
كما جاء في الدراسة «مع تحول المعلومات إلى أمر واسع الانتشار، وعولمة وسائل الإعلام، أصبحت المجتمعات أكثر قدرة على التواصل حتى استخدام الوسائل الأحدث، وأصبحت معظم الدول قابلة للإاختراق، باستثناء الأكثر عزلة من بينها، وفي هذه الظروف ستتوسع الفرص للتأثير على السياسة في الخارج». وتابعت: «إن دعم المعارضة الداخلية هو أداة تقليدية تستخدمها المجموعة الإستخباراتية، والقصد من استخدامها هو أنه يمكن إنكارها، ليس فقط بسبب أن العمليات الإستخباراتية، يتم في العادة إنكارها، ولكن أيضاً لأن حركة المعارضة تفقد مصداقيتها إن حصل ربط بينها وبين وكالة الإستخبارات المركزية (CIA)، والإستخبارات العسكرية البريطانية (MI6)».
وفي ما يتعلق بالعمليات الإلكترونية تعتبر الدراسة أن هذه الآلية هي الأسهل بالنسبة لوكالة الأمن القومى الأمريكي وهي بارعة في تنفيذ تحركات هجومية.
وثالث وسائل الإرغام هي العمليات الهجومية الإلكترونية، وجاء في الدراسة أن : «الولايات المتحدة قوة إلكترونية عظمى، فما زالت حتى اليوم هي من يخترع معظم التكنولوجيات التي تنشط وتوسع هذا المجال، وأنها من توفر أكثر المحتويات سواء المعلومات، أو التطبيقات، أو الترفيه، أو الأخبار، أو النقاش، أو التواصل الإجتماعي، والأفكار»، وأضافت: «تفضل الولايات المتحدة أن يبقى محور الفضاء الإلكتروني، وهو الإنترنت، مفتوحاً وآمناً، كما أن الولايات المتحدة لا يعلى عليها في القدرة على المراقبة والدفاع والتحرك الهجومي، في هذا المجال، مع أن غالبية القدرة الإلكترونية الأمريكية تقع خارج الحكومة وسيطرتها، إلا أن وكالة الأمن القومي الأمريكية تملك قدرات تقنية وتشغيلية مهمة، تتضمن تكنولوجيا ووسائل متطورة فى مجال الأمن الإلكتروني، بالإضافة إلى القدرة على تنفيذ تحركات هجومية».
وتابعت: «بالرغم من امتلاكها هذه القدرات، فإن حكومة الولايات المتحدة تحترس من شن حرب إلكترونية»، وواصلت: «على المستوى العسكرى التكتيكي، يفترض أن الحرب الإلكترونية جزء لا يتجزأ من القتال، ويتم التخطيط لها على هذا الأساس، لكن الولايات المتحدة تنفر بشدة من الحرب الإلكترونية على المستوى الإستراتيجي، حيث يمكن أن تتعرض بنيتها التحتية الرئيسية واقتصادها لضرر كبير، حتى وإن كان ضرراً مؤقتاً، فهى توافق على الفكرة القائلة بأن حرباً إلكترونيةً شاملة لن يربح فيها أحد».
وأوضحت أن «هذا التباعد يزيد فى حدته غياب الثقة الكاملة بالتمكن من تفادى الرد، والتحكم بالتصعيد من مستوى الحرب الإلكترونية التكتيكية إلى مستوى الحرب الإلكترونية الإستراتيجية». واستطردت: «العمليات الهجومية الإلكترونية أقل عنفاً من القوة المادية، ولكنها هدامة أكثر من العقوبات المالية، وعلى سبيل المثال، بوسع هذه العمليات أن تسمح للولايات المتحدة بالحط من قوة الأعداء العسكرية، وأنظمتهم الإاستخباراتية، والشبكات الحساسة للمعلومات الحكومية والمدنية لديهم، التي تتحدى مصالح الولايات المتحدة ومسئولياتها…وقد تكون كلفة تنفيذ عمليات هجومية إلكترونية ضئيلة جداً، ولكن كلفة التداعيات الإقتصادية يمكن أن تكون جسيمة».
إذن، السياسة التي تتوخاها الولايات المتحدة الأمريكية النتائج فيها غير مضمونة ولكن في نفس الوقت يمكن أن تكون باهرة وذلك بالإعتماد على براعة من يقوم بعملية الإرغام، ومدى ضعف المستهدف، وقد جاء في الدراسة أن «هذه الأدوات قادرة على ليّ السياسات، وكسر الإرادات، أو إرخاء قبضة الدول المعنية على زمام السلطة»، موضحة أن القدرات الإستخباراتية الأمريكية تؤثر على عملية صنع القرار لدى الأصدقاء والأعداء على السواء. وقالت الدراسة «تستطيع القدرة على الإرغام أن تقدم النتائج المترتبة على النصر دون اللجوء للعنف، ولكنها تستطيع أن تفعل ما هو أبعد من الإرغام، وعلى سبيل المثال الإطاحة بنظام حكم محارب، بدلاً من الإكتفاء بالضغط عليه ليصبح أكثر اعتدالاً».