أخبار العالمإفريقيابحوث ودراسات

الموقع الجغرافي الإستراتيجي لدول الساحل والصحراء والتنافس الدولي حولها

المقدمة

يعيش سكان بلدان الساحل التحول العسير بين الماضي الاستعماري المجرم المتغلغل داخل مفاصل دولهم وما تبعه من استقلال صوري وهمي والميلاد الجديد أو كما يحلوا للكثير أن يسمها “الصحوة الإفريقية” من أجل الإستقلال الحقيقي.

 حيث تشهد بعض دول الساحل بروز قادة شباب جدد، يرفعون شعارات السيادة الوطنية، والتحرر من كذب الإستعمار المقيت وشركاته، وقواه التي سيطرت على كل فترات الحكم تقريبًا في هذه الدول بعد الخروج الغربي منها، فهم قد خرجوا من الباب ورجعوا من شباك كبير اسمه القادة والزعماء “العملاء” .

دول الساحل هي نماذج وأمثلة واقعية تشهد تنافسًا دوليًّا عليها، وبكل تأكيد فإن روسيا جزء من الدول التي تضطلع بدور مهم في هذا التنافس، وهذه الدول هي: مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد .

الموقع الجغرافي الإستراتجي لدول الساحل والصحراء الإفريقية

بالنظر الى الخريطة الإفريقية تتحوّل الأنظار الى منطقة استراتجية تجعل قادة العالم يحطون الرحال إليها ويطمعون في التعامل معها كل بحسب إستراتجيته، خاصة وأن الدول الإستعمارية قد نهبت خيراتها منذ قرون ولم تنتهي وكذلك هناك تحوّلات مجتمعية شعبية كبرى.

كما أنّ منطقة الساحل الإفريقي تحتلّ مساحة شاسعة، حيث تمتد من إريتريا والسودان على البحر الأحمر حتى موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي موقع يسيل لعاب القوى الدولية الكبرى.

هذه المساحة الشاسعة، وما تحتويه من ثروات طبيعية ضخمة، من غاز، وذهب، ويورانيوم، وثروة سمكية، وثقل بشري مهم أكثره من الشباب، وإطلالة بعض دول المنطقة على أوروبا، وما يطرحه ذلك من حساسية وتحدٍّ أمني فما يخص الهجرة غير الشرعية، أضف إلى ذلك ضعف البنية السياسية لمعظم الأنظمة الحاكمة في المنطقة، كل هذا جعل منطقة الساحل عرضة للتنافس الدولي، ومسرحًا من مسارح ممارسة لعبة النفوذ والقوة بين دول العظمي .

 شهدت السنوات الأخيرة ظهور قوي للعلاقات الروسية الإفريقية “دول الساحل الإفريقي”، فزادت زيارات الوفود الرسمية، وتعاظم التعاون الاقتصادي والأمني بينهما، وخرجت كثير من الحشود في عواصم بعض دول ساحل حاملة العلم الروسي وصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ تعبيرًا عن الترحيب بالقادم الجديد إلى المنطقة .

مالي: تقلب الطاولة على المستعمر الفرنسي وتطرده… الترحيب بموسكو

في 20 أغسطس 2020، قاد إصامي غويتا، وهو شاب في الأربعينيات من عمره، ويعمل ضابطًا برتبة عقيد في الجيش المالي، مع مجموعة من الضباط، انقلابًا عسكريًّا أطاحوا من خلاله بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا العميل رقم 1 لفرنسا، قبل أن يتولى بنفسه رئاسة البلاد رسميًّا في يونيو  2021..

فدولة مالي شهدت في السنوات الأخيرة عدة تحولات سياسية وأمنية خطيرة، كادت في بعض الأحيان أن تعصف بكيان الدولة، حيث كانت باماكو قاب قوسين أو أدنى من السقوط.

والآن أصبحت مالي النموذج الأبرز عن مدى جدية موسكو في تطوير علاقتها بدول الساحل خاصةً، وإفريقيا عامةً، حيث تسعى موسكو إلى إرساء دعائم نظام قوي، وتقديمه نموذجًا يحتذى به .

وكان الخطاب “لإصامي غويتا” واضحا وصريحا للمستعمر الفرنسي والغربي: بعد ستين سنة من استقلال مالي، ووجود الشركات الاقتصادية الفرنسية المسيطرة على اقتصاد الدولة، ماذا استفاد الشعب المالي؟

وكانت الإجابة مزيدا من التفقير والتجهيل والهيمنة وسرقة كل الموارد لدولة مالي، فأكبر كذبة كانت تعاني منها مالي أنها دولة مستقلة وذات سيادة.

وكذلك أجاب الشعب المالي على سؤال قائدهم الشاب، فعامة الشعب أجابوا على السؤال: لا وجود للصحة، ولا التعليم، ومعدلات الفقر مرتفعة، والبطالة تنخر صفوف الشباب المالي.

 وبعد توليه الرئاسة، حمل القائد الشاب والنخبة القادمة معه شعار استعادة الدولة الوطنية، وبسط نفوذها على أراضيها كاملةً، ومناهضة الوجود  الغربي عامةً، والفرنسي خاصةً وهذا ما حصل فعلا ولا يزال القادة يقتلعون جذور الإستعمار من مفاصل الدولة المستعمرة.

كل هذا جعل الماليين الداعم الأول للرئيس إصامي قويتا، وقد كانت موسكو من الداعمين الأبرز لهذا التحول، حيث استفاد الجيش المالي من هذا التعاون، إذ زودته روسيا بكثير من المروحيات القتالية والأسلحة، والتدريبات العسكرية خاصة للحرب على الإرهاب الذي صنعته الإستخبارات الغربية، وهو ما أسهم في استعادة الجيش كثيرًا من المناطق، وبسط سيطرته عليها.

وفعلا فقد بدأ الجيش المالي في ضرب ورقة الإرهاب التي تدعمها فرنسا وأمريكا بشكل كبير فتسع سنوات ضمن عملية “برخان” والإرهاب يزداد قوة ونفوذا وذلك بدعم لوجستي وميداني من الإستعمار الفرنسي. وبعد طردهم من مالي استعاد الجيش المالي نفوذه على الميدان بشكل كبير.

كما كانت مالي من الدول التي استفادت من مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث أُرسلت شحنات تقدر من 25 إلى 50 ألف طن من الحبوب إلى بعض الدول الإفريقية مجانًا، كان من بينها مالي، وبوركينا فاسو، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وإريتريا.

بوركينا فاسو: النقيب الثوري إبراهيم تراوري، الذي يُلقَب هناكبتوماس سانكارا الجديد

ولم يكن قدر بوركينا أحسن من دولة مالي فهي كذلك تحت الإستعمار الفرنسي بالشكل “المقيت” الذي يتدخل في كل شيء ويهيمن على كل مفاصل الدولة فلا سيادة تعلوا على سيادة المستعمر الفرنسي، الذي  يسرق وينهب كل شيء وطبعا الشعب يرزح تحت الفقر والجهل والأمراض وغيرها من مخلفات الإستعمار وذلك برعاية العميل رقم 1 في بوركينا فهو ينفذ ما يطلب منه المهم يبقى رئيسا برتبة عميل.

وبالتالي ومباشرة بعد دولة مالي شهدت بوركينا فاسو  عملية تحرر وتصحيحا للمسار بعد أن كانت تعيش تقلبات سياسية حادة خلال السنوات الأخيرة، قبل أن يستقر للنقيب الشاب إبراهيم تراوري، الذي يُلقَب هناك بتوماس سانكارا الجديد؛ لما يحمل من قوة في الخطاب، وكاريزما ظاهرة، وحضور قوي.

بدأ القائد الثائر مسيرة التحرر الثاني- كما يطلقون عليه- لبوركينا فاسو، حيث طُردت القوات الفرنسية من البلاد، وشهد التعاون مع موسكو قفزة نوعية، إذ شارك الرئيس إبراهيم تراوري في القمة الإفريقية- الروسية الأخيرة، وعقد على هامشها لقاء ثنائيًّا جمع بينه وبين فلاديمير بوتين، واتفق الطرفان على تعميق هذه الشراكة، على المستوى الأمني والطاقة، حيث تعهدت روسيا ببناء محطة نووية في بوركينا فاسو؛ لتغطية النقص الحاد في الكهرباء الذي تعانيه البلاد .

النيجر: الضربة القاضية للمستعمر الفرنسي والضلع الثالث في المعادلة الجديدة

من كان يعتقد أن بازوم أبن فرنسا وأمريكا ستتمّ الإطاحة به فهو لم يأبه لما حدث في مالي ولا بوركينافسو فهناك تطمينات فرنسية له وتحدى كل قادة الجيش والشعب وجاء بالقوات الفرنسية المطرودة من مالي الى عاصمة النيجرنيامي ولكن حصل ما لم يكن في الحسبان وقاد رجل النيجر القوي الجنرال عبد الرحمن تشياني انقلابًا عسكريًّا أطاح بالرئيس السابق محمد بازوم.

 وتبنى تشياني بعد ذلك خطابًا وطنيًّا تحرريًّا إفريقيًّا، ووطد علاقاتها مع الحكام الجدد في كل من مالي، وبوركينا فاسو، ووقع القادة الثلاثة على إنشاء تحالف عسكري جديد يجمع الدول الثلاث لمحاربة الإرهاب، وزودت موسكو حكام نيامي الجدد بمستشارين عسكريين، وعتاد عسكري، وهو ما قالت موسكو إنه سيعزز أمن أراضي النيجر وسلامتها. ومنها تمّ طرد المستعمر الفرنسي وخاصة طرد القواعد العسكرية الإمريكية من النيجر بشكل مذل وإهانة كبيرة للأمريكان والفرنسيين.

تشاد: تتأرجح والمستعمر في إستعداد

اعتبرت تشاد على مدار السنوات معقلًا مهمًّا من معاقل النفوذ الغربي، خاصةً الفرنسي، حيث تمتلك فرنسا قواعد عسكرية فيها، ولها نفوذ تاريخي على النخبة الحاكمة هناك.

ومع تولي محمد إدريس ديبي الابن مقاليد الحكم في البلاد- بعد مقتل والده في ظروف غامضة- زار ديبي روسيا مرتين، كانت آخرهما في يناير الماضي، وزادت روسيا المنح التعليمية المقدمة للطلاب التشاديين للدراسة في روسيا، لكن مع ذلك، تبدو إنجمينا أكثر حرصًا على استمرار النفوذ الفرنسي، وخاصة في ظل حالة عدم اليقين التي تسود المستقبل السياسي داخل الدولة، مع فوز محمد دبي بالإنتخابات الرئاسية، لكن إلى الآن يبدو أن حكم ديبي الابن يعاني، ومعرض لهزات قد تأتي من داخل المؤسسة العسكرية. وفرنسا وأمريكا يحاولان إضعاف الحكم هناك بزعزعة أمن وإستقرار السودان والتشاد مؤهلة الى إنقلاب عسكري وشيك.

نواكشوط: تلعب لعبتها بسلاسة للتخلص من الإستعمار الغربي

موريتانيا وبحسب الملاحظين أصبحت لها ثقة كبيرة ومتنامية في موسكو خاصة على المستوى الأمني، وولد الغزواني يريد تثبيت حكمه وبعدها يدخل في لعبة الشركاء وتنوعهم.

فعلاقة نواكشوط وموسكو تنمو رويدا رويد وبشكل سلس، حيث زار الرئيس الغزواني روسيا، وتحديدًا سوتشي، بعيد انتخابه بقليل، وشارك في القمة الروسية الإفريقية.

 كما قام سيرغي لافروف بزيارة رسمية إلى نواكشوط تعد هي الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، وزادت موسكو حصة موريتانيا من المنح الدراسية التي تقدمها للطلاب الأفارقة .

على المستوي الأمني تبدو نواكشوط حريصة على تنمية العلاقات مع موسكو، حيث وقع وزير الدفاع الموريتاني مع نائب وزير الدفاع الروسي مذكرة تفاهم بين الدولتين، على هامش مشاركته في مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي .

زاد الثقل الإستراتيجي لموريتانيا مع اكتشاف حقول الغاز التي ستجعلها من كبار مصدري الغاز في إفريقيا. كما أن عامل الاستقرار جعل المنظومة الغربية تركز أكثر على نواكشوط، حيث زاد التعاون العسكري بين الجيش الموريتاني وحلف شمال الأطلسي، كما وُقِّعَت اتفاقية مكافحة الهجرة غير الشرعية بينها وبين الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، تريد موريتانيا علاقات متوازنة مع الجميع، وهو ما يجعلها مقبولة من الجميع، على الأقل إلى الآن ولكن القلق الغربي أصبح واضح وخاصة كذلك الإتفاقيات الكبرى التي توقعها موريتانيا مع الصين وروسيا.

الخلاصة

روسيا الآن أصبحت مقبولة من أغلب الشعوب الإفريقية وتحضى بثقة الأغلبية بإعتبارها دولة ليس لها تاريخ إستعماري فهي اليوم أمام فرصة تاريخية تريد استغلالها بالرغم من الظروف الحالية التي تمر بها فهي تخوض معركة كبرى ومصيرية مع الغرب بمفهومه الشامل في أوكرانيا.

 لكن الكرملين مصرًّا على المضي قدمًا في توسيع دائرة النفوذ والمصالح مع القادة الأفارقة الجدد، مستفيدا من الترحاب الشعبي، وإرث موثوق من العلاقات، شهد دعم الاتحاد السوفيتي لحركات التحرر الإفريقية ضد المستعمرين الغربيين، وكذلك أجيال من الأفارقة تكوّنت داخل الدولة الروسية، واستفادت من خبراتهم دولهم بعد عودتهم .

روسيا اليوم تراهن على قادة شباب صحيح أنهم لا يمتلكون الخبرة السياسية أمام “الدولة العميقة” التي تربت على خبث و”قذارة الإستعمار” ولكن روسيا تدعم هؤلاء القادة شبان الذين يمتلكون الإرادة للتغيير.

معادلة رابح- رابح التي تتبناها الصين وكذلك روسيا هي كفيلة بتحقيق أرضية صلبة للتعاون مع الدول الإفريقية على جميع المستويات المزج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة على مستوى التعاون العسكري والأمني.

فالحضور الأمني وحده غير كافٍ، وقد لا يسبب نتائج عكسية؛ بل يحتاج إلى قوة موازية له، من مثقفين، ومفكرين، وأطباء، ومهندسين قادرين على تحقيق التقدم والتطوير داخل دول الساحل الإفريقي، وهنا لروسيا قوتها الناعمة متمثلة في أجيال من الكوادر الإفريقية التي كُوّنت داخل روسيا، وكذلك زيادة العلاقات الشعبية بين الجميع، وكلها مجالات تجعل موسكو قادرة على الاضطلاع بدور محوري فيها، بما يصب في مصلحة كل الأطراف، ويتيح التقدم والازدهار لدول الساحل الإفريقي.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق