بحوث ودراسات

المنطلقات الفكرية للجماعات الإرهابية والردّ عليها

الشيخ / أحمد تركي مدير عام التدريب بوزارة الأوقاف المصرية وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

إن التطرف الديني والاجتماعي لا يبدأ عند انضمام شاب لداعش أو القاعدة أو أي جماعة إرهابية مسلحة أو عنيفة !! ، بل يبدأ التطرف عندما ينضم الشاب إلي جماعة من الجماعات التي تطلق علي نفسها ( إسلامية) حتي وإن كانت تتخذ من السلمية منهجاً والتعبد سبيلاً والبعد عن السياسة تقرباً لله !! .
لماذا؟ ، لأن مجرد تكوين جماعة داخل مجتمع مسلم يوحي عند لأفرادها بمفاهيم هي مقدمة للتطرف والإرهاب ، ومنها :
1- الإيحاء بأن أفراد الجماعة علي درجة من الإيمان والقرب من الله وعلي وعي بالقرآن والسنة أكثر وأكبر من جموع الناس ، وهذا واضح جداً في أسماء بعض الجماعات ( الجماعة الإسلامية – جماعة أنصار الله – حزب الله – الخ ) ، وبالتالي لابد من دعوتهم إلي الالتزام الديني ( علي حد تعبيرهم) ، وكلمة( التزام )مشهورة جدا بين مفردات اعضاء الجماعات المتنوعة ، وكثيراً ما يقصد بها التزام الجماعة وليس الاستقامة علي أمر الله ورسوله ، كما أمرنا الله : ( قل آمنت بالله ثم استقم) ، واستخدام لفظ الالتزام بدلا من الاستقامة من بعض ألاعيب كهنة هذه الجماعات لاحداث تلبيس كتلبيس إبليس علي الشباب الذي يريد الاستقامة ويتبعهم علي الاستقامة لله فإذا بهم يجرونهم إلي الالتزام بتعاليم وأفكار الجماعة علي أنها وحي الله المعصوم !! .
2- إنتقال ولاء الشباب من ولائهم لله وللدين إلي ولائهم للجماعة وأميرها أو مرشدها ، ومن اعتبار كل المسلمين إخوة علي مستوي الحقوق والواجبات كما قال رب العالمين : ( إنما المؤمنون إخوة) ، إلي اعتبار الأخوّة مقصورة علي أفراد الجماعة فقد دون المسلمين الذين يعتبرون في منظور هذه الجماعات فسقة أو كفاراً أو علي الأقل غير ملتزمين !! ، وهذه الكلمة أيضاً أطلقها كهنة الجماعات تعبيراً عن أن الأخوة هم أعضاء جماعة وليس بقية المجتمع ومن هذا المفهوم سميت جماعة الاخوان نفسها باسم ( الإخوان المسلمون) ، إيحاءً أن غير المنضمين إلي الجماعة ناقصين في دينهم و أخوتهم !! ، واستكمال الدين ليس بالاستقامة انما بالسمع والطاعة للمرشد أو الأمير!!
3- اعتبار آيات القرآن في وصف المؤمنين والمتقين لا تنطبق إلا علي أفراد الجماعة ، وبالتالي آيات الكافرين والفاسقين تنطبق علي غير أفراد الجماعة حتي وان كانوا علي تقوي من الله ورضوان ، وأيضاً تفسير الصراع بين الحق والباطل وإسقاطه علي الصراع بين الجماعة والمجتمع وليس بين الأمة وأعدائها من الصهاينة مثلا !!
4- توظيف القرآن والسنة بالاستدلال الانتقائي لصالح مصالح الجماعة الضيقة سياسياً أو صراعياً .

ولهذا حرّم القرآن الكريم تكوين جماعة بطانة من دون المؤمنين ، ففكرة تكوين الجماعة داخل المجتمع المسلم هي بداية التطرف والإرهاب ومحاربة الإسلام من داخله ، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118].
ويلاحظ أن هناك عدة منطلقات فكرية لكل هذه الجماعات بداية من السلفية وانتهاء إلي جماعات التكفير وداعش والقاعدة ، يتفقون في مساحة كبيرة منها ويختلفون في مساحة ضيقة ، من هذه المنطلقات :
1- الحاكمية وفرضية إقامة الخلافة.
2- مفهوم الولاء والبراء.
3- قضية الكفر والإيمان .
4- حتمية المواجهة المسلحة لإقامة الخلافة ونشر الإسلام.

   وفهم الجماعات فيما يخص هذه الموضوعات مختلف تماماً لمفهوم المحجة البيضاء الذي جاء بها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، علي سبيل المثال : 

هل إقامة الخلافة الإسلامية كما يسمونها واجبة !!؟
والجواب ببساطة شديدة أنه لا يوجد نص فى القرآن أو في السنة يدل علي أن الإسلام يفرض طريقة للحكم وسياسة البلاد والعباد !! خلافة أو جمهورية أو مملكة، المهم أن يكون الحكم رشيداً .

وما ورد فى الصحيح أن رسول الله صل الله عليه وسلم – قال :
“تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء ان يرفعها , ثم يكون ملكاً عاضاً أو عضوضاً فيكون فيكم ما شاء الله ان يكون ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم يكون حكماً جبريا فيكون فيكم ما شاء الله ان يكون ثم يرفعه الله إذا شاء ان يرفعه ثم تكون خلافة على منهاج النبوة “
هذه نبوءة لرسول الله – صل الله عليه وسلم – تبين ما سيحدث للأمة فى فترات تاريخية ولكن لم يحدد رسول الله – صل الله عليه وسلم – كيفية الخلافة ولا صورتها ولا صورة الحكم إنما تركها لظروف كل جيل وعصر.
لقد تحدث النبي – صل الله عليه وسلم – عن الإمام او الحاكم العادل الرحيم.
وعن القيم الحاكمة للراعي والرعية ، وأقام صلي الله عليه وسلم مجتمعاً إسلامياً في المدينة المنورة بعد الهجرة عام ١ ه يسوده العدل والرحمة وكل القيم الربانية التي ننشدها ، قبل أن يُشرع الجهاد في سبيل الله من العام الثاني للهجرة ، وهذا يدحض كل مزاعم كهنة الإرهاب والتشدد من أن الخلافة علي صورتها العباسية او العثمانية تخلق المجتمع الصالح وتقيم دين الله!!! ، بناء المجتمع الصالح يكون بالدعوة والرحمة والتسامح وبعد ذلك تتشكل الدولة بالطريقة التي تناسب العصر والمصر وفق شئون الظروف والعصور.

إن رشد المجتمع والناس كان قبل إقامة الخلافة الراشدة التي زكاها رسول الله صلي الله عليه وسلم في الحديث، فلا الخلافة دليل رشدٍ وصلاح !! ، ولا عدم وجود الخلافة دليل كفر و فجور، إنما المقياس الإسلامي هو إقامة العدل والأخلاق الفاضلة، ووجود الحاكم العادل الصالح والمسلم الذي يسلم العباد والبلاد من لسانه ويده.
ولقد صدق هذا الحديث ما جاء في واقع التاريخ ان المسلمين حكموا فى أكثر تاريخهم بالملك العضوص والملك الجبري، ومع قيام دولة الخلافة فى عهد الأمويين وفى عهد العباسيين وفى عهد العثمانيين.
كثيراً ما ظلم الناس وضاعت حقوقهم وانتهكت محارم الله!!
وعند مراجعة خطب ودروس شيوخ السلفية والإخوان، لا تجد شيخاً منهم إلا و يغازل الشباب بالخلافة الإسلامية !! ، ولذلك لابد من الانتباه إلي أن صناعة الإرهابي تتخذ أطواراً ويشترك فيها جماعات وليس جماعة واحدة ، كل مرحلة لها شيوخها وفقهها وآلياتها .
وكل هؤلاء تشبعوا بتفسير الظلال لسيد قطب الذي يسقط هذه المفاهيم والمنطلقات باحتراف ويبلور فكر أبو الآعلي المودودي لقمة فكرية سائغة، ففي فترة الثمانينات والتسعينيات انتشرت أشرطة الكاسيت لهذا النوع من الشيوخ ، وكانوا يسوقون لهذه الأفكار ولسيد قطب خاصة لما يسمونها : ( عقيدة الولاء والبراء ) بطريقة تسوق الشباب إلي الإلتحاق بالتطرف دون وعي وفكر .

وقد قامت الجماعات المتطرفة بالتكفير استناداً للفهم الخاطئ لعقيدة الولاء والبراء، حيث انتشر التكفير بين أفراد تلك الجماعات ، ويمكن رصد عدد من المقولات المنسوبة لسيد قطب في عقيدة الولاء والبراء ، حيث يقول في كتابه “في ظلال القرآن” (إنه لا يجتمع في قلبٍ واحد حقيقة الإيمان بالله وموالاة أعدائه الذين يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيُتَوَلون ويُعرِضون — يقصد بأعداء الله المجتمع — .. ومن ثم جاء هذا التحذير الشديد، وهذا التقرير الحاسم بخروج المسلم من إسلامه، إذا هو والى من لا يرتضي أن يحكم كتاب الله في الحياة، سواء كانت الموالاة بمودة القلب، أو بنصره، أو باستنصاره).
كما فسر سيد قطب الآية القرآنية (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ) بقوله (ليس من الله في شئ لا في صلة ولا نسبة ولا دين ولا عقيدة ، ولا رابطة ولا ولاية ، فهو بعيد عن الله ، منقطع الصلة تماماً) .
ومما تقدم يتضح أن “سيد قطب” يعد ممن أصل بقوة لعقيدة الولاء والبراء، إلى حد الانحراف في الفهم والتأويل، حيث قسّم البشر إلى قسمين حزب الله وحزب الشيطان، مما أدى إلى شيوع أفكاره لدى الجماعات المتشددة، وكان لأفكاره دور بارز في تشكيل الفكر الأيديولوجي لتلك الجماعات .

فترى الجماعات المتشددة أنه بسبب عدم تطبيق الشريعة في العالم الإسلامي، فإنه لم يعد العالم إسلامياً، وعاد إلى الجاهلية، ولكي يعود الإسلام، فالمسلمون بحاجة لإقامة “دولة إسلامية حقيقية” مع تطبيق الشريعة الإسلامية، وتخليص العالم الإسلامي من أي تأثيرات لغير المسلمين، مثل مفاهيم “الديمقراطية – الاشتراكية – القومية”.
ومما يثير العجب !! أن بعض دور النشر العريقة قد طبعت كتاب ( في ظلال القرآن ) بضعاً وثلاثين مرة طباعةً فاخرة كلها نفدت وانتشرت هذه الطبعات في أرجاء المعمورة ، دون أن يكون هناك مصنفٌ واحد لمراجعة أفكار سيد قطب في الظلال او في بقية كتبه بنفس المستوي من الطباعة والتسويق !!

أما ما يخص الإيمان والكفر :

فالإيمان مصدر آمن معناه التصديق ، قال تعالي حكاية لقول إخوة يوسف : ” وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين ” يوسف : ١٧
ومعناه في الشرع : تصديق القلب تصديقاً جازماً بكل ما جاء عن النبي ( صلي الله عليه وسلم) فيما عُلِم مجيئه من الدين بالضرورة. ، ولم يشترطو في التصديق أن يكون عن دليل … وذلك ليدخل المقلد في عداد المؤمنين.

قال الإمام النووي – رحمه الله – : ” مذهب المحققين وجماهير السلف والخلف أن العبد إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازماً لا تردد فيه كفاه ذلك ، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين “.
والإيمان بالله تعالي له أثره في النفس فهو يدفع إلي العمل ويساعد علي الإتقان وهو دليل هداية من الضلال. ، قال تعالي : “ومن يؤمن بالله يهد قلبه ” التغابن :
ولقد ذهب أهل السنة والجماعة إلي أن الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح.
وهذا خلاف لما تعتقده الخوارج – ويلحق بالخوارج جماعات التكفير لأنهم يتبنون تصور الخوارج فيما يخص الإيمان –
قالو : أنه إذا انعدم أحد هذه الشروط انعدم الإيمان ( يعني أصبح كافراً).
قال الخوارج : إذا انعدمت الأعمال خرج الشخص من الإيمان إلي الكفر.
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الجماعات التكفيرية الذين يعتبرون المجتمع المسلم مرتداً
أما أهل السنة والجماعة فقالوا : ” إذا انعدمت الأعمال انعدم كمال الإيمان ”
فالأعمال جزء من مكمل للإيمان كاليد بالنسبة للجسم الإنساني فإنها وإن كانت جزءا منه لكنها لو انعدمت لانعدم الجسم .
فالعاصي بغير الشرك يطلق عليه لفظ المؤمن كما في قوله تعالي : ” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما” الحجرات : ٩
حيث وصفهم بالإيمان رغم عصيانهم بالقتل !

وفي قوله تعالي :”ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ” فاطر : ٣٢
فسمي الجميع مصطفين وفيهم من ظلم نفسه بالمعاصي.
وَمِمَّا يدل علي هذا المعني من السنة حديث أبي ذَر
قال أبوذر رضي الله عنه :
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق ثلاثا ثم قال في الرابعة على رغم أنف أبي ذر قال فخرج أبو ذر وهو يقول وإن رغم أنف أبي ذر . رواه مسلم.
فهذا الحديث يدل دلالة قاطعة علي أن ارتكاب المعصية لا تخرج الانسان من الإيمان !! ، بل تخرجه من كمال الإيمان !!
والمجتمع الذي تقع فيه الكبائر ليس مجتمعاً كافراً بل هو مجتمع مسلم به معاصي.
ومجتمع النبي صلي الله عليه وسلم كانت فيه انتهاك للحدود من بعض الصحابة كزني ماعز والغامدية.
والبعض وقع في جريمة شرب الخمر !! ومع ذلك لم يطلق عليه مجتمعاً كافراً.
فالإيمان عند أهل السنة والجماعة ثابت لكل أهل القبلة ممن شهد أن لا اله الا الله وان محمداً رسول الله.

الفتوحات الإسلامية !! هل كانت سيفاً لنشر الإسلام ؟
تلقيت هذا السؤال من بعض الشباب أثناء حوار ديني علمي في بعض الجامعات المصرية العريقة. و هذا الموضوع يعد محوراً خطيراً عند الجماعات الإسلامية المتطرفة حيث يعتبرون السيف هو الوسيلة الأولي والأخيرة لنشر الإسلام وإلزام الناس بتعاليمه، فالسيف عندهم قبل الدعوة.
والقتل كما يزعمون وسيلة لإقامة الخلافة الإسلامية، ولا يمكن أن يعيش المسلم دينه طائعاً لله إلا في دولة الخلافة. اما دون ذلك فالمسلمون جميعاً كفرة ومجتمعاتهم جاهلة حتي وان صلوا وصاموا وأقاموا شعائر الإسلام.
هذا الفكر يبشر به كهنة الجماعات الإسلامية المتطرفة ويجندون من خلاله العديد من الشباب للالتحاق بركب التطرّف ثم الإرهاب !!
وهذا يفسر ظاهرة التحاق الشباب المسلم من أوروبا و أيضا من عدة دول عربية بالتنظيم الإرهابي داعش !! ، ومن قبل بشّر بهذا الفكر أيضاً سيد قطب في عدة كتب له بل هو المهندس الكبير لفكر الإرهاب في القرن العشرين !!
وهذا السؤال أيضاً يتردد كثيراً علي السنة المشككين في الاسلام كدين حضاري انساني يقود الانسان من روحه وضميره وقلبه الي اسمي القيم الاجتماعية والإنسانية لصناعة جوٍ عالمي من السلام عند الانسان بينه وبين نفسه وبينه وبين ربه وبينه وبين الناس وبينه وبين الكون .

وأسفنا أن الإسلام دين المحجة البيضاء ظُلْم كثيراً عبر التاريخ بإشاعة الأباطيل عنه من قبل أبنائه الجهلاء وأعدائه الخبثاء.
إن الإسلام ليس هو الدين الذي يحتاج إلى العنف كي يفرض تعاليمه على الناس، لأنه دينٌ أساسه الرحمة والعلم والحضارة و العمل الصالح والتعمير يخاطب العقل حتي ينبهر بجلال الله ، ويخاطب الفطرة حتي تشاهد آثار جمال الله ، إنه الدين الذي يجد طريقه ميسراً إلى القلوب ، ممهدا إلى أولي الألباب.
فالتوحيد ، والأخلاق السمحة ، والعبادات الزكية ، والمعاملات الحسنة ، والأحكام العادلة ، كل ذلك ما يحتاج إلا إلى الدعوة الهادئة والإقناع المجرد ؛ قال تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النحل : 125].
ويبين القرآن الكريم أن الرسالات السابقة من رسالة نوح – عليه السلام – إلى رسالة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد (صلى الله عليه وسلم) ، لم تنتشر إلا بالدعوة ، وعدم الإكراه ؛ قال تعالى على لسان سيدنا نوح : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) [هود : 28] ؛ وقال عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [يونس : 99].
وعندما تتدبر آيات الدعوة التي شرحت وظيفة الرسالة ، نجد هذا المعنى قائم ، قال تعالى : (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ) [الطور : 29] ، وقال سبحانه : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ) [الغاشية : 21 ، 22] ، وقال جل وعلا : ( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ

عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) [الأنعام : 104] ، ووجه ربنا سبحانه إلى مدى حرية الاعتقاد والإيمان ، فقال تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : 29].
وبالتالي : ما يطلبه الإسلام هو داعية ناجح ، يحسن عرض الإسلام على العباد.

أما موضوع الفتوحات الإسلامية :

فدعوة الإسلام الناس كانت واضحة، يقال فيها : عندنا دين صحيح لا زيف فيه ، صادق لا كذب فيه ، واضح لا غموض فيه ، خير لا شر فيه ، نعرضه عليك ، فإن قبلته قبلك .! ، وتكون مسلما لله تعالى ، وإن رفضته ، فهذا لك ، بشرط أن تدع المسلمين يشرحون لغيرك ويبينون للناس ، فإذا قال : ( ادعوا من تريدون وأنا لا أصدكم عن دعوتكم ، فهذا حسن ).
أما من منع عرض الإسلام على الناس ، فهذا هو المقصود بالقتال في الفتوحات الإسلامية ، منابذة من يصد عن الدعوة لله عز وجل ، ومقاتلة من يمنع وصول الرسالة للناس.
فالنظر إذا إلي الفتوحات الإسلامية علي أنها قتال !! ظلم ووهم كبير !!
الفتوحات الإسلامية في تاريخنا النظيف هي الدعوة ، ومعاملة الناس بأخلاق الإسلام.

فقد بعث رسول الله برسائله إلى ملوك ورؤساء العالم – كسرى ، وقيصر ، والنجاشي ، وغيرهم – يدعوهم إلى الإسلام ، ويمررون الدعوة إلى شعوبهم ، وهذه الرسائل ليس فيها تهديد بالقتل إن اعرضوا عن الإسلام. إنما كلها دعوة وسلام. وجاء فيها : أسلم. تسلم ، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن أبيت فعليك إثم ( المجوس لكسري أو الروم لهرقل او الآريسيين للمقوقس عظيم القبط والآريوسيون نسبة إلي آريوس. وهو كاهن قبطي. )
والمقصود بقوله – صلي الله عليه وسلم – ” أسلم تسلم “. يعني تسلم من ضيق الدنيا وعذاب الآخرة وليس المقصود منها تسلم من القتل. كما يروج البعض !! لان رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يقاتل الا الروم في موقعتين. مؤته وتبوك. وكان للدفاع عن المدينة المنورة لوقف زحف الروم اليها. حيث كانوا يريدون ذلك.
وكانت هذه الرسائل أيضاً واضحة في أنهم إن رفضوا الإسلام فلم يسمحو بعرضه علي أقوامهم ، فمن شاء منهم أن يؤمن ومن شاء ظل علي عقيدته بكل حرية !!
غير أن هؤلاء الملوك كانوا يعتبرون أقوامهم عبيدا ومن حقهم أن يفرضوا ديناً وعقيدة معينة علي الناس دون سواها.

ورفض أكثر هؤلاء الملوك أن تمرر الدعوة إلى الشعوب ، فكانت الفتوحات الإسلامية ، لإقصاء هؤلاء الجبارين ، ثم عرض الإسلام على الشعوب ، وهنا يتم تطبيق الآية الكريمة : (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : 29].
فالفتوحات الإسلامية كان فيها حروب للمسلمين في فترة تاريخية ،حيث كان حكام الشعوب يمنعون عرض الإسلام على شعوبهم بالقوة ، ويفرضون عليهم عبادة أنفسهم ، أو معبودا غيرهم.!!
إن الفتوحات الإسلامية لم توجه ضد الشعوب ، أو عامة الأفراد ، وإنما ضد من منعوا عرض الإسلام ، ووقفوا في طريق هداية الناس.
أما اليوم فلا يوجد أي عارض في أي مكان بالعالم يمنع من عرض القرآن ونشر الإسلام بين الناس، ففي كل بلاد الدنيا توجد المساجد، وتقام الشعائر الدينية بكل حرية !! وبناء على القاعدة الأصولية التي تقول : ( العلة تدور مع الحكم وجوبا وعدماً ) ، فإن قضية القتال في الفتوحات الإسلامية باتت أحكاما تاريخية ، كالكثير من الأحكام مثل : نكاح ملك اليمين ومكاتبة العبد لسيده حتي يتحرر من عبوديته إشارة إلي قوله تعالي ” فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ” النور : ٣٣ .!
ومما يؤكد هذه الحقائق ، وأن انتشار الإسلام كان بالدعوة وليس بالسيف ، انتشاره في جنوب وشرق آسيا ، دون وصول جيوش العرب والمسلمين إلى هذه المناطق ( ماليزيا ، وأندونيسيا ، وغيرها من البلدان … ) ، ودخل الناس في الإسلام تأثرا بالمعاملة الطيبة لتجار المسلمين ، كذلك نجد انتشار الإسلام في أسبانيا ، كما يذكر – جوستاف لوبون – في كتابه “حضارة العرب”.

فالحقيقة التاريخية تؤكد أن انتشار الإسلام في الأماكن التي دخلتها الجيوش العربية والإسلامية ، كانت وفق معدلات متناسبة تماما من الناحيتين ( الكمية ، والكيفية ) مع التطور الطبيعي لحركة الدعوة الإسلامية عبر التاريخ.
فَلَو كان السيف هو الفاعل لنشر الإسلام لدخل الناس في الدين نفاقاً من أول يوم ولكن ملياراً ونصف من المسلمين اليوم هم نتاج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فقط دون اكراه.
وإليكم الجدول التالي، وهو نتاج دراسة مهمة جداً توضح بوثوق شديد خط انتشار الإسلام في بعض الدول التي دخلتها الجيوش العربية والإسلامية، حيث تم تسويق ذلك علي انه احتلال قام به المسلمون لنشر دينهم ونهب ثروات تلك البلدان !!
وهذه أكذوبة من أكبر الأكاذيب والأباطيل التي تم ترويجها عن الإسلام في تاريخه !!
فمن خلال ما سبق يرفض الاسلام هذا الأسلوب ويواجه من يمارسه. والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة من خلال تلك الدراسة.
conversion of islam and emergence of amusleim society in iran in conversion to isia,ed ( nehemia levizion ) (newr your holmes and meier puphhnc . 1979 ) pp.30-51 p31 forfig.11 ) .

قام بهذه الدراسة الباحث الأمريكي – ريتشارد بيليوت – عام 1979 م.

السنوات بالهجري
فارس
العراق
سورية
مصر
الأندلس
نسبة المسلمين نهاية أول مائة عام من الدعوة الإسلامية .
5 %
3 %
2 %
2 % أقل من
1 %
السنوات التي صارت فيها النسبة للمسلمين 25 % من السكان بعد 185 سنة من دخول الإسلام بعد 225 سنة من دخول الإسلام بعد 275 سنة من دخول الإسلام بعد 275 سنة من دخول الإسلام بعد 295 سنة من دخول الإسلام
السنوات التي صارت فيها النسبة للمسلمين 50 % من السكان بعد فترة
253 بعد فترة
280 بعد فترة
330 بعد فترة
330 بعد فترة
355
السنوات التي صارت فيها النسبة للمسلمين 75 % من السكان بعد فترة
280 بعد فترة
320 بعد فترة
385 بعد فترة
385 بعد فترة
400

ان هذا الجدول يُبين بوضوح أن جيوش المسلمين ما كانت مهمتها احتلال الدول علي غرار احتلال الاستعمار لبلادنا في القرون الماضية !!
ولم تكن تقاتل الشعوب أصلاً. إنما كانت تقاتل من مارس حجراً علي عقائد الناس واستعبدهم وقال لهم أنا ربكم الأعلى. انها كانت لتحرير الشعوب وتأمين الناس علي عقائدهم وحياتهم. وليس لقهر الشعوب واستغلالهم.
والدليل علي ذلك الآتي :
1- المسلمون لم يقتلو الشعوب ويبيدوهم ، كما حدث في كثير من الدول التي قامت على أنقاض شعوب وحضارات أخري، وقُتل الملايين من البشر ظلماً وعدواناً ، بل شارك المسلمون الناس لإنشاء حياة كلها سلام ورحمة.
2- المسلمون جعلوا بعض عبيدهم حكاما، مثل : الظاهر بيبرس، وقطز ، وغيرهم .
3- لم يعرف تاريخ المسلمين محاكم تفتيش عن العقيدة ، كما حدث في الغرب ، وفي الأندلس بعد سقوطها .
4- تمتع أهل الأديان الأخري تحت حكم المسلمين ، وفي ظل راية الإسلام ، بشهادة المؤرخين الغربيين ، بحقوق لم يأخذوها وهم تحت سيطرة أمثالهم .
بل وشارك بعض صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم في بناء كنيسة العذراء بالفسطاط كما شارك الأقباط المسلمين في بناء جامع عمرو بن العاص.
وعندما دخل المسلمون القدس. استأمن المسيحيون المسلمين علي مفاتيح كنيسة القيامة حيث تسلمتها عائلتان مسلمتان (نسيبة و جودة ) ولا تزال مفاتيح كنيسة القيامة. مع هاتين العائلتين في القدس حتي اليوم !!

5- تزاوج المسلمون مع أهل تلك البلاد ، وبنو أسرا وعائلات على مر التاريخ .
وظل إقليم الحجاز – مهد الدعوة الإسلامية – فقيرا إلى عصر ظهور البترول في القرن الماضي و لو كان الإسلام مثل غيره يعتمد على القوة سبيلا للسيطرة والهيمنة، لجلب المسلمون ثروات العالم ليغنوا بها أهل مكة والمدينة، سكان الحرمين الشريفين .!!
ونخلص من هذا كله إلى أن الفتوحات الإسلامية ليست هي الجيوش التي تحركت نحو البلدان !!
وإنما هي دعوة الناس الي دين الله، وهذه الجيوش لم تكن لنشر الإسلام وفرضه على الآخرين، وإنما كانت في فترة تاريخية لإذهاب من يعترض دعوة الإسلام ، ويمنع وصولها لباقي الأفراد؛ أما وقد وجدت الوسائل الحديثة للوصول إلى الشعوب، ودعوة الأفراد إلى الإسلام بطرق مختلفة، فإن ذلك يعد من الأحكام التاريخية التي انتفت لانتفاء علتها!!
فأين إذا جهود المسلمين لعرض الاسلام علي حقيقته لأمم العالمين ؟!
هذا السؤال محرج و مؤلم جدا، لكننا لابد أن نواجه أنفسنا بالحقيقة.
ولن نستطيع أن نصحح صورتنا ولا صورة الاسلام إلا إذا صححنا أوضاعنا في كل الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والعلمية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق