الصين تشيّد “مدينة بكين العسكرية”: تحوّل استراتيجي في ميزان القوى النووية العالمية
قسم البحوث الأمنية والعسكرية 31-01-2025
في خطوة تعكس طموحاتها العسكرية المتنامية، تعمل الصين منذ منتصف عام 2024 على تشييد منشأة عسكرية غير مسبوقة بالقرب من بكين، يُرجَّح أن تكون أكبر مركز قيادة عسكري في العالم، متجاوزةً وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” من حيث الحجم والقدرات. وبحسب مصادر استخباراتية أميركية، فإن هذه القاعدة، التي تُعرف مؤقتًا باسم “مدينة بكين العسكرية”، قد تمثّل حجر الزاوية في استراتيجية بكين النووية الجديدة، والتي تهدف إلى ضمان استمرارية القيادة والسيطرة في حال اندلاع حرب نووية، وسط تزايد التوترات مع الغرب، ولا سيما بشأن تايوان.
تحصين القيادة العسكرية: استثمار غير مسبوق في الحرب النووية
تقع المنشأة الجديدة على بُعد 20 ميلاً جنوب غربي العاصمة الصينية، وتمتد على مساحة 1500 فدان، أي ما يعادل عشرة أضعاف مساحة “البنتاغون”. وتُظهر صور الأقمار الاصطناعية، التي حصلت عليها “فاينانشيال تايمز”، شبكة معقدة من المباني تحت الأرض، وأنظمة تحصين متطورة، وعشرات الرافعات التي تعمل على إنشاء مجمع يمتد لثلاثة أميال.
يقول ريني بابيارز، محلل الصور السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إن الصور تكشف عن وجود أنفاق واسعة النطاق تحت المنشأة، ما يشير إلى احتمال استخدامها كمركز قيادة استراتيجي في حالات الطوارئ القصوى، أو حتى كقاعدة لمراكز قيادة العمليات العسكرية في حالة نشوب حرب نووية.
ولا يقتصر هذا المشروع على تعزيز التحصينات الدفاعية، بل يعكس تحوّل الصين نحو بناء “قدرة ردع نووي حقيقية”، وفق ما يراه دينيس وايلدر، الرئيس السابق لقسم تحليل الشؤون الصينية في”CIA” ، إذ يشير إلى أن إنشاء هذه المنشأة يعكس “رؤية الصين لعالم يصبح فيه امتلاك القدرة على النجاة من ضربة نووية أولى أمرًا حاسمًا لضمان استمرار السلطة السياسية والعسكرية”.
رسالة إلى الغرب: بكين تهيئ نفسها لمرحلة جديدة من التنافس النووي
يتزامن بناء “مدينة بكين العسكرية” مع اقتراب موعد مئوية الجيش الصيني في 2027، وهو الموعد الذي حدّده الرئيس شي جينبينغ لتحقيق “تحديث كامل للجيش الصيني”، وفرض السيطرة على تايوان إن لزم الأمر. ووفقًا للتقديرات الأميركية، فإن الصين توسّع ترسانتها النووية بوتيرة غير مسبوقة، إذ يُتوقّع أن تمتلك 1500 رأس نووي بحلول عام 2035، وهو مستوى يقارب الترسانة النووية الأميركية.
وفي ديسمبر 2023، كشفت صور أقمار اصطناعية أن الصين أزالت مساحات واسعة من الغابات في بحر الصين الشرقي لإنشاء مفاعلين نوويين يُعتقد أنهما مخصّصان لإنتاج البلوتونيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية. وتشير هذه التحركات إلى أن بكين تعمل بشكل حثيث على تطوير قدراتها في الردع النووي، بهدف امتلاك خيارات هجومية ودفاعية متكاملة.
“مخبأ يوم القيامة” : هل تعيد الصين رسم معادلات القوة النووية؟
منذ الحرب الباردة، اعتمدت الصين على منشأة قيادة سرية داخل التلال الغربية شمال شرقي بكين، لكن المشروع الجديد يشير إلى أن القيادة الصينية تعتقد بأن التحصينات القديمة لم تعد كافية لمواجهة التهديدات الحديثة، خصوصًا مع تطور الأسلحة النووية الأميركية القادرة على تدمير المخابئ العميقة.
ويرى محللون أن الصين تحاول محاكاة النموذج الأميركي في بناء مراكز قيادة عسكرية محصّنة، مثل “مخبأ جبل شايان” في كولورادو، الذي يُستخدم كمركز قيادة للقيادة الشمالية الأميركية وقيادة الدفاع الجوي الفضائي. لكن الفرق الرئيسي هو الحجم الهائل للمنشأة الصينية، ما يعكس طموحًا لبناء بنية تحتية قادرة على إدارة العمليات العسكرية على نطاق عالمي في حالة حدوث تصعيد نووي.
عصر نووي جديد: تحوّل استراتيجي أم سباق تسلح؟
يحذر الأدميرال توني رادكين، رئيس أركان الجيش البريطاني، من أن العالم دخل “العصر النووي الثالث”، حيث لم تعد العقيدة النووية تقوم فقط على “الردع المتبادل”، بل باتت تستند إلى تطوير قدرات تتيح البقاء والرد حتى بعد الضربة الأولى.
وبالنظر إلى السرية التامة التي تحيط بالمشروع، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه المنشأة مجرد مركز قيادة عسكري متطور، أم أنها جزء من استراتيجية أوسع تسعى من خلالها الصين إلى تحصين نفسها ضد أي تصعيد نووي، وربما حتى امتلاك القدرة على شن هجوم نووي أولي دون الخوف من الردع الأميركي.
وبالتالي هل تمثل “مدينة بكين العسكرية” مجرد تحصين دفاعي، أم أنها خطوة نحو إعادة صياغة ميزان القوى العالمي، بما يسرع سباق التسلح النووي في القرن الحادي والعشرين؟