آسيا الوسطى بين نفوذ بوتين وطموحات ترمب!

إعداد سعد خلف: قسم البحوث والدراسات الاستراتجية والعلاقات الدولية 10-11-2025
استضاف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قمة “C5+1” في البيت الأبيض، يوم 6 نوفمبر 2025، بحضور رؤساء كازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان.
خرجت القمة الأولى على مستوى الرؤساء في هذه الصيغة بسلسلة تفاهمات تجارية، خصوصًا في مجال المعادن النادرة، أبرزها هو اتفاق تطوير واحد من أكبر مكامن التنجستن في كازاخستان من خلال مشروع مشترك يمنح الطرف الأمريكي حصة 70% مقابل 30% للشريك السيادي الكازاخي، في حين تقدر تكلفة التطوير بنحو 1.1 مليار دولار، وإمكانية التمويل من بنك التصدير والاستيراد الأمريكي بمبلغ يصل إلى 900 مليون دولار.
هذا المشروع يمنح واشنطن موطئ قدم في أحد المعادن الحرجة لصناعات التسليح والفضاء والطاقة، والأهم أنه يقلل الاعتماد الأمريكي على الإمدادات الصينية من هذا المعدن؛ ومن هنا يظهر البعد الجيوسياسي الذي يتحرك فيه ترمب، فهو يسعى إلى تثبيت حضور واشنطن في سلاسل توريد المعادن الحرجة، وفي الوقت نفسه يعمل على هندسة شراكات نقل برية وممرات تجارية عابرة لآسيا الوسطى، بعيدًا عن النفوذين الروسي والصيني المسيطرين في هذه المنطقة.
ترمب عمل على توظيف الظرف الراهن بعد “تهدئة” نسبية مع بكين في ملف المعادن النادرة توصل إليها خلال لقائه الأخير مع شي جين بينغ في كوريا الجنوبية، والتقط ترمب بهذه الخطوة فرصة جيدة لدعوة قادة العواصم الخمس إلى واشنطن، وتوصل معهم إلى هذه التفاهمات.
النظر إلى هذه القمة من الزاوية التي تناولتها أعلاه يجعلنا نقرؤها في سياق سعى واشنطن إلى تجاوز الصين، وخفض الاعتماد عليها في معادن نادرة وحرجة، لكنها تأتي -في رأيي، وبلا شك- في سياق تنافسي مفتوح مع موسكو في فنائها الخلفي التاريخي، ومسرح نفوذها التقليدي، فمنطقة آسيا الوسطى على الدوام تأتي على رأس قائمة الأولويات في الوثائق المفاهيمية للسياسة الخارجية لروسيا منذ أن دخل بوتين الكرملين.
اللافت في هذا السياق أن وزارة الخارجية الأمريكية بقيادة ماركو روبيو دفعت خطابًا مؤسسيًّا عن ضرورة توسيع الشراكة الأمريكية مع خماسي آسيا الوسطى بمناسبة الذكرى العاشرة لصيغة “C5+1″، وهو خطاب يأتي عقب تسريبات -وليس معلومات محققة- أن مكالمة لافروف روبيو الأخيرة هي السبب المباشر في فشل عقد قمة بوتين- ترمب في بودابست، وأن روبيو هو أكثر أعضاء إدارة ترمب تشددًا تجاه روسيا، وأن هذا قُدر كفشل للافروف؛ ولذلك غاب عن اجتماعات مجلس الأمن الروسي المهمة الأخيرة بشأن تطورات العلاقات مع واشنطن على خلفية تصعيد لغة الخطاب النووي، والوضع في أوكرانيا.
لذلك يمكن اعتبار انعقاد هذه القمة في البيت الأبيض مسعى أمريكي لإعادة رسم خريطة التوازنات في آسيا الوسطى على نحو عملي، فللمرة الأولى -كما أشرت أعلاه، منذ تأسيس هذه الصيغة عام 2015- يستضيف رئيس أمريكي القادة الآسيويين الخمسة في واشنطن. ووفقًا للتفاهمات التي خرجت بها نستطيع أيضًا القول إنها لم تُعقد لمجرد أغراض رمزية.
وما يدفعنا إلى قول ذلك هو تصريحات ترمب الصريحة -على طريقته المباشرة غير الخجولة- “آسيا الوسطى منطقة غنية جدًّا بالموارد. والولايات المتحدة تريد أن تكون شريكها الإستراتيجي في استغلال هذه الثروة”. وهذا خطاب يعلن -بوضوح- ما يمكن وصفه بنهاية مرحلة الإهمال، أو لنقل التجاهل الأمريكي لهذه المنطقة، وبداية مشروع اقتصادي موجه ضد روسيا والصين معًا.
واللافت أيضًا في هذا السياق تناغم الفعل المؤسسي الأمريكي، والترتيب الترمباوي العميق، فقبيل الاجتماع قدم الكونغرس مشروع قانون لإلغاء “تعديل جاكسون- فانيك” المفروض على دول آسيا الوسطى منذ الحقبة السوفيتية، وفي هذه الخطوة إشارة إلى استعداد واشنطن لفتح تجارتها واستثماراتها مع المنطقة على نطاق واسع.
أما ماركو ربيو، الذي يبدو أنه يقود هذا المشروع الأمريكي الجديد، فتحدث عن “فرصة جديدة تتطابق فيها المصالح الوطنية للطرفين”، أي واشنطن وخماسي آسيا الوسطى. روبيو أكد في تصريحاته أن التركيز في العمل سينتقل من إدارة الأزمات إلى الاستثمار في الموارد. أما ترمب فكعادته وجّه اتهامات لاذعة إلى أسلافه وسابقيه من الرؤساء الأمريكيين بأنهم “تجاهلوا المنطقة”، وأعاد التأكيد مجددًا أن المعادن النادرة واليورانيوم والغاز ستكون هي محور العلاقات الجديدة.
بالطبع مع الحكم على أن النتائج المعلنة للقمة تجاوزت الطابع السياسي، فإن هذا التحرك الأمريكي جاء -بلا شك- في سياق تنافسي مع موسكو وبكين، فحجم التبادل التجاري لدول آسيا الوسطى مع الصين تجاوز 94.8 مليار دولار بنتائج عام 2024، ومع روسيا 45 مليارًا، في حين لا يتعدى مع الولايات المتحدة 4.2 مليار.
الكرملين -وفقًا متابعتي لرد فعله على هذا الحدث- اختار أسلوب التعامل الهادئ، فالمتحدث الرئاسي دميتري بيسكوف قال إن روسيا “مرتبطة مع دول آسيا الوسطى بعمليات تكامل متطورة ومتنامية في إطار رابطة الدول المستقلة والاتحاد الاقتصادي الأوراسي”. وعلق بلغة دبلوماسية إن “من الطبيعي أن تنفتح هذه الدول على شركاء آخرين”.
لكنه في الوقت نفسه ذكّر بأن موسكو تمتلك صيغة خاصة بها مع خماسي آسيا الوسطى هي صيغة “روسيا- آسيا الوسطى”، التي تعقد اجتماعاتها المنتظمة، وهذا الكلام يوحي بالطبع بأن الكرملين لا يرى الحضور الأمريكي -على الأقل حتى هذه اللحظة- تهديدًا مباشرًا؛ ولكن ظاهرة يجب مراقبتها، والأهم تطويقها اقتصاديًّا.
هذا الخطاب الرسمي الروسي يخفي مع ذلك -في رأيي- قلقًا متزايدًا، خصوصًا من وحي ما قرأته من تعليقات الأوساط التحليلية الروسية المعنية بهذه المنطقة، فقد تشكل لديّ انطباع بأن هناك قراءة موحدة لهذه الخطوة الأمريكية تشير إلى أن واشنطن، نعم، لا تسعى إلى إقصاء موسكو فورًا، لكنها تؤسس لتآكل نفوذها الاقتصادي على المدى المتوسط من خلال التمويل الذي سوف تضخه، والتكنولوجيا التي ستدخلها، وطبعًا التجارة الحرة.
وموسكو -في رأيي أيضًا- تدرك أن القوة الأمريكية في هذا السياق لا تكمن في حجم الاستثمارات فقط، فهي ما زالت صغيرة الحجم، ولكن في قدرة واشنطن على إدماج العواصم الخمس داخل شبكة مالية غربية خارج النظام الأوراسي الذي يقوده بوتين منذ دخوله الكرملين.
وفي هذا السياق، فإن فقدان موسكو موقعها كوسيط إلزامي في تدفقات الموارد عبر آسيا الوسطى، سيضعف بالتبعية قدرتها ضبط التوازن الإقليمي في هذه المنطقة، كما هي الحال الآن.
وبناء عليه يبقى الرد العملي الذي يجب أن تتخذه موسكو على الخطوات والمساعي الأمريكية؛ أن توسّع -بسرعة- صلاحيات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لتشمل قطاع التعدين والمعادن الحرجة، فضلًا عن ضرورة إنشاء صناديق استثمار سيادية مشتركة مع كازاخستان وأوزبكستان لمنافسة التمويل الأمريكي؛ لأن السياسة الواقعية لموسكو في هذا الاتجاه تصبح ما يعرف في العلاقات الدولية بمصطلح “إدارة التآكل”، بمعنى الحفاظ على أقصى قدر ممكن من الاعتمادية الاقتصادية لهذه الدول على روسيا، بدلًا من السعي إلى استعادة الهيمنة السابقة.



