آسياأخبار العالمبحوث ودراسات

تآكل النفوذ الفرنسي في افريقيا وعودة القوميات الافريقية

صبرين العجرودي

يعود الوجود الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء منذ عام 2013، حيث فرضت الاوضاع الامنية المتدهورة في المنطقة التدخل العسكري الفرنسي لحماية المصالح وتأمين مناطق النفوذ، فاعتمدت عملية “سيرفال” في شمال مالي بداية عام 2013 لتهدئة الاوضاع في العاصمة باماكو التي كادت أن تستحوذ عليها الجماعات الارهابية.

وفي النصف الثاني من عام 2014 تم الاعتماد على عملية “برخان” التي تقوم بدعم القوات المحلية لدول الساحل والصحراء .

غير أن الجهود الفرنسية في محاربة الارهاب لم تحقق ذلك النجاح المأمول في دول الساحل والصحراء، و قوة “برخان” حققت هزائم عديدة في هجوماتها منذ عام 2014  جعل الجماعات الارهابية اليوم أكثر قوة وهيمنة من السنوات الفارطة، وذلك ما يبرر الحملات المحلية القائمة ضد الوجود العسكري الفرنسي، بحيث يقع اتهامها بانها وضعت مصالحها كأولوية مقابل استهتارها في ضمان الامن والاستقرار.

ويمكن الخروج من خلال جملة التصريحات التي ادلى بها “ماكرون” ووزير الخارجية بأن فرنسا تسعى الى لم شمل مختلف الجهود (خاصة منها الاوروبية) في منطقة الساحل والصحراء مع عزمها على رمي أعباء مواجهة الارهاب على قواتها المحلية دون تحملها كامل المسؤولية ويعود ذلك الى ثقل الخسائر المادية والبشرية التي تحملتها فرنسا طيلة السنوات الماضية من تواجدها العسكري، حيث تتحمل سنويا ما يقارب 700 مليون يورو، ويبيّن ذلك سبب سعي فرنسا الى توحيد الجهود بينها وبين الدول الاوروبية الاخرى والولايات المتحدة الامريكية لتأمين منطقة الساحل والصحراء.

انطلقت أزمة الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل من مالي لكنّها لم تقف هناك، وتوجّهت مباشرة الى بوركينا فاسو التي قدّمت للقوات الفرنسية مهلة شهر حتى تغادر العاصمة واغادوغو، فكان للاليزيه الا ان يوافق على الطلب الوطني لبوركينا فاسو.

اذ طالب المجلس العسكري الحاكم  من الطرف الفرنسي مغادرةالبلاد، في اشارة من المتحدث باسم الحكومة جان-ايمانويل ويدراغو  الى انّ القوات الوطنية ستدافع عن البلاد من العمليات الارهابية، بعد قرار بإنهاء الاتفاق العسكري المبرم بين الطرفين في 2018.

وما حدث في مالي كان قد انطبق على بوركينا فاسو في اواخر عام 2022، اذ حدثت  مظاهرات تتطالب بخروج فرنسا من على اراضيهم لفشلهم في مواجهة الانشطة الارهابية لتنظيم القاعدة والدولة الاسلامية في 28 اكتوبر وفي 19 من شهر نوفمبر. انطلقت الاحتجاجات بالأعلام الروسية نحو السفارة الفرنسية فيما اتجه جزء منها نحو كامبوينسين الواقعة في الأطراف الشمالية لواغادوغو اين يتمركز 400 جندي فرنسي في قوة “سابرغ”. وأسفرت هذه المظاهرات عن حرائق قام بها المتظاهرون في السفارة الفرنسية والمعهد الفرنسي الواقع في بوبوديولاسو.

يمكن اعتبار ان هذه التحركات التي قامت في بوركينا فاسو مدفوعة بالدعم الروسي وكانت متمحورة خصوصا حول الحد من النفوذ الفرنسي الذي تطغو عليه المصلحة الخاصة في مقابل فتح الباب للقوات الروسية، خاصّة أمام الفشل المحرز في مواجهة الجماعات الارهابية والذي مثّل الجدار الرئيسي التي اتكئت عليه الاطراف الرافضة للوجود الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء. وامام تزايد العمليات الارهابية  وتنامي عدد المدنيين المنظمين للجماعات المتطرّفة وارتفاع عدد الضحايا، توصّل مراقبون الى انّ الوجود الفرنسي لم يعد له أي داعي وانّ استمرار وجودها في المنطقة ليس من شأنه الاّ ان  يخدم مصالحها وليس مصلحة البلاد.

في هذا السياق، أشارالباحث السياسي الفرنسي “ريمي كارايول” الى انّ فرنسا تدفع ثمن السياسة السيئة التي تعتمدها في الساحل الافريقي، حيث انّها في البداية تحالفت مع منظمات مسلحة محلية (دورها محاربة الجماعات الارهابية) وذلك ما ادّى بدوره الى احتداد المعارك وارتكاب جرائم كثيرة.

واضاف الباحث أنّ “علاقة عمليات فرنسا العسكرية في الساحل والفكر الاستعماري وثيقة، حيث ان المؤسسة العسكرية الفرنسية بنت تصورها للعمليات على إدامة الوجود الفرنسي في المنطقة عبر خلق مشاريع اقتصادية واجتماعية تحبّب الناس بفرنسا والفرنسيين، وتضمن حماية المصالح الفرنسية”، والمقصود بذلك أنّ الفكر الاستعماري الفرنسي لازال يسم سياساتها في القارة الافريقية وانّ بطاقة الدخول هي القضاء على الجماعات الارهابية، كان ذلك بطبيعة الحال بالتوازي مع وسائل اخرى (مشاريع اقتصادية واجتماعية) ضنّت فرنسا أنّها ستجعل منها طرفا مرحّبا به في الساحل الافريقي، الاّ أنّ ذلك لم يعد عليها الاّ بنتائج عكسية جعلت الوجود الفرنسي أمرا مرفوضا من السلطات الوطنية في الساحل الافريقي.

كما تمّ الاشارة الى انّ تحركات الجماعات الارهابية على غرار الظهور الاخير لزعيم “إياد أغ غالي” زعيم تنظيم القاعدة فرع مالي اثبتت تحركات هذه الجماعات بسهولة تامّة وعجز فرنسا عن السيطرة عليها.

مثّل سوء ادارة الازمة في دول الساحل والصحراء عاملا مهما في جعل فرنسا تفقد مناطق نفوذها وفي تكوّن موجة شعبية رافضة لها، الاّ انّه لا يمكن التغاضي عن الاطراف الدولية ذات المصالح المتضاربة مع فرنسا والتي ترا في هيمنة الاخيرة تهديدا لمصالحها وتغولا داخل القارة الافريقية، وهو ما يندرج بقوة مع روسيا التي سارعت الى تغطية الفراغ الذي خلّفته فرنسا في مالي، الى جانب توسّعها في مناطق اخرى غرب افريقيا على غرار بوركينا فاسو وتشاد والنيجر.

وقد أوضح الباحث في الشؤون السياسية أيمن البوغانمي أنّ “الوضع في افريقيا عموما صعب أولا هناك عبء تاريخي يتمثل في عبء السمعة السيئة التي تحملها الشعوب الافريقية لوجود فرنسا وتاثيرها في صناعة القرار فيها، فهذه الشعوب تعتبر أن فرنسا مسؤولة عن فشل الأنظمة التي حكمتها في مالي أو بوركينا فاسو أو غيرها من الدول أي أنّ هناك عبئا ثقيلا”.

واضافة منه على التوسع الروسي في الساحل الافريقي اشار الى انّه سيكون هناك “اغراء تعويض الوجود الفرنسي بالوجود الروسي بمعنى ان روسيا أصبحت لديها ذراع فاغنر التي تقدم نفسها للأنظمة السياسية الحاكمة في هذه البلدان على أنها تملك من القوة ما يمكنها من تامين هذه الأنظمة وأن توفر لها الخدمات التي كانت تلجأ فيها الى المستعمر الفرنسي السابق. هذا الاغراء الذي يقدمه ذراع روسيا (فاغنر) يغري الكثيرين في هذه البلدان بخاصة التي شهدت انقلابات عسكرية.

في نفس السياق، أشار الباحث الى انّ مصير نفوذ روسيا في افريقيا محكوم بنتائج حربها ضد اوكرانيا والتي اذا كانت سلبية ستؤثر بدورها على تمددها في دول الساحل والغرب الافريقي.

لكن كيف يمكن ان نصف تأثير وجود قوات فاغنر في الساحل الافريقي؟ وكيف يمكن تحديدا وصف الوضع الأمني هناك ؟

تراجع نسبي في العمليات الارهابية

تسعى روسيا الى اثبات تفوّقها على فرنسا في منطقة الساحل والصحراء، والمتوقع في هذا الاطار هو سعيها لسد الفشل الذي خلفه الوجود الفرنسي، حيث تبذل قوات فاغنر جهدها في محاربة الجماعات الارهابية المسلحة ويندرج ذلك في اتفاق كان قد نص على تدريب القوات المسلحة في البلدين وقيادة فرق اخرى خاصة لمحاربة الارهاب في المناطق المضطربة.

اشار مراقبون للوضع الأمني في دول الساحل الافريقي الى تراجع ملحوظ في عدد العمليات الارهابية في المنطقة مقارنة بالفترات السابقة، ما ادّى الى بروز شكوك عديدة حول اسباب تنامي العمليات الارهابية بالتوازي مع الوجود الفرنسي ونقصانها مع عمل قوات فاغنر، خاصّة وانّ هذه الجماعات كما تمّ الاشارة لم تفقد قوتها وسيطرتها على المناطق التي لازالت تسيطر عليها.

تقف عديد الاحتمالات وراء تراجع العمليات الارهابية في دول الساحل والصحراء:

أوّلا: قدرة فاغنر على السيطرة على الوضع الامني في المناطق التي تسيطر عليها.

ثانيا: وجود اتفاقيات سرية بين اطراف مالية داعمة للوجود الروسي في الساحل وبين الجماعات الارهابية، مقابل دعمها لها (الجماعات الارهابية) في فترة الوجود الفرنسي للتخلص من فرنسا من أجل اثبات فشلها في القيام بدورها في مواجهة الارهاب في المنطقة. ويأتي ذلك في اطار سعي روسيا الى اثبات انّها أكثر جدارة من فرنسا في كبح جماح الجماعات المتطرفة في وقت وجيز.

ثالثا: قد يتعلّق ذلك بالجماعات الارهابية في حد ذاتها، اذ يمكن ان تكون هذه الاستراتيجية سابقة لمخطّط خطر قد يتحقق في الفترات القادمة نظرا في انّ وجود فاغنر يرعب هذه الجماعات أكثر من فرنسا.

رابعا: يمكن اعتبار انّ الاطراف الخارجية الرافضة للوجود الفرنسي في افريقيا كانت تؤجج الوضع الامني ضدها حتى تسرّع في خروجها، وانخفاض عدد العمليات الارهابية هو نتيجة خروجها من الساحل الافريقي.

ربما يمكننا القول انّ تراجع العمليات الارهابية يبدوا امرا مريحا ومثيرا للقلق في الآن نفسه، نظرا في انّ العدد القليل لقوات فاغنر لا يغطي المناطق التي كانت فرانسا تطارد فيها الجماعات الارهابية ومع انخفاض هذه الهجمات يبدو الأمر مثيرا للغموض ومحيلا لعديد الشكوك التي تتمحور حول امكانية وجود صفقة أو غاية معيّنة.

اعادة ترتيب الحسابات لدى الافريقيين

تتعدد الحساباتالداخلية لترتيب العلاقات مع المستعمرين القدامى ، لكن حقيقة الأمر تتعلق بحرص هذه الدول على الخروج من ظلال الاستعمار التي عاشتها طيلة سنوات لا يمكن حصرها. يتحول عصر التفرد والاستقطاب في العلاقات العالمية إلى حكم التنوع والاختلاف والتعددية. بدلاً من ذلك ، يكتشف العالم بشكل متزايد الأهمية الجيوستراتيجية لأفريقيا.

وقد بدأ الافارقة انفسهم بإدراك قدراتهم على اكتشاف قيمة مكانتهم وثروتهم والتعامل مع التناقضات والتحرك ضمن الهامش الواسع الحالي بين واشنطن وباريس وروما وبرلين، من ناحية، والغرب وروسيا والصين.

بالتالي لم تعد افريقيا قادرة على تحمل وجود قوات استعمارية جديدة أو حتى قديمة على أراضيها. حتى النيجر التي تقيم علاقات رفيعة المستوى مع فرنسا، لا يمكنها قبول عدد جديد من الجنود الفرنسيين الذين يغادرون بوركينا فاسو. وقد يعود سبب العلاقات الجيدة بين فرنسا والنيجر في عهد الرئيس محمد بازوم هو انذ الاخيرة لا تزال تعتمد على الأسلحة الروسية لعقود من الزمن الى شراء المسيرات من تركيا. وبالتالي يجب على باريس وكل حلفائها الغربيين ان تنتهج مسارا جديدا في علاقاتها مبني البراغماتية الافريقية وتجاوز العلاقات الاستعمارية.

ولعلّه يمكن القول بأن النهج الافريقي الجديد متأثر لا محالة بالسياسات الصينية التي تمحورت حول الاستثمار والنهوض الاقتصادي على مدى العقود القليلة الماضية، كما ساهم في ذلك أيضا سوء تدخلات الغرب المبنية على الهيمنة والنفوذ، كما أنّ لروسيا يد في ذلك من خلال استراتيجيتها في تطوير العلاقات مع دول القارة من خلال فاغنر فيها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق