أخبار العالمبحوث ودراسات

الإستراتيجية الدفاعية: رؤية شاملة تتجاوز المفهوم العسكري التقليدي

تشكِّل عبارة “إستراتيجية دفاعية” مفهوماً قد يكون مبهماً للعامة من المواطنين المدنيين، لا يشجع على الخوض في تفاصيله ومحدداته وكأنه سرٌ من الأسرار السياسية أو العسكرية، فيتم التغاضي عنه وترك الحديث عنه للإختصاصيين في مجال الأمن والدفاع، بينما هو في الحقيقة نموذج بسيط وواضح عن كيفية إعتماد السياسات في أي حكومة أو دولة، مع الأخذ بعين الإعتبار كل ما يرتبط بهذا المفهوم ويؤثر عليه.

تعني كلمة “إستراتيجيا-Strategy” (وهي مفهوم شائع أصبح مستخدماً في الكثير من القطاعات)، إستخدام القدرات والموارد، عبر طرق وأساليب معينة، للوصول إلى أهداف أو نهايات محددة. إذاً هي إطار عام تنظيمي من المفترض أن يبتغي تحقيق أهداف محددة بأفضل الظروف، أي ربما بأسرع وقت، بأقل خسائر ممكنة، وبأفضل مردود. وعند وضع الإستراتيجية يجب دراسة عدة عوامل مرتبطة بمحدِّداتها، أهمها البيئة الأمنية الإستراتيجية التي تأتي منها المخاطر والتهديدات بمختلف أنواعها واشكالها.

هناك عدة مستويات متدرجة من الإستراتيجيات، وتأتي في القمة الإستراتيجية الكبرى، أو الإستراتيجية الوطنية الشاملة، وهذه يحددها ويضع تفاصيلها وبنودها المستوى السياسي، أي السلطة السياسية الممثلة برئيس الجمهورية والحكومة. وبعد إعداد الإستراتيجية الوطنية الشاملة، ينتج عنها صياغة إستراتيجية أمنية وطنية، وتوجيه وإرشاد إستراتيجي وطني، يقدَّم للمستوى الأدنى، أي المستوى العسكري وذلك عبر وزير الدفاع الذي يكون صلة الوصل بين المستويين السياسي والعسكري. بعد أن يتلقى المستوى العسكري مستند “إستراتيجية الأمن الوطني” والتوجيه والإرشاد الإستراتيجي، يتم صياغة ما يسمى “إستراتيجية الدفاع الوطني” ويكون مسؤولاً عن إعدادها وعن تفاصيلها وزير الدفاع ومؤسسات وزارة الدفاع الوطني، وقد يعاونه ويقدم له المشورة قائد الجيش ورئيس هيئة الأركان العامة، وبالتالي فليس هناك من جهة لها الصلاحية أو مخولة بالتدخل بمناقشة الإستراتيجية الدفاعية او إصدار إرشادات أو توجيهات بشأنها سوى رئيس الجمهورية والحكومة، وليس هناك من جهة لها الحق في إصدار وثيقة “الإستراتيجية الدفاعية” سوى وزير الدفاع. وتوضِّح إستراتيجية الدفاع الوطني كيفية إستخدام القوات المسلحة، بشكلٍ يساهم في تحقيق الأهداف الوطنية بالتنسيق مع الوكالات والأدوات والأجهزة الأخرى.

بعد صدور وثيقة “الإستراتيجية الدفاعية” تنبثق عنها الإستراتيجية العسكرية، والتي تأتي كترجمة لتطبيق الإستراتيجية الدفاعية عبر الوسائل العسكرية. ويضع الإستراتيجية العسكرية (وهي مستند يصدر عن القيادة العسكرية العليا) قائد الجيش وهيئة الأركان العامة. وفي هذا الإطار تُصدر قيادة الجيش ما يسمى “خطة القدرات الإستراتيجية المشتركة- Joint Strategic Capabilities Plan” والتي تحدد وتبين كيفية إستخدام القوى العسكرية لدعم أهداف الأمن الوطني، أما ماذا تطلب وماذا تفرض الإستراتيجية الدفاعية على المستوى العسكري المتمثِّل بالجيش، فهذا هو السؤال المركزي والأهم، وهنا تكون واجبات قيادة الجيش القيام بما يلي:

1- تحديد الاهداف العسكرية النهائية التي يجب تحقيقها (عبر الهجوم أو الدفاع أو المنع أو الردع) والتي تساهم بتحقيق أهداف الإستراتيجية الدفاعية وإستراتيجية الأمن الوطني.

2- توزيع ونشر القوات والقدرات العسكرية بحكمة بما يتناسب مع المهام المطلوبة لمواجهة المخاطر والتهديدات والتفوق عليها أو إبطال مفعولها.

3- وضع الخطط التي تحدد الأعمال الممكنة للجيش (وفقاً لقدراته الميدانية) لمواجهة الأعمال المحتملة للعدو، والتأكد من صحتها وفعاليتها.

4- التأكد من جهوزية القوات على مستوى العديد والتجهيز والتدريب وقدرتها على تنفيذ المهام المطلوبة.

5- وضع برامج وخطط تسليح وتدريب تتناسب مع طبيعة المخاطر والتهديدات، ومع قدرات العدو وعقيدته القتالية. 

الطلب من المستوى السياسي عبر وزير الدفاع إيجاد الحلول والتدخُّل لتأمين مستلزمات الجيش ليكون قادراً على تحقيق الأهداف العسكرية الوسيطة والنهائية (وهنا على المستوى السياسي تأمين الموارد المالية اللازمة لتسليح الجيش وتمكينه من تنفيذ ما هو مطلوب منه، سواء كان ذلك من خزينة الدولة أو من المساعدات الخارجية، وأيضاً إختيار مصادر إستيراد الاسحلة المطلوبة والتي تحدد نوعها قيادة الجيش، حيث أن هذا الموضوع قد يخضع لإعتبارات سياسية خارجية تمنع الجيش من إمتلاك بعض هذه الانواع).

بإختصار، الاستراتيجية الدفاعية لا تصدر عن الجيش نفسه، إنما عن السلطة السياسية، ومن إرادة سياسية تحدّد: ماذا نريد أن نحمي؟ وما هي الخطوط الحمراء للدولة؟ فالسلطة السياسية تحدد الأهداف في الإستراتيجية الدفاعية، والجيش يحدد الوسائل العسكرية، فإذا كانت الإستراتيجية الدفاعية تضع أولوية في حماية حقول الغاز في المياه اللبنانية مثلاً، فيجب أن يكون لدى الجيش القدرات العسكرية البحرية والجوية المناسبة لحماية هذه الحقول، وإذا كانت الإستراتيجية الدفاعية تؤكِّد على منع العدو الإسرائيلي من دخول الأراضي اللبنانية في الجنوب، فعلى الجيش أن يمتلك قدرات صد أي هجوم برِّي، وكل ذلك يشكِّل تحديات كبيرة وعوائق مادية ومعنوية.

لذلك وبعد هذا السرد المختصر، يجب الإقتناع بأن المفهوم الحديث للإستراتيجية الدفاعية لا يتعلق فقط بالبندقية والدبابة والصاروخ، بل هناك أدوات غير عسكرية قد تكون أكثر فعالية وأكثر قدرة على حماية المصالح الوطنية ومنع الحرب، وهذه الأدوات تمتلكها السلطة السياسية وأهمها:

الأدوات السياسية والديبلوماسية:

مثل عقد التحالفات والمعاهدات الثنائية أو الجماعية، الديبلوماسية الوقائية لمنع تفاقم النزاعات، بناء شبكة علاقات ونفوذ إقليمي ودولي.

 الأدوات الإقتصادية:

تعزيز إقتصاد الدولة، تطوير الصناعات المحلية، تأمين مصادر الطاقة والغذاء كجزء من الأمن القومي، إستخدام التجارة والمقاطعة كوسيلة ضغط…

الأدوات التكنولوجية والعلمية:

الإستثمار بالذكاء الإصطناعي والأمن السيبراني، حماية البنية التحتية المادية والرقمية وقطاع الإتصالات. 

الأدوات الإعلامية والثقافية أي القوة الناعمة:

إعتماد إستراتيجية إعلام وطني لتعزيز الروح الوطنية والتعبئة وتوجيه الرأي العام الوطني والتأثير في الرأي العام الخارجي، تعزيز التماسك الداخلي، إبراز نموذج وإسلوب حياة جذاب لا يسبب النفور في المجتمع الدولي.

الادوات القانونية:

اللجوء إلى المنظمات الدولية، ممارسة الحق القانوني، العمل على إكتساب دعم الحلفاء والأصدقاء في المحافل الدولية، عدم التورط في أعمال مخالفة للقانون الدولي الإنساني وإلتزام معايير الشرعية الدولية.

حماية الأمن الداخلي والمجتمعي:

تعزيز الوحدة الوطنية وفرض القانون وهيبة الدولة، بناء مجتمع متماسك، رفع الجهوزية لمواجهة الكوارث والأزمات كجزء من الأمن القومي، مكافحة الفساد وتعزيز ثقة المواطنين بالدولة وبمؤسساتها.

لا تعتمد الإستراتيجية الدفاعية فقط على القدرات العسكرية للجيش، وهي ليست مفهوماً حربياً يستخدم السلاح فقط، بل هي مهارة وحكمة ومزيج من القوة العسكرة وقوة الدولة الشاملة، فالمستوى السياسي يقول: “هذا ما نريد حمايته” والمستوى العسكري يحدد: “هكذا نؤمن الحماية له”، والترجمة العملية في المستوى العسكري تكون بإنشاء تنظيم مناسب للجيش، مثل الإعتماد على تشكيلات القوات الخاصة ووحدات النخبة، والإبتعاد عن التشكيلات الثقيلة والكبيرة التي لا تنفع في ظروف الحرب الحديثة والتفوق الجوي المعادي، تسليح يتناسب مع العقيدة القتالية وأسلوب المواجهة المُجدي، مثل أسلحة م/د وم/ط ومنظومات صواريخ متعددة ومتنوعة، تدريب إحترافي عالي المستوى على استخدام الوسائل العسكرية في البيئة الجغرافية الوطنية، وضع الخطط الدفاعية على مستوى الوحدات الكبرى.

نأتي أخيراً إلى ما هو أهم من كل ذلك، ونقصد هنا الوعي الإستراتيجي عند المستوى السياسي، فقرار الحرب مسألة خطيرة لا يجب أن تُترك للسياسيين وحدهم، ولا يجب أن يتدخل فيها أي طرف خارجي أو داخلي لا علاقة له بمنظومة الدولة، وهنا من واجبات المستوى العسكري المشاركة في القرار لتجنب خطأ السياسيين في الحسابات، وتوقُّع ردات فعل العدو الناتجة عن أي فعل، وتقدير الخسائر المتوقع دفعها، وإجراء مقارنة منطقية لما قد يتم تحقيقه من أهداف مقابل التضحيات والأثمان التي سيتم دفعها، وإن أي جهل وسوء تقدير في هذا المجال، قد يدمر أوطان ويودي بأُمم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق