العبور الاقتصادي لإفريقيا
فاتن الجباري: باحثة بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس
التحديات القارية
افريقيا هي تلك القارة السمراء التي تكتنز اكثر روافد العالم للتنمية بما تزخر به من موقع استراتيجي هام يميزها بتنوع المناخ و الأوساط الطبيعية والثروات البيئية كالمياه والغابات و المعادن كالذهب و الحديد و المحروقات كالغاز و النفط و البترول…
عبر التاريخ شكلت هذه الثروات الجمة لعنة تكبدتهاأفريقيا بتاريخ اسود حالك لا تزال سماته وجروحه بارزة حتى اليوم فكيف صعدت الامبريالية الاوروبية عبر نهب ثروات افريقيا تلك هي قضية افريقيا التي اضحت مجالا للجدال العالمي وتنوع البحوث العلمية و الاكاديمية في هذا المجال التي تركت قضايا كثيرة معاصرة حتى اليوم .وقد تأسَّس الإرث الاستعماري والنفوذ الاجنبي في إفريقيا على ركائز أساسية، أهمها: الإدارة السياسية والتحكم الاقتصادي والاستلاب الثقافي.
لقد كان لتأثير التحولات الاقتصادية و الديمغرافية أي تنامي عدد السكان القاري بشكل مرتفع والسياسي و الامني كان له الوقع الكبير على تشكيل مستقبل القارة الإفريقية علاوة على الاتجاهات الاقتصادية التي اعتمدتها الخيارات الإفريقيةالرقمنة المتصاعدة .
في خلال السياق الدولي الجديد متعدد الاقطاب و التحولات المتسارعة التي تعرفها اغلب دول القارة الافريقية يطرح السؤال اليوم اكثر من أي وقت مضى كيف تسعى السياسة الاستعمارية الى استمرار سيطرتها على مستعمراتها السابقة في افريقيا و ماهي الاسباب التي تدفعها للإبقاء على نفوذها؟
الجزء الاول: السياسة الاستعمارية الاوروبية الناشئة على اعقاب افريقيا “المتخلفة “
لا تزال الجدالات في القارة السمراء قائمة حول المصالح الاقتصادية بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في القارة. فمن الواضح و الجلي ان دولة فرنسا تريد مواصلة سياستها البراغماتية من خلال مواصلة المد الاستعماري الذي يعتمد خطة اقتصادية غير متكافئة وغير متوازنة قائمة على سياسة الكيل بالمكيالين في مزيد نهب واستنزاف الثروات التي تختزنها تلك القارة كقوة لشعوبها الجائعة ؛ فلا تزال بلاده مستمرة في سيطرتها على تجارة وعملة المستعمرات السابقة
كانت التجارة هي أحد أسباب الاستعمار الفرنسي؛ ففي المغرب العربي كانت موانئ تونس والجزائر التي أنشئت خلال العهد العثماني، محطة أساسية للعبور ونقل البضائع و الادفاق البشرية حيث سعت فرنسا الى مزيد اقامة الموانئ لتسهيل حركة العبور البحرية و تدفق سيولتها نحو اوروبا .
وذلك من أجل زيادة حجم التجارة ولقد تضمنت السيطرة على التجارة الدولية أيضا، فرض السلطة على الممرات البحرية بين أفريقيا وآسيا، وهو السبب وراء الإستعمارالبريطاني الذي كان له نصيب اخر كما اشتملت الخطة على إنشاء خطوط سكك الحديد من السنغال إلى السودان ثم إلى غينيا وساحل العاج ، أي البنين والتوغو اليوم.
وتظهر فرنسا الآن اهتماما بالنفط والغاز، وتعتمد شركة “توتال” الفرنسية على أفريقيا في إنتاج 28 بالمئة من إنتاجها للغاز والنفط، أي وفقا لأحدث الاحصائيات 36.4 بالمئة من إمدادات النفط الفرنسية تأتي من أفريقيا وهنا تعد النيجر بلدا استراتيجيا بالنسبة الى فرنسا نظرا للاحتوائهعلى اليورانيوم كمصدر اساسي مولد للطاقة علاوة على الصناعات النووية ولقد اكتشفت فرنسا امتدادا هائلا لمناجم اليورانيوم في النيجر تصل حتى الى دولة مالي و علاوة على ذلك فإن مالي المحاذية لموريتانيا الغنية بالنفط وتحصل الشركات الفرنسية البترولية على النصيب الاكبر منه كما تحاذي الكوت ديفوار المسمات ب بعاصمة منطقة الفرنك الافريقي .
لقد اضحت افريقيا مطمور اطماع للسياسات الاستعمارية توفَّر لها المواد الأولية لتدوير اقتصاداتها الهشة. وهكذا، فإن اليورانيوم في النيجر، والذهب في مالي، والمصادر الزراعية في السنغال والسمك والحديد الموريتاني، كان نهبًا للفرنسيين طيلة سنوات ما قبل الاستقلال، وقيام الأنظمة الوطنية، وتحول هذا النهب بعد ذلك إلى مسار آخر عبر الشركات الفرنسية الكبرى التي واصلت نفس التكتيك ولكن بطرق و مخططات اخرى ، وتعتبر شركة توتال أبرز ذراع دولية لنهب مصادر الطاقة، والتحكم في الآفاق النفطية والغازية في غرب ووسط إفريقيا.
الجزء الثاني : امبراطورية الدولار و نهب البنوك الافريقية
تمتد العلاقة بين فرنسا وإفريقيا في أعماق الزمان، على ضفاف ثلاثة قرون أو أكثر من الاستعمار المباشر، وعلى آماد المكان أيضًا في خارطة احتلال هي الأكبر بين الدول والإمبراطوريات التي تقاسمت القارة السمراء منذ مؤتمر برلين لسنة 1884، والذي وزَّع القارة السمراء بين نفوذ قوى دولية استقرت فيها قبل ذلك بقرنين أو أكثر.
فلم تنقض العشرية الأولى من القرن العشرين، حتى استطاعت فرنسا بسط نفوذها على أراضي إفريقيا، منها على سبيل المثال في شمال إفريقيا: المغرب، والجزائر، وتونس، وموريتانيا. وفي جنوبها دول السنغال ومالي وبنين وتوغو وغينيا كوناكري، وبوركينا فاسو، وكوت ديفوار، والنيجر، والكاميرون.
وفي جنوب القارة، وضعت فرنسا اليد سريعًا على دول إفريقيا الاستوائية، وتشاد، والكونغو، والغابون، كما استولت على أرض وسط إفريقيا، وأقامت هناك نظامًا استعماريًّا مفعمًا بالجرائم والنهب المنظَّم للثروات.
ويتأسس التحكم الفرنسي في الاقتصادات الإفريقية على مركزيات استعمارية كبرى، من أبرزها البنوك الإفريقية و التي اضحت تحت السطوة الفرنسيةتتمتع الشركات الفرنسية بالعديد من المزايا منها العملة كما سبق و تم الاشارة اليه في منطقة القرن الافريقي وهي عملة موحدة متداولة بين 14 دولة واهمها البنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال والتوغو. ولكن بسبب ارتباط الفرنك الافريقي بالأورو تتمكن فرنسا من توجيه مدخرات هذه البلدان حيث يقع الزامها بإيداع نصف مدخراتها داخل البنوك الفرنسية وهو ما يحول بنوك العمالة الفرنسية الى متصرف متحيل في هذه الاموال بتوجيهها وفق غاياتها الربحية ومخططاتها ذات النفوذ البشع اذ تمنع تنافس قيمة العملات و التطور الصناعي وتكبح تقدم البلاد في منطقة الفرنك الافريقي .
فرنسا التي تعتبر نفسها وصية ضامنة لهذا الرصيد الافريقي حتى اليوم على على الاتحاد النقدي الأفريقي رغم سعي اغلب دول القارة الى نيل الاستقلال المالي من خلال انشاء منظمة الاتحاد الافريقي ستكون له بدون شك عواقب وخيمة وجسيمة كأبرز التحديات القارية في وجه الاقتصاد الافريقي .
في مقابل ذلك كان لهذه الدول الافريقي موقف معاد لفرنسا حيث اثيرت موجة من الاحتقانات و الهيجان في صفوف هذه الشعوب ورغبتها الملحة في الانفصال و الكف عن التبعية لأوروبا جاء ذلك نتيجة لسياسة فرنسا العنصرية و اعتمادها منهج التمييز العنصري ضد سكان افريقيا معتبرة اياهم ” اسرى لثقافتهم ويتسمون باللاعقلانية و التخلف ” .
لقد عملت فرنسا خلال السنوات الاخيرة على ايهام العالم برغبتها في الكف عن سياستها الاستعمارية الناهبة و السالبة تجاه افريقيا الا انه بالرغم من قوة الإشارات الرمزية و الحملة الترويجية التي صاحبت إطلاق فكرة القطيعة مع هذه السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا، إلا أن مظاهر الاستمرارية تتفوق و تتغلّب بقوة على مظاهر التغيير و القطيعة.
المراجع
- وليدوفيق، مالي بين النفوذ الفرنسي وحلم الاستقرار مقال منشور على studies.aljazeera.net
- سياسة فرنسا في أفريقيا المصالح العليا والتحركات العسكرية “دراسة فى الفكر الإستراتيجي الفرنسي” لخالد عبد العظيم
- الكابوس الفرنسي في إفريقيا (القسم الأول): الخلفية التاريخيةتقرير يستعرض دور فرنسا في تقسيم إفريقيا إلى أيديولوجيات وحدود ولغات، خلال فترة استعمارها للقارة، ما انعكس سلبا على مستقبل دولها.
- كتاب «صراعات الحرب الباردة في أفريقيا»عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، حالة التحول في السياسات الغربية تجاه القارة الأفريقية خلال الفترة التي شهدت حركات التحرر الأفريقية نهاية القرن الماضي وأفول الوجود الاستعماري الأوروبي القديم.
المراجع باللغة الاجنبية
- Jacques Chirac : “Nous avons saigné l’Afrique pendant quatre siècles et demi”
- Ahmed Ben Mustapha,La France confrontée à son héritage colonial en Afrique