أخبار العالمأنشطة المركزإفريقيابحوث ودراسات

تونس والجزائر: تقدير موقف وبناء مقاربة لتحصين الجبهة الداخلية في بيئة تهديد هجينة

نظّم المركز الدولي للدراسات الاستراتجية الأمنية والعسكرية عشية يوم أمس الاربعاء  24 ديسمبر 2025 ورشة عمل تحت عنوان:

“نحو استراتجية جزائرية – تونسية مشتركة لتعزيز الجبهتين الداخليتين” بمقر المركز الدولي وقد أدارت الجلسة رئيسة المركز الدكتورة بدرة قعلول

وكانت اشكالية الورشة تتمحور حول: 

1- استراتجية الشراكات بين تونس والجزائر من اجل تحصين الجبهتين الداخليتين من المخططات التي تحاك ضد الدولتين.

2- كيف يمكن تصور هندسة أمنية-إقتصادية- سياسية- مجتمعية جزائرية تونسية في ظل التهديدات الجيوسياسية التي تحيط بالبلدين من الداخل والخارج؟

كما حضر ثلة من المفكرين والباحثين من الجزائر وتونس وتم عرض أهم المشاكل التي تعترض المنطقة الاقليمية والرهانات والتحديات التي تعترض الجزائر وتونس.

مداخلة الدكتور أحمد ميزاب من الجزائر

تشهد البيئة الإقليمية في شمال إفريقيا مرحلة ضغط مركب، لا يستهدف الأنظمة السياسية بوصفها هياكل حكم فحسب، بل يركّز بصورة أعمق على تماسك الدولة من الداخل وقدرتها على الصمود النفسي والاجتماعي والإدراكي. في هذا السياق، تبرز تونس بوصفها حلقة تماس حساسة في شرق الجزائر، بينما تُعدّ الجزائر هدفًا استراتيجيًا طويل المدى ضمن معادلات إقليمية ودولية أوسع.

لا يتعلق الأمر بحرب تقليدية، ولا بانقلابات مباشرة، بل بنمط جديد من الضغط المتدرج يعمل في المنطقة الرمادية بين السلم والصراع، ويستهدف إنهاك الدولة من الداخل دون تحمل كلفة المواجهة الصريحة.

ينطلق هذا المقال من سؤال مركزي:

هل نحن أمام مسار اختراق ناعم يقود إلى إنهاك داخلي متدرج؟ أم أمام تحضير مسرح عمليات غير تقليدي متعدد الأدوات؟

أولا/ طبيعة التهديد- من الصدمة الى الاستنزاف

لم يعد التهديد الذي تواجهه الدول في بيئتها الإقليمية يقوم على منطق الصدمة المباشرة أو الضربة الحاسمة، كما كان سائداً في الحروب التقليدية، حيث تُحسم المواجهة عبر قوة نارية مركّزة أو حدث أمني كبير يُربك الدولة ويفرض عليها واقعاً جديداً. التهديد الحالي ينتمي إلى نمط مختلف، أكثر تعقيداً وأطول نفساً، يقوم على الاستنزاف المتدرج بدل الصدمة، وعلى إضعاف الداخل بدل كسر الجبهة العسكرية.

التحول في فلسفة الصراع

في الصدمة، يكون الهدف إرباك الدولة بسرعة، دفعها إلى رد فعل متسرع، أو إسقاطها سياسياً أو عسكرياً في زمن قصير. أما في نمط الاستنزاف، فالهدف ليس إسقاط الدولة، بل إبقاؤها في حالة إنهاك دائم، تستهلك طاقتها في إدارة الأزمات الداخلية، وتفقد تدريجياً قدرتها على المبادرة الاستراتيجية.

هذا التحول يعكس إدراكاً لدى الفاعلين بأن:

  • المواجهة المباشرة مكلفة.
  • الصدمة قد توحّد المجتمع بدل تفكيكه.
  • الدولة التي تتعرض لضربة مفاجئة قد تتماسك مؤقتاً.

لذلك يُفضَّل نمط يعمل ببطء، من دون إعلان عداء، ومن دون خطوط تماس واضحة.

خصائص التهديد الاستنزافي

التهديد القائم على الاستنزاف يتميز بعدة خصائص أساسية:

  • غير معلن: لا توجد جهة تعلن مسؤوليتها أو تعترف بالصراع.
  • غير متماثل: أدواته ليست عسكرية في الأساس.
  • متدرج: يتراكم تأثيره مع الزمن.
  • إدراكي الطابع: يستهدف الوعي والثقة قبل المؤسسات.

هو تهديد لا يقاس بعدد الضحايا أو حجم الدمار، بل بمؤشرات أقل وضوحاً: تراجع الثقة، انتشار الإحباط، تصاعد الشك، وتآكل الانسجام الاجتماعي.

أدوات الاستنزاف

يعتمد هذا النمط من التهديد على حزمة أدوات متداخلة، تُستخدم بشكل متزامن أو متعاقب، من بينها:

  • عمليات نفسية تُضخّم الإحساس بالأزمة وتحوّلها إلى حالة دائمة.
  • حرب معلومات تقوم على التشكيك والتضليل وانتقاء الوقائع.
  • اختراق إدراكي للرأي العام عبر تكرار سرديات محددة.
  • تسييس الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وتحويلها من مطالب قابلة للحل إلى صراعات مفتوحة.
  • ضرب الرموز والمؤسسات بدل السياسات، لإضعاف الشرعية المعنوية.

هذه الأدوات لا تعمل منفردة، بل كمنظومة ضغط متكاملة.

نمط العمل- الضغط بدل المواجهة

في هذا النوع من الصراع:

  • لا توجد مواجهة مباشرة مع الدولة.
  • لا تُستهدف الأجهزة الأمنية في البداية.
  • يُترك المجال للمجتمع كي يستهلك نفسه بنفسه.

يتم خلق حالة تشبع أزمات تجعل المواطن يشعر بأن كل شيء مختل في آن واحد، وأن الدولة عاجزة عن الحل، حتى وإن كانت قادرة موضوعياً. مع الوقت، يتحول هذا الإحساس إلى قبول ضمني بالانهيار أو اللامبالاة أو البحث عن بدائل خارج الإطار الوطني.

أثر الاستنزاف على الدولة

الخطر الحقيقي لهذا النمط من التهديد لا يكمن في إسقاط الدولة فوراً، بل في:

  • إضعاف قدرتها على اتخاذ القرار.
  • استنزاف رصيدها المعنوي.
  • تحويلها إلى كيان دفاعي دائم، مشغول بردّ الفعل.
  • تفكيك العلاقة بين المواطن والمؤسسة.

وهنا تكمن المفارقة: قد تبدو الدولة مستقرة ظاهرياً، لكن قدرتها الداخلية على الصمود تكون في تراجع مستمر.

الانتقال من منطق الصدمة إلى منطق الاستنزاف يعني أن الصراع لم يعد يُخاض على خطوط الجبهة، بل داخل المجتمع نفسه. الدولة التي تفهم هذا التحول مبكراً تستطيع التحصين والاحتواء، أما الدولة التي تنتظر الحدث الصادم، فإنها غالباً ما تكون قد خسرت المعركة الإدراكية قبل أن تدرك أنها بدأت.

ثانيا/ تونس كساحة تماس وفضاء اختبار

لا يمكن فهم موقع تونس في المشهد الإقليمي الراهن باعتبارها مجرد دولة تعيش أزمة داخلية معزولة عن محيطها، بل يجب قراءتها ضمن منطق أوسع يجعل منها ساحة تماس استراتيجية وفضاء اختبار مبكر لأنماط ضغط غير تقليدية تُستخدم لاحقًا في بيئات أكثر تعقيدًا وكلفة.

تونس، في هذا السياق، لا تُستهدف لذاتها بقدر ما تُستعمل بوصفها حلقة وسيطة بين الداخل التونسي والعمق الجزائري، وبين شمال إفريقيا ودوائر التأثير الخارجية.

موقع تونس في الحسابات الاقليمية

تمثل تونس عمقًا استراتيجيًا شرقيًا للجزائر، وحدودها ليست مجرد خطوط جغرافية، بل مجال تفاعل اجتماعي واقتصادي وأمني. أي اهتزاز داخلي في تونس لا يبقى محصورًا داخلها، بل يُنتج تأثيرات متدرجة تمتد نحو الجزائر، سواء عبر:

  • الضغط النفسي والإعلامي.
  • حركة الأفراد والشبكات.
  • تدفقات اقتصادية غير رسمية.
  • انتقال السرديات والمزاج العام.

هذا الترابط يجعل من تونس بيئة مناسبة لتجريب أدوات الضغط غير المباشر، قبل توسيع نطاق استخدامها.

من دولة جارة الى ساحة تماس

في نمط الصراع الهجين، لا تُستخدم الجيوش لفتح جبهات، بل تُستخدم الأزمات لخلق مناطق تماس إدراكي وسياسي. تونس، بحكم وضعها الحالي، تتحول تدريجيًا من دولة جارة إلى ساحة تماس منخفضة الكلفة، حيث يمكن:

  • اختبار ردود فعل الدولة.
  • قياس قابلية المجتمع للتعبئة.
  • رصد تفاعل النخب والإعلام.
  • تعديل الأدوات وفق النتائج.

هذا التحول لا يعني فقدان تونس لسيادتها، بل يعني أن أزماتها تصبح مادة تشغيل ضمن صراع إقليمي أوسع.

مؤشرات الهشاشة القابلة للتوظيف

تعاني تونس من مجموعة هشاشات بنيوية لا تشكل بحد ذاتها تهديدًا وجوديًا، لكنها تصبح خطرة حين تُستثمر خارج سياقها الطبيعي، من بينها:

  • تراجع الثقة بين الدولة وشرائح واسعة من المجتمع.
  • استقطاب سياسي حاد يضعف الوسيط الوطني.
  • هشاشة اقتصادية قابلة للتضخيم الإعلامي.
  • فراغ في الخطاب الجامع.
  • قابلية عالية للتعبئة السريعة عبر المنصات الرقمية.

هذه العناصر تُستخدم ليس لإسقاط الدولة، بل لإبقائها في حالة توتر دائم.

وظيفة الاختبار في الصراع الهجين

تُقرأ تونس في بعض دوائر التحليل كـ“مختبر عمليات” يُختبر فيه:

  • مدى فعالية الحملات النفسية.
  • سرعة انتشار السرديات.
  • قدرة الدولة على الضبط دون القمع.
  • حدود التحمل الاجتماعي.

النجاح في هذا الفضاء يسهّل نقل النموذج إلى بيئات أكثر حساسية، بينما الفشل يؤدي إلى تعديل الأدوات لا التخلي عنها.

الخطر الاستراتيجي على الجزائر

الخطر الحقيقي لا يكمن في انهيار تونس، بل في تحويلها إلى منصة ضغط عملياتي غير مباشر على الجزائر، حيث تُستخدم:

  • الفوضى الإدراكية لتشويه الصورة.
  • الأزمات لتغذية خطاب العدوى.
  • الحدود كمساحة تسرب نفسي وإعلامي قبل أن تكون أمنية.

بهذا المعنى، تصبح حماية تونس من الانزلاق جزءًا من تحصين الجبهة الداخلية الجزائرية، وليس مجرد تعبير عن تضامن سياسي.

تونس اليوم ليست ساحة صراع معلن، بل ساحة تماس هادئة تُدار فيها معركة الإدراك والتجريب. من يفهم هذا الدور مبكرًا، يدرك أن تحصينها واستقرارها ليس شأنًا تونسيًا خالصًا، بل عنصرًا أساسيًا في معادلة الأمن القومي المغاربي، وفي مقدمتها الأمن الجزائري.

ثالثا/ الجزائر كهدف مركزي

لا تُدرج الجزائر في الحسابات الإقليمية والدولية الراهنة بوصفها ساحة اضطراب داخلي أو دولة هامشية قابلة للضغط السريع، بل تُصنَّف باعتبارها هدفًا مركزيًا طويل المدى في معادلات إعادة تشكيل التوازنات في شمال إفريقيا والساحل الإفريقي. هذا التصنيف لا يرتبط بأزمة ظرفية، وإنما بموقع بنيوي ودور استراتيجي متراكم.

لماذا الجزائر؟

تُعدّ الجزائر دولة ذات وزن خاص لعدة اعتبارات متداخلة:

  • امتلاكها قرارًا سياديًا مستقلًا نسبيًا عن محاور الاصطفاف.
  • حضورها الإقليمي الفاعل في شمال إفريقيا والساحل.
  • دورها الإفريقي المتنامي سياسيًا وأمنيًا.
  • مواقفها الثابتة من قضايا الصراع الإقليمي والدولي.
  • امتلاكها قدرات صمود تاريخية وتجربة أمنية متراكمة.

هذه العناصر تجعل من الجزائر عقدة استراتيجية؛ أي أن تحييدها أو إنهاكها ينعكس مباشرة على توازن الإقليم، بينما فشل الضغط عليها يربك مسارات متعددة.

من الاستهداف المباشر إلى الاستنزاف الغير معلن

الاستهداف المباشر للجزائر يحمل كلفة عالية ومخاطر غير محسوبة، سواء عسكريًا أو سياسيًا أو دبلوماسيًا. لذلك، يُلاحظ اعتماد نمط بديل يقوم على:

  • الضغط غير المعلن.
  • العمل المتدرج.
  • تفكيك عناصر القوة من الداخل بدل ضربها من الخارج.

الغاية هنا ليست المواجهة، بل إبطاء الدولة، إنهاكها، وإبقاؤها في حالة دفاع دائم.

مجالات التركيز في الاستهداف

يركز نمط الضغط الحالي على مساحات حساسة لا تُصنف تقليديًا كجبهات صراع، من بينها:

  • الجبهة الاجتماعية، عبر تضخيم الإحساس بالهشاشة.
  • الوعي الجمعي، من خلال ضرب الثقة في المستقبل.
  • النخبة الإعلامية والثقافية، بإحداث انقسام في الخطاب.
  • الفضاء الرقمي، كأداة تعبئة وتوجيه غير مرئية.
  • الاقتصاد الموازي، بما يحمله من قابلية للاختراق والتوظيف.

هذه المجالات تُستهدف لأنها تمثل الحلقة الأضعف في مواجهة الدولة، ولأن أثرها تراكمي وبعيد عن الضبط الأمني التقليدي.

ضرب الثقة بدل كسر الدولة

في هذا النمط من الصراع، لا تُستهدف مؤسسات الدولة الصلبة في البداية، بل تُستهدف ثقة المواطن في تلك المؤسسات. يتم ذلك عبر:

  • تشويه الصورة لا إسقاط النظام.
  • ضرب الرموز لا السياسات.
  • خلق إحساس دائم بأن الدولة عاجزة، حتى عندما تنجح.

مع مرور الوقت، تتحول فجوة الثقة إلى عبء استراتيجي يحدّ من قدرة الدولة على اتخاذ القرار، ويجعل أي إجراء، مهما كان ضروريًا، محل تشكيك.

الهدف النهائي- كسر المناعة الداخلية

الهدف المركزي من هذا النمط من الضغط ليس تغيير النظام بالقوة، بل كسر المناعة الداخلية للدولة، أي:

  • إضعاف التماسك الاجتماعي.
  • تفكيك الانسجام بين الدولة والنخب.
  • إنهاك الرصيد المعنوي الوطني.
  • تحويل الاستقرار إلى حالة هشة قابلة للارتداد.

كل ذلك يتم دون مواجهة عسكرية، ودون تحمّل كلفة صدام مباشر.

الجزائر تُستهدف اليوم لأنها قوية، لا لأنها ضعيفة. استهدافها يتم بصبر استراتيجي، وبأدوات غير صاخبة، تراهن على الزمن أكثر مما تراهن على الحدث. الدولة التي تدرك هذا النمط من التهديد، لا تبحث عن معركة وهمية، بل تركز على تحصين جبهتها الداخلية، وحماية ثقة مواطنيها، وإدارة الإدراك قبل أن يتحول الضغط المتدرج إلى أزمة مفتوحة.

رابعا/ الجبهة الداخلية- تعريف عملي

يشيع في كثير من المقاربات اختزال مفهوم الجبهة الداخلية في بعدها الأمني الضيق، وربطها حصريًا بالأجهزة الأمنية أو بقدرة الدولة على الضبط والسيطرة. غير أن هذا الفهم لم يعد صالحًا في سياق التهديدات المعاصرة، خاصة تلك التي تنتمي إلى نمط الصراع الهجين وحروب الاستنزاف غير المعلنة. الجبهة الداخلية، في تعريفها العملي، هي منظومة صمود شاملة، يتقاطع فيها البعد السياسي مع الاجتماعي، والإعلامي مع النفسي، والاقتصادي مع الإدراكي.

الجبهة الداخلية كحالة لا كجهاز

الجبهة الداخلية ليست مؤسسة قائمة بذاتها، ولا جهازًا يمكن عزله أو مراقبته تقنيًا، بل هي حالة عامة تعكس مستوى تماسك الدولة من الداخل. تُقاس هذه الحالة بدرجة:

  • ثقة المواطن في مؤسسات الدولة.
  • شعوره بالانتماء والعدالة.
  • قدرته على التمييز بين النقد المشروع والاستهداف المنهجي.
  • استعداده لتحمّل الضغوط دون الانزلاق إلى الفوضى.

كلما كانت هذه المؤشرات مستقرة، كانت الجبهة الداخلية قوية، حتى في ظل أزمات موضوعية.

تتكوّن الجبهة الداخلية من عدة دوائر متداخلة:

  • الوعي الجمعي: الصورة الذهنية التي يحملها المجتمع عن ذاته وعن دولته.
  • النسيج الاجتماعي: مستوى التضامن والتماسك بين الفئات.
  • النخبة الوطنية: السياسية، الإعلامية، الأكاديمية، والدينية.
  • الخطاب الرسمي: صدقيته، اتساقه، وقدرته على الإقناع.
  • العدالة الاجتماعية والاقتصادية: باعتبارها صمام أمان نفسي قبل أن تكون مؤشرًا تنمويًا.

أي خلل في إحدى هذه الدوائر ينعكس مباشرة على باقي المكونات.

الجبهة الداخلية في مواجهة التهديد الهجين

في سياق التهديد الهجين، تصبح الجبهة الداخلية ساحة الصراع الأساسية. لا تُستهدف عبر العنف المباشر، بل عبر:

  • ضرب الثقة بدل ضرب المؤسسات.
  • نشر الإحباط بدل خلق مواجهة.
  • تفكيك السردية الوطنية الجامعة.
  • خلق شعور دائم بالأزمة والعجز.

الهدف ليس دفع المجتمع إلى الثورة، بل دفعه إلى الإنهاك وفقدان المناعة.

الفارق بين القوة الظاهرة والمناعة الداخلية

قد تمتلك الدولة جيشًا قويًا وأجهزة فعالة، ومع ذلك تكون جبهتها الداخلية هشة إذا:

  • انقطعت الثقة بينها وبين المجتمع.
  • فقد الخطاب الرسمي مصداقيته.
  • شعرت النخب بالتهميش أو القطيعة.

في هذه الحالة، تبقى الدولة قائمة شكليًا، لكنها تصبح عرضة للاختراق الإدراكي والضغط المتدرج.

الوقاية قبل الرد

تحصين الجبهة الداخلية لا يعني القمع، ولا عسكرة المجتمع، ولا إسكات الأصوات الناقدة. بل يقوم على:

  • الفهم المبكر للمزاج العام.
  • احتواء الغضب قبل انفجاره.
  • إدارة الاختلاف داخل الإطار الوطني.
  • بناء الثقة كأصل استراتيجي.

الدولة التي تنتظر الأزمة لتتحرك، تكون قد خسرت جزءًا من جبهتها الداخلية بالفعل.

الجبهة الداخلية، في معناها العملي، هي الحد الفاصل بين الدولة القادرة على الصمود والدولة القابلة للاستنزاف. هي ليست خط دفاع أخير، بل خط دفاع أول. وكل استراتيجية أمن قومي لا تضع تحصين الجبهة الداخلية في قلبها، تبقى استراتيجية ناقصة مهما بلغت قوتها العسكرية.

خامسا/ مقاربة استراتيجية لتحصين الجبهة الداخلية

لم يعد تحصين الجبهة الداخلية خيارًا ظرفيًا يُفعَّل عند الأزمات، بل أصبح مسارًا استراتيجيًا دائمًا في ظل بيئة تهديد هجينة تقوم على الاستنزاف، وضرب الثقة، وإرباك الوعي الجمعي. هذه المقاربة لا تُبنى على منطق الردّ الأمني وحده، وإنما على إدارة متكاملة للسياسة، والإعلام، والمجتمع، والإدراك العام.

الوقاية قبل الاحتواء

تنطلق المقاربة الاستراتيجية من مبدأ أساسي مفاده أن الدولة التي تنتظر تحوّل التوتر إلى أزمة، تتحرك متأخرة. لذلك، يكون التحصين:

  • استباقيًا لا ردّ فعليًا.
  • وقائيًا لا عقابيًا.
  • قائمًا على الفهم لا على القمع.

التحصين هنا يعني تقليص قابلية المجتمع للاختراق، وليس إنكار وجود المشكلات أو تأجيل معالجتها.

المستوى الاستخباراتي- المعرفي

يُعد هذا المستوى حجر الأساس في تحصين الجبهة الداخلية، ويقوم على:

  • دمج التحليل الأمني بالتحليل السياسي والاجتماعي.
  • الانتقال من مراقبة الأحداث إلى رصد الاتجاهات.
  • تحليل الشبكات المؤثرة بدل الاكتفاء بتتبع الأفراد.
  • تفكيك السرديات المعادية وفهم منطق انتشارها.

الهدف ليس جمع المعلومات فقط، بل تحويلها إلى معرفة قابلة للاستخدام الاستراتيجي.

المستوى النفسي- المعلوماتي

في الصراع الهجين، تصبح المعلومة سلاحًا، ويصبح الرأي العام ساحة عمليات. وعليه، يتطلب التحصين:

  • بناء سردية دولة واضحة، واقعية، وغير متناقضة.
  • استباق الروايات المعادية بدل الاكتفاء بنفيها.
  • إدارة الأزمات إعلاميًا قبل أن تتحول إلى أزمات ثقة.
  • تحييد الشائعات عبر السرعة والشفافية النسبية.

الدولة التي تترك فراغًا سرديًا، تملؤه جهات أخرى.

المستوى الاجتماعي

الهشاشة الاجتماعية هي المدخل الأكثر استخدامًا في استهداف الجبهة الداخلية. لذلك، يتطلب التحصين:

  • رصد بؤر التوتر الاجتماعي مبكرًا.
  • احتواء المطالب المشروعة داخل أطر مؤسسية.
  • تفكيك قابلية التعبئة السريعة غير المنضبطة.
  • تعزيز آليات الوساطة الاجتماعية بدل كسرها.

الاستقرار لا يُفرض، بل يُبنى عبر إدارة عادلة للتوتر.

المستوى النخبوي

تلعب النخب دورًا مركزيًا في تشكيل الرأي العام، إيجابًا أو سلبًا. ومن ثمّ، يستدعي التحصين:

  • إعادة ربط النخب الوطنية بمسار الدولة.
  • تقليص الفجوة بين النخب والمؤسسات.
  • تحييد النخب القابلة للاختراق دون شيطنتها.
  • صناعة نخب وظيفية للأمن الوطني، لا نخب صدامية.

النخبة المنفصلة تتحول إلى نقطة ضعف استراتيجية.

المستوى الاقتصادي

لا يمكن فصل الأمن الداخلي عن الاقتصاد. فالهشاشة الاقتصادية تُستخدم كرافعة ضغط نفسي واجتماعي. وعليه، يشمل التحصين:

  • تقليص الاقتصاد الموازي تدريجيًا.
  • حماية القدرة الشرائية كعامل استقرار.
  • منع توظيف الأزمات الاقتصادية سياسيًا وإعلاميًا.
  • تعزيز العدالة الاقتصادية بوصفها عنصر ثقة.

الاقتصاد هنا ليس مجرد أرقام، بل عنصر توازن داخلي.

المستوى الإقليمي- التنسيقي

في حالة الجزائر وتونس، لا يمكن تحصين الجبهة الداخلية بمنطق وطني ضيق. بل يتطلب الأمر:

  • تنسيقًا استخباراتيًا عميقًا.
  • تبادلًا مستمرًا لتقدير الموقف.
  • إدارة مشتركة للمخاطر الحدودية.
  • منع تحويل أي دولة إلى منصة ضغط على الأخرى.

الخصم يفكر إقليميًا، وعلى الدولة أن تحصّن إقليميًا.

تحصين الجبهة الداخلية ليس مشروعًا أمنيًا فقط، بل مشروع دولة. هو عملية تراكمية، صامتة في الغالب، لكن نتائجها حاسمة. الدولة التي تستثمر في وعي مجتمعها وثقة مواطنيها، تقلّل كلفة الأمن، وتُحبط الصراع قبل أن يبدأ. أما الدولة التي تؤجل هذا الاستثمار، فتدفع ثمنه مضاعفًا عند أول اختبار حقيقي.

سادسا/ الخطوط الحمراء في إدارة الصراع الهجين

في سياق التهديدات الهجينة وحروب الاستنزاف غير المعلنة، لا تقتصر المخاطر على ما يفعله الخصم، بل تمتد إلى الأخطاء التي قد ترتكبها الدولة نفسها تحت ضغط التوتر أو سوء التقدير. لذلك، يُعد تحديد الخطوط الحمراء عنصرًا أساسيًا في أي مقاربة استراتيجية لتحصين الجبهة الداخلية، ليس بوصفها قيودًا تعطل الفعل، بل باعتبارها ضوابط تمنع الانزلاق إلى المساحات التي يراهن عليها الخصم.

عدم أمننة و عسكرة المجتمع

أول الخطوط الحمراء يتمثل في تحويل المجتمع إلى ساحة أمنية مفتوحة. عسكرة الفضاء الاجتماعي، سواء عبر الحضور الأمني المفرط أو الخطاب التعبوي المستمر، تؤدي إلى:

  • تآكل الثقة بين المواطن والدولة.
  • خلق إحساس بالاستهداف الجماعي.
  • دفع فئات محايدة نحو مواقع التوتر.

في الصراع الهجين، المجتمع هو خط الدفاع الأول، وليس مجال اشتباه دائم.

رفض القمع الأعمى

القمع غير المميَّز لا يضرب الخصم الحقيقي، بل يوسّع دائرة المتضررين، ويمنح السرديات المعادية مادة تشغيل جاهزة. التعامل الأمني الذي لا يفرّق بين:

  • الاحتجاج المشروع،
  • والنشاط التخريبي،
    يفضي إلى نتائج عكسية، ويحوّل الأخطاء الفردية إلى أزمة ثقة عامة.

الخصم في هذا النمط من الصراع يراهن على رد الفعل المفرط أكثر مما يراهن على فعله المباشر.

تجنب الردود الانفعالية

الرد الانفعالي، سواء في الخطاب السياسي أو الإعلامي أو الأمني، يُفقد الدولة ميزتها الأساسية: التحكم. الانفعال:

  • يكشف الارتباك.
  • يعمّق الإحساس بالأزمة.
  • يمنح الخصم القدرة على ضبط الإيقاع.

الدولة الفاعلة لا تُدار بعصب مفتوح، بل ببرود استراتيجي وحساب دقيق للخطوة التالية.

عدم شيطنة المجتمع والنخب

شيطنة المجتمع أو اتهام النخب بالجملة تُعدّ من أخطر الانزلاقات. فالمجتمع ليس كتلة واحدة، والنخب ليست فاعلًا موحدًا. التعميم:

  • يعمّق الانقسام.
  • يدفع فئات واسعة إلى موقع الدفاع أو القطيعة.
  • يفتح المجال أمام الاختراق الخارجي.

في تحصين الجبهة الداخلية، الاحتواء أداة أكثر فاعلية من الإقصاء.

عدم اغلاق المجال العام بشكل كامل

إغلاق المجال العام، سواء الإعلامي أو السياسي أو الاجتماعي، قد يبدو إجراءً ضابطًا على المدى القصير، لكنه:

  • يراكم الاحتقان.
  • يدفع التعبير إلى مسارات غير مرئية.
  • يفقد الدولة أدوات الرصد المبكر.

الفضاء المفتوح المنظَّم أكثر أمانًا من الصمت القسري.

عدم تحويل الأمن الى خطاب تخويف

استخدام الأمن كأداة تخويف دائم يُضعف معناه الحقيقي، ويحوّله من مصدر طمأنينة إلى مصدر قلق. الخطاب الأمني:

  • يجب أن يطمئن لا أن يرهب.
  • يشرح لا أن يهدد.
  • يضبط لا أن يصدم.

الدولة التي تخيف مجتمعها تضعف قدرتها على تعبئته الإيجابية عند الحاجة.

الخطوط الحمراء في إدارة الصراع الهجين ليست علامات ضعف، بل شروط قوة. فهي تمنع الدولة من الوقوع في الفخ الذي يُنصب لها بعناية: فخ الإفراط، والانفعال، وكسر الثقة. في هذا النوع من الصراع، الخصم لا يسعى إلى الانتصار بالقوة، بل إلى دفع الدولة لارتكاب الخطأ. ومن ينجح في تجنب هذا الخطأ، يربح المعركة بصمت.

تُظهر المعطيات المتراكمة أن ما تواجهه كل من تونس والجزائر لا يندرج ضمن منطق الأزمات الظرفية أو الاضطرابات الداخلية المعزولة، بل يقع ضمن نمط صراع جديد يقوم على الضغط المتدرج، والاستنزاف الهادئ، وضرب الجبهة الداخلية دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة. هذا النمط لا يستهدف إسقاط الدولة، بل يسعى إلى إنهاكها من الداخل، وتفكيك ثقة المجتمع في مؤسساته، وإبقائها في حالة دفاع دائم تُضعف قدرتها على المبادرة.

في هذا السياق، تبرز تونس بوصفها ساحة تماس وفضاء اختبار، تُستثمر هشاشتها النسبية لتجريب أدوات الضغط الإدراكي والنفسي، بينما تُصنَّف الجزائر كهدف مركزي طويل المدى، يُراد تحييده أو تحجيم دوره الإقليمي عبر مسارات غير معلنة وأدوات منخفضة الكلفة. هذا الترابط يجعل من أمن الدولتين مسألة مشتركة، لا يمكن إدارتها بمنطق التجزئة أو الفصل بين الداخل والخارج.

لقد بيّن التحليل أن الجبهة الداخلية لم تعد مفهومًا أمنيًا ضيقًا، بل أصبحت منظومة صمود شاملة، قوامها وعي المواطن، وثقته، وتماسك المجتمع، وانسجام النخب، ومصداقية الدولة. ضرب هذه المنظومة لا يتم بالقوة، بل عبر السرديات، والشائعات، وتسييس الأزمات، وتحويل التوترات الاجتماعية إلى أدوات استنزاف طويلة الأمد.

وعليه، فإن تحصين الجبهة الداخلية لا يمكن أن يُبنى على القمع أو العسكرة أو ردود الفعل الانفعالية، بل على مقاربة استراتيجية تقوم على الاستباق، والاحتواء، وإدارة الإدراك، وبناء الثقة بوصفها أصلًا استراتيجيًا لا يقل أهمية عن القدرات العسكرية. كما أن تحديد الخطوط الحمراء في إدارة هذا الصراع يُعدّ شرطًا أساسيًا للحفاظ على توازن الدولة ومنع الخصم من استدراجها إلى أخطاء قاتلة.

في المحصلة، المعركة الحقيقية اليوم ليست على الأرض، بل على الوعي. ليست بين جيوش، بل داخل المجتمعات. ومن ينجح في فهم هذا التحول، وفي بناء أدوات قراءة مبكرة للمزاج العام، وإدارة ذكية للرأي العام، يربح الاستقرار دون حرب، ويُحبط الصراع قبل أن يتحول إلى أزمة مفتوحة. هنا، تحديدًا، يتقرر مستقبل الأمن الوطني، لا في ساحات القتال، بل في قدرة الدولة على تحصين جبهتها الداخلية وحماية تماسكها في زمن الصراعات الرمادية.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق